ريم الخَشّ والتعتيم الرمزي في الشعر الأنثوي

عبد الله جمعة | شاعر وناقد مصري يقيم بالإسكندرية

المرأة كائن إنساني يمتلك حرية التعبير عن نفسه وليست في حاجة إلى رجل ليعبر عنها وعن دقائق تفاصيلها الشعورية , فمنذ نشأ التعبير عن الذات وكان الرجل يتولى زمام التعبير عن المرأة وتتوارى هي خلف ستار ما يجود به الرجل من تعبيرات عُدَّتْ مهينة للمرأة , فكان الرجل دائما ما يظهر منذ عهد الأساطير الأولى في صورة البطل المحارب والغازي , حتى الآلهة قديما فكان زيوس كبير الآلهة على قمة البانثيون بطلا للسلب والنهب وهو المثل الأعلى الذي يستوحيه الرجال في حين ظلت المرأة في تلك الأساطير خاضعة مستسلمة راضخة لا تملك من أمر نفسها شيئا ولما تجسدت المرأة في صورة إلهة في الأساطير القديمة كانت أيضا تمثل الخضوع والخنوع والضعف ؛ فهذه (هيرا) برغم لسانها السليط وتلك (أرتميس) برغم من قيامها بدور إلهة القنص, ثم (أثينا) برغم أنها كانت واحدة من ربات البانثيون اللاتي يخضن الحرب كالرجال.

لقد فرض الخضوع على المرأة حتى تقبلته البشرية وتقبلته المرأة ذاتها كبديهة طبيعية للغاية … وقد رسخت ذلك الأساطير والملاحم والمسرحيات وكذلك القصائد الغنائية عبر العصور إذ أصبح من الطبيعي والمعتاد أن تعاني المرأة أكثر مما يعاني الرجل قسوة المعاملة وقهر النظم على أساس أن تركيبها البيولوجي قد حدد لها وضعا ثانويا ؛ إذ أصبحت الأنوثة تابعة للرجولة بل وأصبحت أنوثتها عائقا أمام كيانها الإنساني .

لقد ظل هذا الوضع الأنثوي سائدا عبر القرون حتى اكتشفت المرأة أنه لن يقوم بالبحث عن ذاتها سوى ذاتها وأن عليها أن تخوض حربها بنفسها وبدأت بالفعل حركات تحرير المرأة في أواخر القرن التاسع عشر خاصة مع التيار المواتي الذي صنعه الكاتب المسرحي النرويجي (هنريك إبسن) بمسرحيته الشهيرة ” بيت الدمية ” عام 1879 والتي جسدت فيها بطلته (نورا) أول ثورة عقلانية للمرأة ضد زيف الرجل وبطشه وخداعه , ثم حمل (برنارد شو) الشعلة من بعده الذي تبنى نظرية ” المرأة الجديدة ” ذات القدرة على المبادرة الإيجابية وصنع مصيرها بإرادتها .

ولكن الأمر حتى هنا لم يعدُ مجرد منحة من الرجل أيضا فالرجل هو الذي يمنح المرأة الحق في تحقيق ذاتها , ولكن الرجل مهما بلغ من تحرر عقلي لن يستطيع أن يدخل خلجات الأنثى ليعبر عن ثنايا تطلعاتها , فأين المرأة إذن ؟

وفي أعقاب الثورة الشبابية ضد ( شارل ديجول ) تلك الثورة التي أجبرت ديجول على الاستقالة وظهرت المرأة كعامل فعال في تلك الثورة بدأت المرأة تعبر عن نفسها من خلال الأدب والمسرح وأعلنت تمردها على الأديب الرجل الذي لم يكن يرى فيها سوى الجسد والمتعة حتى وإن جسدها في صورة المعشوقة المعبود ورفعها لدرجة المعشوقة المثالية إلا أنه لم يكن ليخرجها من إطار الملامح الجسدية التي يرضي على أعتابها غروره الذكوري دون أن يرى فيها ثنايا الأنثى الكامنة التي هي في حاجة إلى التعبير عن نفسها وعن خلجاتها وعن حقها الذي ظل كامنا ينتظر من يفرج عنه فيمارس دوره الفعال في طلب الحياة كالرجل تماما … لم تعد المرأة ذلك الجسد المستسلم للرجل يصف مفاتنه ومحاسنه بل أصبحت من حقها هي أن تقف لتعلن عن نفسها وعن نظرتها الأنثوية للرجل متساوية مع الرجل الذي يعلن في أدبه عن نظرته الذكورية للمرأة

لم يعد إذن التغني بسحرها وجمالها سوى خلق أسطورة مزيفة توحي للمرأة بأنها معبودة الرجل في حين أنه يستعبدها جسدا وروحا , وهي الفكرة التي قامت (ناعومي وولف) بتحليل أبعادها في كتابها ” أسطورة الجمال ” 1991 الذي أردفته بكتاب آخر بعنوان ” ليس عليك سوى أن تفعليها ” 1994 لتؤكد أن الحركة النسوية ليست ضد العلاقة الجنسية إذا كان زمام المبادرة في يد المرأة , لكنها تشجبها إذا استخدمها الرجل مجرد وسيلة لإشباع رغباته وغرائزه وحده.

وتلك الحركة النسوية قد وجدت أنه من الصعب الدخول في معترك السياسة أو المعترك الاجتماعي لغرس تلك القيم بمفاهيمها الجديدة لذلك فقد اتجهت هذه الحركة إلى مجال الأدب لتعلن عن نفسها اختيارا للطريق الأسرع إلى التأثير على العقل المجتمعي ومحاولة دفعه إلى تقبل ذلك المنطق الأنثوي الجديد

وبدأت المرأة تنظر لنفسها فخرجت ناقدات تُنَظِّرْنَ للأدب الأنثوي على رأسهن (ماري إيغلتون) عندما نشرت في عام 1922 كتابا لها بعنوان “النقد النسوي الأدبي” والذي أكدت فيه على ضرورة أن تبدأ الحركة النسوية بهدم النظريات السابقة لتقيم نظريتها هي عن نفسها فهي الأدرى بثنايا ومنعطفات روحها ومتطلباتها ورغباتها ومن ثم فهي الأولى بالتعبير عن ذاتها.

ثم جاءت الروائية الإنجليزية (فرجينيا وولف) بروايتها ” حجرة لشخص واحد ” عام 1922 لتعلن أنها قد وضعت يدها على مواضع القهر والإحباط والضياع التي تعانيها المرأة وبذلك فقد كانت (فرجينيا وولف) من رائدات توظيف الأدب لخدمة الحركة النسوية حين قدمت نقلة نوعية في قضية الإفصاح عن الأنثى إذ لم يعد الرجل هو المتكلم عنها والمفصح عن حقيقتها وخواصها

لقد ظلت المرأة خائفة مرتعدة لا تستطيع التعبير عن طياتها طيلة قرون ممتدة فتقول في ذلك (إيليشيا أوسترايكر) في كتابها ” عندما تكتب المرأة ” 1991 : ” إن الإحساس بالرهبة والخوف يسيطر تماما على أسلوب الإنجليزيات وأعمالهن التي تتسم بالجبن والتكتم وتتساءل في روايتها ؛ لماذا اضطرت (آن إيفانز) المرأة إلى أن تغير اسمها باسم رجل ( جورج إليوت) حتى لا يعوق اسمها المؤنث إبداعها الروائي ومع ذلم لم تنس أنها امرأة مما شكل عائقا أمام إبداعها الأدبي”

إذن لقد نجحت المرأة أخيرا في أن تعبر عن ذاتها الدفينة من خلال الأدب النسوي ولكن هذا على مستوى المحيط العالمي وأما على مستوى المحيط الشرقي فما زالت المرأة العربية تمارس عملية “التعتيم الرمزي” لتمرر ثنايا نفسها من خلال ذلك التعتيم وإن كان الكثير من نقاد مجتمعنا الشرقي يهاجمون حتى هذا اللون من التعتيم على الرغم من أنه تعتيم وترميز لم يصل إلى حد الإفصاح والإبانة.

ربما لطبيعة الشرق التي ترتكن إلى “نظرية الحياء” التي لم تُصِب الرجل بقدر ما أصابت المرأة … ومن الشواعر العربيات اللاتي تجرأن لمجرد دخول دائرة ” التعتيم الرمزي ” الشاعرة (ريم الخَشّ) فدخلت بنصوصها ذلك الحيز وغيرها شواعر أخريات ولكن ريم الخش دخلت ذلك الحيز في القالب العربي الرصين وغيرها من شواعر هذا الضرب من التعتيم الرمزي قد دخلن من باب النص الحداثي المتحرر من قيود الفن العربي وهذا ما يميز ريم الخش عن غيرها من شواعر هذا اللون من الشعر إذ التزمت أصالة الشكل النصي العربي من خلال حداثة المضمون مما يؤكد عدم قصور الأداء الشكلي العربي الأصيل عن مجاراة كل المضامين الحداثية. ففي أبيات لها نشرت بصفحتها على الفيس تقول:

أضرمتَ فيَّ اللظى من ثغرِكَ النَّهِمِ

أرسلتني أزلًا في مركبِ العدمِ

يا هولَ لذتها يا هولها رغدًا

كالطير تأخذني نرقى إلى القممِ

أطلقتُ أحصنتي في النشوةِ اعتَمَرَتْ

خمرٌ مشاربها كالخلد كالحُلُمِ

فاضتْ مراكبكم شوقًا لنا اتسَعَتْ

غرقى وشاطئكم يزدانُ بالنعمِ

يا نفسُ غَنِّي الهوى يا نفسُ فابتسمي

ثغرٌ له شَغَفٌ في الحبِّ فاقتَحِمِي

إنها اللحظة الفارقة التي يقف العاشقان على أعتابها استعدادا لخوض غمار معركة النشوة الكبرى تجسدها الشاعرة بدقة في غاية البراعة فمعركة النشوة تستهل وطيسها مع ظهور قوة وشراهة ذلك الثغر الذي جعل من الأنثى كل شيء في اللاشيء وتلك هي المفارقة الداهشة في تصوير ريم الخش فاختلاقها في الوجود كائنا أزليا أشعرها بأنوثتها إنما تَوَلَّدَ من دخولها حيز العدم داخل دائرة معركة النشوة التي تصل بها حد الهول الصاعق بما تحمل تلك اللحظة من لذة يحيطها رغد النعيم المقيم الذي يتحول من لحظة آنية إلى وجود أزلي لا يظن من يعايشه أنه سينتهي من شدة اللذة ليتسلق كلا العاشقين جناح معشوقه ليطير عبر أجنحة السحاب محلقا فوق العالم بآلامه وآماله وأحماله وأثقاله لتتحول حلبة الصراع إلى ما يشبه الخيل التي تصهل منطلقة وقد أسكرت خمرا فراحت في عالم الحلم الفسيح الذي لا نهاية له والذي يخرج عن نطاق المادية التعسه إلى المجرد المعنوي غير المحدد بحدود توقف انسياح موجات اللذة اللانهائية ثم السعادة الممزوجة بألم انقضاء اللذة والرغبة في عدم الخروج من هذا العالم السحري الذي ما خلق إلا ليكون عالما فوقيا لا يمت للعالم الأرضي بصلة.

ولكن ريم الخش أدارت تلك المعركة النَّصِّيَّة بمنتهى البراعة حيث فعلت كمن يسير على الحبل فلا هو سقط يمينا ولا هو سقط يسارا بل سار على الحبل خفيفا رشيقا فلم تفصح عن دائرة الحدث بصورة فجة مُنَفِّرَة ولم تغمض دائرة الحدث حتى تجعلها موغلة في الرمزية … فعاش المتلقي دراما الحدث الشعري لا هو مغمض عليه ولا هو سافر يكشف تفاصيل معركة النشوة تلك .. فتقبلها المتلقي قبولا حسنا غير ساخط وغير شاعر بإبهام الحدث الشعري.

لقد استخدمت ريم الخش أدواتها بمنتهى البراعة والإتقان وأهمها أنها مارست عملية الترميز لتحقق التعتيم لا الإبهام فهي تعتم على الحدث الدرامي الشعري لتجعله موحيا مُلَمِّحًا ولا تغمضه فتجعله مبهما خافيا.

أضرمتَ فيَّ اللظى من ثغرِكَ النَّهِمِ

أرسلتني أزلًا في مركبِ العدمِ

” أضرمت – اللظى – الثغر – النهم – أرسلتني – أزلا – العدم ” كل تلك رموز وإسقاطات على دراما الحدث الشعري فـ (الإضرام) حقق لحظة الإقدام على معركة النشوة , و(اللظى) أوحى بعنف الشوق وانسياقه وراء رغبة دخول الحدث الدرامي و( الثغر) أداة الالتهام والجذب و(النهم) رمز شدة الرغبة وبداية دخول دائرة غيبوبة معركة النشوة ثم (الأزل) ودخول حيز الخلود من خلال ( العدم ) بانطلاق غايات التبدد والتلاشي.

إن هذا البيت كان مستهلا حسنا إذ جسد للمتلقي غاية النص وهو وصف ذلك الحدث الدرامي الشعري الذي يعكس واقعا حسيا يعايشه كل من عاشه وانتشى من خلاله فقد حققت الشاعرة ملامح عبور دائرته دون إسراف وتبذير ودون اختصار وتبديد حتى أنه قد مثل أمام مخيلة المتلقي وهو واضح جلي لكنه على ذلك لم يجد إسرافا يصيبه بوجل أو خجل أو نفور

يا هولَ لذتها يا هولها رغدًا

كالطير تأخذني نرقى إلى القممِ

إن الهول لغة هو الإتيان بفعل عظيم خارق فوق المعتاد يحملها إلى فعل عظيم آخر فوق المعتاد فاللذة هول تحملها إلى الرغد الهول الآخر , وهو أيضا بمعنى تَزَيُّنِ المرأة بزينة اللباس والحلي كاملة استعدادا لمناسبة عظيمة فجاءت اللفظة موحية أشد الإيحاء فـ (اللذة) فربما تحولت اللذة إلى هول إذ هَوَّلَتْ باللذة أي تسربلتها وجعلتها لباسا ورداءً تتحرك فيه إلى رداء أكثر رحابة هو رداء الرغد والنعيم.

وسواء أكان المعنى هو هذا أو ذاك فقد حملت هي إلى قمم النشوة فوق جناح ذلك الطير الذي احتملها إلى أعلى الغايات

إن ما عبرتُ عنه وأكثر تحمله تلك الكلمات المعدودة المحدودة في هذا البيت ولكن التعتيم الرمزي قد جعلها موحية مرتدية رداء الإيهام لا الإبهام فَعِيْشَ الحدثُ دون إسراف أو إسخاف

أطلقتُ أحصنتي في النشوةِ اعتَمَرَتْ

خمرٌ مشاربها كالخلد كالحُلُمِ

فمهما حاولت المرأة التعتيم أو إظهار النفور الظاهري من تلك اللحظة – لحظة معركة النشوة – إلا أنها في تلك الدائرة تحديدا ومع رجل يحسن إعادة صياغة أنوثتها فإنها تنطلق بقوة لا تدانيها قوة إلى إدراك قصب السبق لأنها قد دخلت في سباق معه نفسها ومع الزمن ومع من تحب لإدراك غاية الحدث ثم جاءت بلفظة (اعتمرت) لتحقق بها غاية الانتشاء وشدة التصارع من أجل بلوغ الزهو الروحي فتلك الأحصنة قد اعتمرت في النشوة , واعتمرت كما ورد في المعاجم ليست بمعنى أداء العمرة فقط لكنها تعني ” اعتمار الشيخ عمامته ” إذا تعمم بها وإذا تعمم الشيخ فقد أكمل زينته وأتم غاية استعداده للقيام بمهمته إذا كان سيهم بأمر عظيم ما وأظن أن الشاعرة قصدت إلى هذا قصدا بليغا فقمة النشوة الأنثوية تتعمم استعدادا للقيام بأمر ما عظيم سيحدث خلال تلك المعركة التي هي معركة النشوة الكبرى وغاية مراد الأنثى ونافذتها نحو الحياة الرغدة ومسوغ الخلود المعنى لها

فاضتْ مراكبكم شوقًا لنا اتسَعَتْ

غرقى وشاطئكم يزدانُ بالنعمِ

إنها اللحظات الفارقة لحظة التقاء المراكب بالشطآن وكلاهما يجزل العطاء للآخر فهي لحظة العطاء السخي الذي لا بخل فيه ولا ضنين فالمراكب تفيض بما حملت من بضاعة الشوق والشطآن تفيض بما أغدقت على المراكب من أمواج اللهفة لتطيب المراكب بين الشطآن وتنعم الشطآن برسُوِّ المراكب بين شطآنها الحانية.

تعبير إن وصف بغير تلك الطريقة للاقي استهجانا عند الكثيرين ولكن الشاعرة نجحت أيما نجاح في التعتيم عليه برمزية فريدة جعلت من ذلك الحدث الدرامي حالة تعايش سرا بين القارئ والنص فأحدهما لا يفضح الآخر فالنص يتسلل إلى خيال المتلقي مرتديا رداء التعتيم والمتلقي يتسلل إلى دائرة الحدث غير شاعر بجرأة الوصف فلا تفصيل مسرف ولا تعتيم مجحف.

يا نفسُ غَنِّي الهوى يا نفسُ فابتسمي

ثغرٌ له شَغَفٌ في الحبِّ فاقتَحِمِي

فماذا يحدث إن حصل الجائع على مبتغاه والظامئ على مُرْتَوَاه ! لا يملك إلا الغناء إحساسا بالتنعم الذي عاشه للحظة تحولت بمدلولها على ذاته إلى حياة

رائعة أنت يا ريم حين تدخلين ذلك العالم بجرأة تُحْسَدِيْنَ عليها متسلحة بأسلحة التعتيم الرمزي الذي يغلف حدثك الدرامي الشعري ليجعل منه صورة درامية راقية التعبير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى