قراءة في عتبات ” هذيان الحطب للشاعرة السورية ” ريم البياتي “
عبد الله علي شبلي | ناقد من المغرب
هلوسات ذات يانعة ، حينما توقد نار الاحتراق في جسد من طين لازب
مقدمة:
لعل الهذيان يكون مجديا حين يكون منتجا ، حين يفرخ ، بل يثمر وصولا إلى مراقي المعرفة ، واستكناه أسرارها ، فيتحقف بهذا المعنى نيل البغية ومراد التمني.
هنا يحق لنا أن نتوقف عند الهذيان بدلالة تشكل نقيضا لما يراه العامة ، حيث تصطبغ الكلمة بصبغة مختلفة ، فتكتسي انزياحا في دائرة التفلت والتمنع ، بل وتعانق دائرة الزئبقية التي تسم الشعر وتتوسمه أيضاً.
الهذيان ليس أبداً ، والحالة هذه ، منقصة ولا مذمة ، ولا عيباً يلتصق بذاكرة ممهورة بالخواء والخور ، لكنه يحيل على ارتقاء الهذيان ، ليصير من المراقي التي لا تحصل إلا لذي قريض ، فيتوازي حينها مع الإبداع ، فيستوي غايته المثلى ، مطلبه ومسعاه.
ولعله من أبجديات المعرفة ، أن نقول ونقرر أن الإبداع لا يرتقي ولا يصل منيته بدون الخيال الواسع الذي يضرب الآفاق جيئة وذهابا ، باحثاً عن سموق المعاني وشموخ المبادئ ف” الخيال هو فضاء الشاعر الحر ، الفضاء الذي يحقق له رغباته في الوهم “* 1. وما الإبداع ، في حقيقة أمره شئنا أم أبينا إلا هذيانا بشكل من الأشكال ، لذلك فما أكثر الهذيان المحموم الذي أثمر إبداعا لا نظير له ولا شبيه ، وما حمى المتنبي عنا ببعيد ، أ لا يستيقظ المبدع في أجواف الليالي ، ليخط هذيانه أو أحلامه ومحمومياته ، فيربط كتابه ، ويوثقه رسما ، كي لا يهرب عنه ساعة تعقله واغتساله بماء اليقظة ؟
- تقليدية الحطب بين مآرب الحاجة وثقافة البذل والجود:
لاشك في ارتباط ” الحطب ” الرمز بثقافة متجدرة في عروبة الصحراء ، فلا نار بدون حطب ، وأمام رمزية ” النار ” وربطها بالنور والمعرفة والهدى وغيرها من القيم ، فقد يتوارى الحطب إلى الخلف تماما ، كونه هنا وسيلة لا غاية.
ومن وجهة نظر أخرى مخالفة ، تنظر إلى الأمور بمنطق مختلف ، استحضارا لعتبات التلقي بمنظور ” روبرت ياوس ” الذي يعد استباقا معرفيا لتلقي النص ، يحق لنا تحت شرعية ابستيمولوجية خالصة أن نطرح سؤالاً آخر ، يستتبع ما سبق: أ لا يكون حطب النار ذاته ضحية جاءت بها العنونة ، لتوقد النار من أجل شيء آخر غير تحصيل المنفعة ؟
وفي سياق متصل بتحصيل المنافع ، كما اعتاد العرب إشعال النار طلبا للتدفئة ، فقد اشعلوها أيضاً دفعا للجوع ومحاربة للمسغبة ، بل وتوقد أيضاً ترحيبا بالضيف وإرشادا للضال ، ولعل حاطب الليل لا يكاد يميز بين أخضر ويابس – شأنه في ذلك شأن المتكلم الذي لا يعي ما يقول، بين أفعى و غصن شجرة تالف تبرد واكتسب نداوة وطراوة ، فهو يجمع ولا يكاد يميز بين صالح وطالح ، هكذا الكلام يغدو مستنبتا في مشتل يومي لما يعيشه العربي في حياته الرتيبة في تعالق مفروض بين البنية اللغوية والبنية الاجتماعية .
ألا يحق لنا أن نسأل أيضا بطريقة مخالفة: كيف يجمع الهذيان بالحطب ؟ أو كيف يجتمعان هنا قصدا ، في عتبات الديوان الموسوم ” هذيان الحطب ” ؟ أو لنقل بتعبير آخر أكثر دقة وطلبا للتفصيل : من الذي يهدي ؟ ومن الذي يحتطب ؟
وفي محاولة للإجابة عن هذا السؤال ، ورغبة في قراءة إسقاطية أقول: حقا إن الهذيان هنا بلاشك ولا مواربة ، لن يكون إلا شعرا بياتيا (نسبة إلى الشاعرة طبعا) ، هذا الشعر نفسه ، قد ينظر إليه البعض نظرة تجعله كلاما في أوراق ما يلبث أن يمحو ويزال، هلوسة ليل يمحوها نهار. وفي منظور آخر – وهو الأقرب معرفيا إلى المتداول النصي – يوسم عند البعض الآخر بالإبداع الراقي ، الذي يسوق أنموذجا، يشق طريقا رفيعا لمبادئ سامية تنثر حروفا رائقة ، تبتغي نبلا ، تنشر حباً وعدلا، تجسد موقفا من الذات من الحياة ومن الآخر ، وإن تمترست ايديولوجيا وهذا لا عيب فيه، تتخذ تموقعا من على ربوة معينة.
لتومض بريقا أو ترسل برقا قاصفا ، ولعله يغدو مفرقعا ومدويا ، حين يستحضر أنات الجوعى، وصرخات الفجع وتأوهات الوجع ، فقرا وظلما وحرمانا ، تبعا لتنامي حروف القصيد البياتي ، وتناسل مرامي حروفه داخل الديوان – الرسالة.
وفي هذه القراءة الأخيرة ،أجدني أتقاطع مع ” باختين ” ، بل يغدو التقاطع مفروضا وإجبارا في مقولته المشهورة ” حيث توجد الدلالة توجد الايديولوجيا حتما ” .
واستتباعا لما سبق أن أثير حول ” هذيان الشاعرة ” ، أطرح سؤالين آخرين أولهما: هل يستنكر الهذيان الشعري الواعي ما يجمع من حطب ليحرق ، من أجل أن يتدفأ به الآخر، فيغدو ما يحرق ضحية جشع ، أو وسيلة طمع تغدي حقدا دفينا على الآدمية ، على الانتماء ، على الهوية، أو حتى حسدا أو نقمة وتشفيا ،على التمترس والتخندق والايديولوجيا ؟
وثانيهما: هل يصبح الهذيان الشعري وقوفا مطولا ومنوعا ، بطول القصائد وتنويعات تشكيلها وبناها وصورها ، استحضار لما يحتطب (بضم الياء) ومن يحتطب ( أقصد الفاعل) وعلة الحطب ؟
والحالة هنا مع السؤالين السابقين ، لن ينتج الوقوف إلا اعتبار الحطب فعلا مشينا ، لأنه لا يقدم غاية الحطب المثلى عند العرب ، باعتباره ينتج ناراً دالة وهادية ، منارة ترشد الجائع والتائه وذا الحاجة إلى حيث الرفد والزاد والأمن والسكن النفسي ، وبذلك تجعل الإنسان يتعالى على الحطب خشبا ، ويتسامى على لغة الخشب ، ولا يتساوى به أبدا ، بل يتسيد ، حيث يغدو سيدا ، ينشر قيم النبالة والكرم الحاتمي .
وتوازيا مع المنحى ذاته ، ونحن نستحضر سيميائية المعنى المرتبطة بـ ” نورانية المعرفة ” وعلاقتها بالنار المشعة التي تمحو ظلام الجهل ، وظلمة العالم الهمجي ، التي لن تأتي تقليديا ولغويا أيضاً إلا بالحطب ، لا بالاحتطاب *2،
فعلاقة الاحتطاب بالافتعال تجعل الفاعل لا يعرف بغية الحطب ومزيته ، وإنما يشعل ناره وقتما شاء وكيفما شاء وبأي شيء شاء ، فيصير بهذا المعنى تعديا وتجاوزا لحدود المألوف الذي طبع الله عليه الأشياء ، وأصلح عليه أمر الليل والنهار.
وبهذه القراءة الأخيرة ينضج خبز العنوان، وتتخمر خميرة علائقه، مبدية سفور أطروحة الشاعرة ، كاشفة خندقة العنوان وتفخيخه المبطن ، فهو ليس كالعناوين السهلة: أحصنة مسرجة مروضة