المقاومة وثمن الحرية
محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
جرت عادة التاريخ أنَّ الأوطان لابدَّ لها أن تدفع ثمن حُرِّيتها، وتضحِّي من أجل كرامتها، وتبذل أغلى ما لديها من أجل تحرُّرها، فلا يتحقَّق النصر إلا بعد كفاحٍ عظيم، وقتالٍ مرير، تُبذل فيها الأنفسُ، وتُزهق فيه الأرواح، ويُسفك فيها الدم، ويُفقد فيها الولد والأهل، ويَغلب اليأس، وتبلغُ القلوبَ الحناجر، وقد أخبرنا الله تعالى بذلك حين قال (أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[1].
فهذا الشعبُ الجزائري بذل في كفاحه نحو نصف مليون شهيد، وقيل بل مليون ونصف مليون شهيد، في سبيل تحرير أرضه، وإعلاء كلمة شعبه، ونُصرة ثورته، حتَّى تحقَّق النصر، وأحرز الظفر، وطرد المستعمر من بلاده، وردَّه خائبًا إلى دياره، بعد مذابحَ لا يتصوَّرها العقل، ولا يبلغ قدرَها وصف.
وهذا الشعب البوسني، ما إن أعلن زعيمُه علي عزَّت بيجوبيتش الاستقلال، وطالب بحرِّيَّة شعبه، واستقلال وطنه، حتى تعرَّض مسلمو بلده لسلسة من المذابح المروِّعة، والمجازر الدامية، كلَّفت الشعب الأبي نحو مئتي ألف شهيد، فضلًا عن اغتصاب نحو خمسين ألف امرأة، فكانت حربًا دمويَّة، وإبادة عرقيَّة، ضجَّ لها العالم، وذُعِر من بشاعتها البشر، وفي النهاية انتصر الشعب البوسني، وحقَّق استقلاله، وكسب كرامته، بعد أن بذل لأجلها ثمنًا فادحًا، وقدرًا باهظًا، وعُدَّ مُنتصرًا رغم ما عظم ما تكلَّفه من الدم والعرض.
وهذا الشعب الليبي تعرَّض لمذابح دامية، ومجازر مروِّعة، اجترمها الاحتلال الإيطالي، وكذلك فعلت شعوبُ تونس والمغرب، وما بذله ويبذله الشعب الفلسطيني أمام المحتلِّ الصهيوني، وما قدَّم الشعب المصري من تضحيات، ضد الاحتلال الفرنسي، ثم المستعمر الانجليزي، حتى خرج المستعمر خائبًا إلى دياره، وعاد خاسرًا إلى بلاده، ولم يغنه نفعًا من قَتل من أبناء تلك الشعوب الحُرَّة، ولا ما خُرِّبَ من بنيانها وعمرانها، فكل تلك الشعوب ضحَّت بألالاف من ابنائها، حتى نالت حُرِّيَّتَها.
ولعلَّ الحكمة في تلك السُّنَّة الكونيَّة، التي لا تخلو من ظلم في بعض جنباتها، وجور وقهر في بعض مراحلها، هو أن يقدِّر المناضل قيمة حرِّيَّته، ويعرِفَ قدْرَ ثورته، ويذوق حلاوة النصر، بعد مرارة الصَّبر، فيتمسَّك بثورته، ويدافع عن حرِّيَّته، التي فقد من أجلها ما فقد من أهله، وبذل النفس والغالي من وولده وصحبه، فهناك من يخسر ماله، وهناك من يبذُل رُوحه، وهُناك من يُبتلى بعرضه، فيعرِفَ حينها المناضل الذي مرَّ بتلك الأزمات، وذاق من ويلات الخطوب، غلوَّ ما أدرك، وعلوَّ ما أحرز، فيجتهد في الدفاع عنه، ولا يقصِّر في الذود عن كرامته.
وهذا الشعب الفلسطيني المناضل في غزَّة الأبية، فقد حتى كتابة هذه الأسطر على ما يزيد عن اثنين وأربعين ألف شهيد، وعشرات الألوف من المصابين، ومعظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وقد دُمِّرت بيوتهم، وانتسفت مُدنهم، وتشتَّت أصحابها في كل موضع، وتعقَّبهم الموت في كل مكان، يستيقظون على القصف، وينامون على الدمار والقتل، وكل هذا من أجل حُرِّيَّةِ بلادهم، ونُصرة أوطانهم، ومقاومة أعدائهم، فكأنَّهم لا يحاربون الصهاينة وحدهم، ولكنَّهم يحاربون العالم كله، بين مؤيِّدٍ لجرائم الصهاينة، يجد لها سببًا، ويتَّخذ لها مبرِّرًا، ومتخاذلٍ تخلَّى عن نُصرة القضيَّة، فالبلاد العربية منها ما ترك غزَّة لمصيرها، وطبَّع خاسئًا مع أعدائها، وهذه بلاد الغرب، التي تدَّعي الديمقراطية، وتتشدَّق بحقوق الإنسان، تراها بكل تبجُّحٍ تقدِّم عونًا للصهاينة من أجل استمرار مذابحهم الجماعية، وأعمالهم الإجرامية، وقد داسوا على ما زعموا من مبادئهم، وتناسوا ما ادَّعوا من قيمهم وعدالتهم.
يلوم البعض الشعب الفلسطيني على ثورته، ويعاتبه على انتفاضته، بداعي أنَّهم كانوا آمنين مأمونين، ومرتاحين وليسوا مشرَّدين، فانتهت الحال إلى خرابٍ فادح ثقيل، وخطبٍ جليلٍ، ودمارٍ عظيمٍ، وهؤلاء ينسون أن للحرية ثمنًا لابُدَّ أن يُدفع، ونُفوسًا لابد أن تُبذل، وأنَّه لا أمنَ إلا من بعد خوف، ولا ارتواء إلا من بعد ظمأ، ولا صبح إلا من بعد ليل، ولا أمل إلا من بعد يأس، ولا انفراجة إلا من بعد أزمة، ولا منحة إلا بعد محنة، ولا شفاء إلا من بعد ألم، وقد تناسى هؤلاء أيضًا أن ما قبل هذه الحرب كان أمانًا خادعًا، واستقرارا كاذبًا، وهدوءًا يتحقق بطأطأة الرؤوس، وإذلال النفوس، فما كان غير سرابٍ يحسبه الظمآن ماء، فقد أوشكت القضيَّة أن تنتهي، وكاد أثرها أن ينقضي، بفعل أعداء الأمَّة الذين يتربَّصون بها من خارجها، والخونة الذين يتأمرون عليها من أنبائها، وهؤلاء هم صهاينةُ العرب، الذين في ظاهرهم مسلمين، نراهم يتذلَّفون للغرب، ويُلقون باللوم على من يجهاد في سبيل ربه، ويدافع من أجل وطنه، ويحملونه مسؤولية الخراب والقتل، والدَّمار والذَّبح، منتناسين أن ذلك من فعل الظالم، ويلقون اللوم على المظلوم، فهؤلاء كانوا أشدَّ خطرًا، وأعظمَ ضررًا، وأكثر شرًّا، على هذه الأمة من خصومها وأعدائها.
كادت قضية فلسطين لتذهب في سلَّة النسيان، وتصيرا دربًا من دروب الهذيان، وماضيًا من قديم الزَّمان، فأيقظَ طوفان الأقصى تلك القضيَّة من سُباتها، وحال بينها وبين نسيانها، فانقشعت كل الأوهام التي كانت تغيم على العيون، وتكشَّفت كل الحقائق التي غابت عن الأبصار، وانكشف من انكشف من خونة العرب، الذين لم يبيعوا الفضية فحسب، بل قاتلوا مع الصهاينة بالسَّلاح، وأمدوهم بالغذاء والمال، ودعَّموا جرائم الإبادة الجماعية في فلسطين، وانكشف كذلك سادة الغرب الذين أيَّدوا الصهاينة، وغضوا الطرف عن تلك المذابح الدامية، ضاربين بالقيم التي ادَّعوها عرض الحائط.
لقد تحقَّقت مكاسب جمَّة بفضل المقاومة، منها أنها كشفت ضعف الكيان الصهيوني وتهتكته، وخواره وتمزقه، واختلافه بين دواخله، وسهولة دحره وهزيمته، وإنَّما استمد الاحتلال قوَّته من ضعف من حوله، واختلاف من يحيط به، كما أنَّها زرعت الرُّعْبَ بين أركانه، وأسكنت الخوف في قلوب أنصاره.
كما أنها كشفت جرائمهم بوضوح أمام العالم، حتى تغيَّر المزاج العام العالمي لصالح القضية الفسلطينية، ورأينا بعضًا من هذا في مُظاهرات الجامعات الأمريكية والأوربية، والتي ناصرها أشخاصٌ لا علاقة لهم لا بفلسطين ولا بالعُروبة، وإنما حرَّكتهم مشاعر الانسانية، وتحركت فيهم أحاسيسهم الآدميَّة، وكشفت كذلك زيف الديمقراطية الغربية، وكذب الحضارة الأوربية، حينما صمت بعضهم عن الجرائم الصهيونية، وأيَّد آخرون منهم تلك المذابخ والأفعال الإجرامية.
وأوضحت أن نصرة فلسطين إنما تكون بالجهاد، والاستعصام بالكفاح، لا بالتسليم والخنوع، ولا بالذُلِّ والخُضوع، فإن الشعب الأبي لا يرضى الأمان مع الذُلِّ، ولا الحياة مع العطف، ولا يرضى بطأطأة الرؤوس، فإما أن يعيش منصورا، أو يموت معذورا، ولكن لايمكن إنكارُ أنَّ الثَّمن المدفوع من أجل الحريَّة، كان باهظًا، وقدره كان فادحًا، ولهذا ليس لنا من بعد ذلك إلا النصر أو القبر، ومن خارت عزائمه، وتحطَّمت معنويَّته، فليقرأ قول الله تعالى (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
[1] سورة البقرة 214