يا ليث بغداد.. قم من سباتك وجرّ الفيافي إلى نبعنا.. علّ ” ربيع الثورات ” يخضرّ فينا

محمد المحسن | تونس
علمتنا عروبتنا ونحن صغار كل ما في الشهامة من فضل وما في الكرامة من إخلاص فظللنا متشبثين بعادات أجدادنا نرفض الإهانة ولا نقبل المساومة في الكرامة، حتى حلّ زمان أصبحنا فيه – غزاة مدينتنا – نتقاتل بالظفر والناب دون أن نعي بأننا أشرفنا على هوة الضياع وغدونا منها على الشفير حيث لا شيء في عمق الهاوية غير الأسى وصرير الأسنان..
من أين جاء كل هذا الخراب؟ وكيف صيغت أقدارنا وأرتسمت خطا مستقيما من حديقة البيت الأبيض إلى ساحة الفردوس في بغداد.!؟
ويظل السؤال حافيا عاريا ينخر شفيف الرّوح.. ا
الخطب هذه المرّة مؤلم وفجيع.. يلقي أزيز الطائرات بلون رمادي مالح على صدر بغداد وتستحيل عاصمة الرشيد إلى ركام وظلام وروائح موت تنتشر عبر الأنقاض ويلتهب في داخلي-ثانية- سؤال لجوج قبل أن أنهمر بغزارة مؤلمة: من أين جاء هذا الخراب؟!
كل شيء استحال خواء.. لا مصير ونهاية ولا بداية.. إنّه الخراب، في الأثناء كان على .ب52 أن تسدّ الفجوة بين الإستحقاقات الأمريكية الخالصة وانتروبولوجيا الكبرياء العربي.. وفي الأثناء كذلك لا حاجة بأحد إلى -طائرات الناتو- وهي تقصف بوحشية عاصمة عربية تنتفض على – مغتصبها – بتحد.. وجسارة..
المؤلم هنا أنّه ما من أحد يفسّر السعي الأداتي المتقن للضمير العربي إلى تحويل جراحنا الغائرة إلى أشكال هندسية داخل المشهد الجغرافي -السياسي لمنطقة الشرق الأوسط.. مجرّد أشكال هندسية قابلة للترتيب والبعثرة والتلوين أمام أية فضائية..!!
من -شهداء فلسطين- إلى أرقام أخرى في سجلات معتقل أبي غريب.. إلى الرصاصة الأولى قبل سقوط بغداد.. إلى تل الزعتر، إلى بيروت 82، إلى حديقة البيت الأبيض وسلام الشجعان..إلى طائرات الأباتشي تفترس الرضع.. إلى “خريطة الطريق” تجرف مديح الظل العالي..إلى تونس التحرير تحمل بين أحضانها شهداءها الأبرار وتسير بهم خببا في إتجاه المدافن..
من بعد يهمه؟ ومن لديه تفسير نوعي لهذا الخراب في هذا الهزيع الأخير من كل شيء؟
ربّما لا أدري إن كنت أبحث فعلا عن إجابة وأنا أراجع بطولات رموز التاريخ ممن سلكوا درب الحرية من الأبطال والشهداء منذ فجر الإنسانية: صدام حسين، عماربن ياسر، عمر المختار، يوسف العظمة، شهدي عطية، صلاح الدين الأيوبي.. بل إنني منذ تراكم الخيبات صرت لا أعلم إن كانت أصوات عظام الرجال من أمثالهم تصل إلى مواقعها في الوجدان العربي!؟
لأكون صادقا أقول أنني الآن، وأنا غارق في عجزي أحسّني على حافة ليل طويل، بهيم، ولا أستطيع أن أعزّي النّفس بأنني أنتظر فجرا أو قيامة..
أحاول أن أنبجس من ركام مواجعي، هذه المواجع التي حملتها على كتفي عبر عقود عجاف دون أن أنسى شغفي بفلسطين التي ألهمتني معاني العزة والكرامة والصبر على الآذى حتى الإنتصار عليه..
أحاول اليوم وأنا أحتفي كغيري من أبناء تونس التحرير بثورة الكرامة وأقطع مع فكر الهزيمة ومشاعر الإحباط، علني أنجح في تصحيح بعض الأخطاء الآثمة التي إرتكبناها – نحن العرب – دون وعي منا – وتحولنا بسببها إلى قبائل وعشائر وبطون خاوية، تائهة في صحاري العالم..
أحاول جاهدا أن أصحّح مسارنا التاريخي الأعرج وأرسم على تخوم الجرح العربي صورة فلسطين ومن تحتها أسماء الذين سرقوا من بين أناملنا مباهج الحياة، حرّفوا التاريخ العربي وباعوا – عروس المدائن – للآفاقين حتى غدت المطالبة بإستردادها (فلسطين) ذنبا لا يغتفر لدى – محاكم التفتيش- وتجّار السياسة..
سأصارح:
في مثل ليل عربي كهذا يشهد -اليوم-بقدرة قادر إشراقات ثورية هنا أو هناك تحاول – طوابير الردة – عبثا الإلتفاف عليها وطمسها.. وبدلا من أن ألجأ إلى الأنبياء والأولياء والصالحين، ألجأ إليك علني أسمع أنينك وأنت مسجى داخل قبر عربي لم تملك في حياتك المفعمة برذاذ الغيوم سواه..
أنا أحتاج إليك الآن..وهنا.. علّك تخرجني من بوتقة الأحزان التي حشرت فيها منذ إغتيالك على منصة العار في مشهد تراجيدي يحزّ شغاف القلب..
ها أنا أعود إليك اليوم كاليتيم السائر حافيا على ثلج الدروب، لأتدفأ بجسارتك ورجولتك.. وشجاعتك التي بلا ضفاف.. أحاول أن أستردّ أنفاسي على تخوم قبرك الشامخ هربا من زمن أصبح فيه الموت كاسرا، سافرا ،متوحشا، فجائعيا وفرجويا حد البكاء.. وأن أحلم بغد لا ينحني فيه رجالنا إلى الغرباء..حلما بهيجا يتجلى في وجوه الشهداء المشرقة كبدر بهيّ مكتمل.. حلما يسري في دمائي ليتشكّل رفضا صارخا لكل غاصب أو محتل..
هل أستطيع- يا سيد الرجال – أن أصرخ بملء الفم والعقل والقلب والدّم:
لا للمتاجرة بدماء الشهداء..لا لدكاكين السياسة.. لا للإلتفاف على ثوراتنا المطرزة بتضحيات الشباب.. ولا – أوّلا وأخيرا – لبيع الأوطان..هذه الأوطان التي لا يمكن أيضا تبادلها كراقصات الملاهي..
تجرحني الرؤيا وتمضي بي الجراح بعيدا فألجأ إليك وأناديك بصوت مشنوق علّك تخرج من صمتك – يا سيدي – لتواسينا في مصابنا في شباب تونس.. طرابلس.. القاهرة.. صنعاء.. ودمشق.. فالخطب مؤلم وفجيع..
قم من سباتك وجرّ الفيافي إلى نبعنا علّ ربيع الثورات يخضرّ فينا..
قم وضع بندقيتك على شغاف القلب،فقد أصبح الأعداء بيننا ومنّا..وفينا..
إنهض واسحب زنادك علّ الرصاص يضيء دروب الحرية..
انهض.. يا أنت..يا ليث بغداد..يا صدام حسين.. وارقص رقصة – زوربا اليوناني – على فوهات مدافعهم.. ثم غنّ أغنيتك العذبة :
هناك كثيرون أمثالي
أعلّوا وشادوا.. وفي كل حال أجادوا
وأنا كذلك أنجزت كل الذي في يديّ
عظيما،جليلا..وما عرف المستحيل الطريق إليّ..
لأنّي أؤمن أنّ الخطى، إن تلاقت قليلا.. ستصبح جيشا و صبحا نبيلا..
تمنّيت أن يعيش شعبنا العربي عزيزا كريما..
تمنيت أن يرفع الظلم عنا..
لذا..
فعلت الذي كان حتما عليّ..وما كان حتما على الشهداء جيلا..فجيلا..”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى