مقال

التقديم للكتب.. أهميته، مناهجه، وغاياته

بقلم: رضا راشد

مما لا شك فيه مقدمة أي كتاب تعد مدخلا لذلك الكتاب وإطلالة على أبوابه من عل، تجمع شوارده وتقيد أوابده، وكأنها من الكتاب كرجل واقف على باب قصر ينادي المارة ويغريهم للدخول إليه والتعرف على جماله أو كأنها المفتاح الذي يعين على الدخول إلى الكتاب. ولهذا كان من سنة البحث العلمي أن تحتوي المقدمة على أسباب اختيار الموضوع، ومنهج البحث فيه، ومحتويات العمل من كتاب أو رسالة أو بحث .

ومن هنا يحرص القارئ الناقد أول ما يحرص حين يمسك بالكتاب بين يديه أن يدلف أولا إلى قراءة مقدمته وقوفا منها على هدف البحث ومنهجه وصورته الصغرى، ثم قراءة الكتاب في ضوء مقدمته وصولا إلى مدى اتساق مضمون الكتاب مع المقدمه او مخالفته لها: خروجا عنه اتساعا او انحصارا فيه ضيقا. وأحيانا يكون ما في الكتاب أقل مما جاء في المقدمه؛ ذلك ان المقدمة إنما تشير إلى الأفق الواسع الذي يحلق فيه خيال الكاتب وأمانيه، وإلى الغايات العليا التي يروم الوصول إليها، في حين يعبر الكتاب عن ضيق الواقع وما بلغته قدرة الكاتب، ومن هذا النوع مقدمات شيخ البلاغيين الدكتور محمد أبو موسى حفظه الله، فإن فضيلته في مقدمات كتبه يطوف في ميادين أوسع ويحلق في آفاق أفسح من موضوع الكتاب، بما جعل هذه المقدمات علما قائما برأسه، وهو الأمر الذي حدا بأحد الأساتذة إلى أن يقترح جمعها في مجلد واحد تعميما للفائده وإبرازا لما هو مكنون فيها.

ولا يشترط في المقدمة حد معين، وإن كان يغلب عليها أن تكون موجزة، لكن معيارها طولا او قصرا هي تحقيق غاياتها من حيث كونها مدخلا للكتاب، ولهذا طالت مقدمة أفضل شروح البخاري (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) حتى بلغت مجلدا كاملا سماه ابن حجر (هدي الساري) وكأن قارئ فتح الباري لو دلف إليه مباشرة دون أن يقرأ المقدمة فإنما يسير منه في ظلام دامس، ولن يهتدي في هذا الظلام حتى يبدأ بقراءة المقدمة أولا،. فإذا هي السراج الذي يهديه السبيل في هذه الظلمات الحنادس. وهذه المقدمة التي يقدم بها الكاتب لكتابه تعد فرض عين، فلا يجوز أن يخلو منها كتاب، وإلا صار ناقصا بمقدار نقصانها فيه ومختلا بقدر غيابها منه.

وهناك نوع آخر من التقديمات ليست فرض عين، ولا حتى فرض كفاية، بل هي مستحبة؛ وهي التي يقدم بها آخرون للكتاب. وهذا التقديم المستحب لا يغني عن مقدمة كاتبه، ولكنه يضيف إليها؛ ذلك أن هذا التقديم إنما يمثل رؤية للكتاب بعين مغايرة؛ بعين القارئ لا الكاتب، ولهذا كان له من الأهمية ما له، فهو يبين كيف تلقَّى الكتابَ قارئُه؟ وكيف قرأه ؟ وماذا وجد فيه مما له وما عليه؟ وهذه العين الناقدة (عين القارئ) إن هي أعطت للكتاب حقه من المطالعة والتدبر والتأمل والتفكر، هذه العين هي بالعمل أبصر، وبعيوبه أعرف، وبميزاته أكثر إدراكا ؛ لأن عين الناقد – كما يقولون – بصيرة، والإنسان عمٍ عن عيب من يحب، (وعين الرضا عن كل عيب كليلة) فكيف عن عيوب نفسه؟! لا شك أنه سيكون أكثر عمىً، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي”، وما ذلك إلا لأن الغير أبصر بالعيب من النفس، فغيري أبصر بعملي من نفسي، لأن نظرة الإنسان إلى عمله إنما يكسوها الإعجاب الذي يعمي العين عن رؤية ما في العمل من عيوب، وكذلكم قد يرى الغيرُ فيَّ من الحسنات ما لا أرى من نفسي، ولهذا كان أبو الطيب المتنبي يقول:” إذا غمض عليكم شيء من شعري فعليكم بالشيخ الأعور – يعني ابن جني – ؛ فإنه يعرف من شعري ما أعرف وما لا أعرف”.

فهذا هو أبو الطيب المتنبي وهو من هو: اعتزاز نفس، يعترف لابن جني بأن له من البصر بمعاني شعره ما يجعله يقف من شعره على معان لم تدر بخلد أبي الطيب ساعة إنشاد الشعر، ولعل هذا هو أحد وجوه التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم:” المؤمن مرآة أخيه”، فكما أن المرآة تُري الإنسان من نفسه ومن وجهه ما لا يراه بنفسه، فكذلك المؤمن للمؤمن كالمرآة، يريه من نفسه ما لم يكن ممكنا أن يراه بعينيه الباصرتين من حسن أو قبح.

وإقرارا بهذه الأهمية كان حرص العلماء على أن يقدموا أعمال بعضهم، وحرص المؤلفين على استكتاب أهل العلم ليقدموا لهم كتبهم؛ استضاءة برأيهم واستنارة بقراءتهم.

ولا يشترط في هذا التقديم شكل معين للعلاقة بين الكاتب والقارئ المقدم: فقد يقدم الكبير للصغير كما هو الحال بالنسبة للأساتذه مع طلابهم: تشجيعا لهم، وترويجا لكتبهم، وإعلان ثقة من العالِم للتلميذ بأنه قد استقام على لاحب الطريق واستتب له المنهج.. وهذا هو الغالب= وقد يكون العكس بتقديم الصغير للكبير، وهذا نادر. = وقد يقدم الأفران بعضهم لبعض، كما قدم الشيخ محمود محمد شاكر لصاحبه سعيد العريان كتابه (حياة الرافعي)، مع أنه لم يسمها تقديما، وإنما سماها (فاتحة الكتاب) ولا مشاحة في الاصطلاح، فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالالفاظ والمباني.. وكما قدم أيضا الشبخ محمود محمد شاكر للدكتور محمد عبد الخالق عضيمة كتابه (دراسات لأسلوب القران الكريم) .

وفي تقديم المرء لكتاب غيره قد ينحصر التقديم في مناقشة وإبراز محتوى الكتاب، وقد يتسع عما احتوى عليه الكتاب كما في تقديمات الأستاذ عمر عبيد حسنة لبعض كتب سلسلة (كتاب الأمة) التي كانت تصدرها وزارة الأوقاف القطرية، حيث كنت تشعر أن المقدم مستوٍ على أفق البحث، مطلعٌ على خفاياه، قد سبر أغواره وتدسس في أعماقه.. ثم زاد عليه.

وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه التقديم، وإن كنا نفتقده ونفتقر إليه في كثير مما نقرأ الآن ؛ فإن كثيرا مما يكتب تقديما للكتب إنما يكتبه الكبير للصغير بغرض الربح والترويج التجاري، بعيدا عن أي نقد علمي، حتى إنك لتشعر ان الكاتب إنما تصفح بضع صفحات من الكتاب، وألقى نظرة سريعة على الفهرس ثم أمسك قلمه وكتب التقديم، وما هكذا يا سعد تورد الإبل.

وإن من المقدمات الماتعة التي قدم بها غير المؤلف ما كتبه الأستاذ/محمد خليفة التونسي لكتاب الأستاذ/ عباس محمود العقاد (الصهيونية العالمية) الذي نشر ملحقا بمجلة الأزهر الشهر الماضي، حيث حلق في آفاق من القراءة عالية جديرة بأن يُقتدَى بها ويُقتفَى رسمُها.

فلقد أغضى المقدم ابتداء عن المنحى الأشهر في التقديمات، بنلخيص محتوى الكتاب المقدم له فقال :” وليس من همنا هنا تلخيصها؛ إذ لا حاجة به ولا جدوى منه”، وكأنه ينبه من البداية على أن مهمة القارئ ليست مجرد تلخيص الكتاب؛ إذ تغنى عن ذلك إطلالة سريعة على الفهرس..وهذا مما يشير إليه وإن كان حاول أن يعلل تعليلا آخر لإغضائه عن مسلك التلخيص للكتاب في التقديم له، بأن كتابات العقاد مستعصية على التخليص لإيجازها وإجمالها؛ ذلك أن كل موجز يمكن إيجازه بشكل أكثر وكل مجمل يمكن إجماله بصورة أكبر.

وبعد التخلية تأتى التحلية، ببيان منهجه في تقديمه، فيقول مبينا لمنهجه الذي سيسلكه في التقديم:
“ولكننا نومئ إلى موضوعها وبعض مضامينها والفكرة الجامعة بينها ومنزع كاتبها فيها، فالفصول كلها بنية سوية متكاملة يشد بعضها بعضا ” .

وفي هذه العبارة الثرية يشير الكاتب إلى ما ينبغي أن يكون محط نظر القارئ لأي كتاب، وهي:
(١) التعرف على موضوعات الكتاب.
(٢) الإشارة إلى بعض موضوعات الكتاب؛ إبرازا لها، ولفتا للأذهان إليها؛ لما لها – في نظر القارئ المقدم للكتاب – من أهمية قصوى.
(٣) وضع اليد على الفكرة الرئيسة الجامعة لهذه الموضوعات ، والتي المظلة التي تنضوي تحتها جميع موضوعات الكتاب أو التي تعد الخيط الناظم لها كالخيط الذي تنتظم به اللآلئ فيكون العقد، ولولا الخيط ما كان العقد.
(٤)بيان شدة علاقة فصول الكتاب بعضها ببعض، مما يدل على التماسك الذي عليه الكتاب بفصوله وموضوعاته .
(٥)بيان منزع الفكرة الرئيسة للكتاب من نفس المؤلف ومدى اتساقها أو تنافرها مع الخطا العام لفكره.
ولهذا تراه بعد أن أبرز بعضا من موضوعات الكتاب – الذي سماه رسالة – يقول؛: “هي صورة حياته ومن يقرأ كتبه – ولا سيما عبقرياته وحملاته ضد الحكم المطلق والمبادئ الهدامة- يعرف أنه يدين بالقيم العليا،ويقيس عظمة الرجال والأعمال بالمقاييس الأخلاقية ، والصهيونية دعوة جنونية بهيمية ضارية، وحركة هدامة خبيثة الوسائل والأهداف، فلا جرم أن تخف في ميزانه وتستحق عنده الجفاء “، ثم يقول في موطن آخر :
“وهذه هي بواعث العقاد حين يجفوها، فهو يعافها عن نزعة إنسانية رفيعة، لا عن ترة شخصية ولا طائفية، ولا عن تعصب ديني ولا وطني “، ومع اعتراضي على الجملة الأخيرة(لأن معادة الصهيونية من باب حب الوطن أو التعصب للدين ليس تهمة) فإنى معجب بالمسلك الذي سلكه المقدم ببيان منزع الكتاب من نفس كاتبه ومدى اتفاقه أو اختلافه مع الفكرة العامة المسيطرة على الكاتب أو العالم في كل ما كتب ..وهذا أمر لا يدرك بالهوينى، وإنما يَتطلب – فوق سبر أغوار الكتاب المقدم له – إحاطة بإرث الكاتب او العالم كله؛ تبينا لمكان الكتاب ومكانته مما كتب، وذلك أمر لو تعلمون عسير.
والعجيب أن الكاتب بعد كل هذه البراعة في التقديم يقول متواضعا:
“أخي القارئ
ليست هذه مقدمه فما انا باهل لتقديم العقاد ولا حاجه باحد لذلك ولكنها توطئة مما يناجي به الأخ أخاه في البدء، ولهذا أود أن تحظى منك هذه الرسالة بما تحظى به الرسائل الأخوية، ولولا ذلك لأمسكت أو لكانت التوطئة هي الختام ” ولهذا ضن على ما كتب بتسميتها (مقدمة) أو (تقديم)، وإنما سماها (بداءة) ..فياليت شعري: أين هذا التواضع والإكبار للكاتب والقارئ معا، مما يزكم أنوفنا من روائح التنفج المنتنة والتشبه بأثواب الزور العفنة؟

فإلى الله المشتكى
والله المستعان
وعليه التكلان

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أرى استخدام بعض الكلمات الصعبه او بعض الكلمات الغير مستخدمه كـ”الظلمات الحنادس ، أغضى وغيرهم”
    تزيد من جمال المقال وذلك ليتعلم القارئ كلمات جديدة يستشف بسهوله معناها من سياق الكلام.
    سلمت يمناك وجزيت خيرا كاتبنا وشيخنا الغالى ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى