في فن الرواية.. بنت الأكابر وابن الفقراء

د. خضر محجز | فلسطين

إن مجرد حشد الأحداث بواسطة الحروف ليس فناً، فهذا يستطيعه كل متسول ملحف، يغني في الطرقات. كما أن التزام خريج جامعي بقوانين التأليف الأكاديمية، لا يُنتج سوى بول باردٍ، يصيب رشاشهُ المجتمع الأدبي، بنجاساتٍ يصعب إزالتها بالماء الساخن والبيرسيل. 

إن أي كتابة تتوخى أن تصف نفسها ــ بحق ــ بأنها قص، يجب أن تنبع من العاطفة قبل كل شيء؛ العاطفة المشبوبة التي لا تعوزها حكمة التأمل والتحليل. 

في القصة لا نهاية سعيدة للحب، بين بنت الأكابر وابن الفقراء. قد تكون ثمة بين الفتى الفقير وابنة الباشا الدلوعة بضعة لقاءات صاخبة، أو عبارات حب ملتهبة، أو شوق لاعج من الفتى، لنيل الغنية الرقيقة، أو اندهاش آني من المدللة بآهات جديدة، لم تسمع عنها منذ أيام يوسف السباعي… قد يكون كل ذلك أو بعضه، لكنه لا يقضي إلى النهاية السعيدة، من وجهة نظر الرواية. لماذا؟ لأن هذا ليس هو الواقع. إن على السرد الفني أن يقنع بإمكان الحدوث في الحياة حولنا، لنستطيع أن نهتف، في نهاية النص: إن مثل هذا يحدث بالفعل بيننا.

إن القصة وصف للحياة ونقد لها في آن: وصف مدهش يلتقط دقائق العاديّات، التي نمر بها دون أن نتنبه لوجودها؛ ونقد لما هو موجود مما يؤلم الإنسانية. إنك حين تقرأ النص الأدبي ــ الذي يستحق هذا الوصف ــ لا يمكن لك إلا أن تصرخ: يا الله!. كم كان يحدث هذا إلى جواري ثم لا أراه!. لم يكن الفتى جميلاً في نظر الكثيرين، ولكنها فتاة رائعة هذه، التي استطاعت أن ترى جماله المختفي وراء الكثير من الأقنعة!.

صحيح أن القصة هي ــ في إحدى جوانبها ــ دراسةٌ لدواخل النفس البشرية، ولكنها قبل ذلك ومع ذلك، دراسة لعادات النفس البشرية، في التعامل مع الأحداث اليومية، ضمن طبقتها التي أنتجتها، وتحاول أن تتمرد على قوانينها. 

نعم، هو ذاك. هذا هو ردي على التساؤل الذي تطرحه العبارة السابقة في أذهان القراء. نعم هو ذاك: لا تستحق الشخصية القصصية أن تنتقل من الواقع إلى اللغة، إلا إذا تمردت على القوانين. لن نستطيع أن نكتب قصة عن فتى وفتاة، أحب أحدهما الآخر، وشاركتهما في ذلك أوراق الشجر، ثم تزوجا وأنجبا وماتا بهدوء، لأن هذا يحدث كثيراً في الحياة العادية، أو هو متوقع الحدوث، مع تعديل طفيف يقتضي غياب أوراق الشجر.

ماذا؟ فماذا بربك تريد أن تقول؟ ها أنت تعارض ما كنت قد قلته قبل سطور، عن ضرورة أن يكون الحدث القصصي ممكن الحدوث! والجواب هو أن ليس كل ممكن الحدوث يصلح أن يحدث في القصة. لا، بل لا بد من أن يجتمع إمكانُ الحدوث مع دهشة الحدوث. لا بد من الدهشة. وتلك لا يقدر على إنتاجها إلا لسان يمتلك أعيناً ــ لا عينا واحدة ــ ترى في كل الاتجاهات، وتغوص في كل الأعماق. وقليل ممن يكتبون القصص يمتلكون ذلك.

هناك أمر آخر يسمونه القواعد. وإن أسوأ ما ابتلى به الأكاديميون الأدبَ هو هذه القواعد، التي يظن متواضعو الموهبة أنها جوهر القص. فماذا لو التزم كل كاتب بوحدات الزمان والمكان والشخصية والذروة والفعل؟ هل ينشئ قصة؟ هل درس هذه الوحدات كبار الكتاب مثلاً، فصاغوا قصصهم وفقها. يا سلام! إذن يصبح كل أكاديمي مترهل ــ نجح في اقتناص الشهادة بالصبر المذل ــ مبدعاً!. 

لا يا سادتي، فالأمر ليس كذلك بالتأكيد. قطعاً ليس الأمر كذلك، ولطالما جاءني خريجون من لدنكم، كتبوا وفق القانون، ثم لم يُخرجوا إلا خراءً سائلاً.

الأدب موهبة، أيها السادة، ثم صناعة. ومن لم تتوفر له الميزتان فلا ينتج أدباً. ولنعد إلى قصة بنت الباشا التي تقع في حب الفقير، لنرى كيف يمكن أن يحدث في الواقع، أو كيف يمكن أن ترى القصةُ الواقعَ: 

يلتهب قلب الفتى بالحب، لكنه لا يعرف مصدر هذا الحب، فلا هي أجمل من بنت الجيران، ولا هي تشبه نانسي عجرم، بل إن فمها كبير إلى حد ما، ورأسها المعقوص زاخر بكثير من التفاهات، التي لو كان بعضها في رأس أخته لصفعها، في محضر أبويه. لكنه يشعر أن شيئاً ما يشده إليها. أما هي فلا تعرف ماذا تريد من هذا الفقير. إنه جماله عادي، لكن في عينيه نظرة توهن الساقين، إلى درجة الرغبة في الاضطجاع. آه لو تمكنت من إقناع أبيها بأنها تريد هذا الولد فعلاً. دعونا نجرب شيئاً: لم لا نمارس الحب سوياً!. وعند هذا الحد تستجيب الفتاة لتوسلات الفتى، وتضطجع فاتحة ساقيها في انتظار المدهش. لكن الفتى يتردد.. إنه في حقيقة الأمر غير مصدق أن يكون الحب سهلاً هكذا. هنا تبدأ حسابات الفتى. وهنا يبدأ الحب في مواجهة الواقع.

لكن يبقى ثمة احتمال أن يهجم الفتى. يحدث هذا في بعض القصص، ولا يكون مستغرباً، لكنه لا بد سيصطدم من بعد بعاقبة الهجوم، وحده من دون الفتاة. ولكن لن تكون النهاية سعيدة على كل حال، لواحد من السبيين الآتيين او لكليهما معاً:

1ــ لقد تذوقت بنت الباشا عسيلة الفقير، وانتهى الأمر إلى شعورها بأنه ليس شيئاً مدهشاً، كما كان يلوح لها الأمر، يوم شاهدت عبد الحليم مع زبيدة ثروت في (أنت عمري). 

2ــ لقد تذوق الفتى عسيلة بنت الباشا، وانتهى به الأمر إلى التفكير في أنها سهلة الانقياد، بما يهدد صورتها الرومانسية السابقة. ولئن كان ذلك غير كاف، فسوف تتكفل الموانع الطبقية بإضافة الأدلة الأخرى.

وربما لو لم يتذوق كلاهما عسيلة الآخر لأمكن أن تطول القصة. ولكنها بالتأكيد لن تنتهي النهاية السخيفة لـ(إني راحلة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى