مقال

المثقف والجحيم المناخي

بقلم: علي جبار عطية
أسلي نفسي وسط موجة الحر الحزيرانية الأخيرة بتذكر مشاهد من فلم شارلي شابلن (حمى الذهب) لعلَّ الإحساس بالمخاطر التي يواجهها الإنسان في الأجواء الثلجية تُخفف عني شيئاً من القيظ، كما أتذكر قصة همنغواي (ثلوج كليمنجارو)، وقصة جاك لندن (تحت سماء الجليد) في حيلةٍ دفاعيةٍ لتحمل الطقس الحار !


يهاتفني عبر الماسنجر الشاعر الحروفي أديب كمال الدين المقيم في أستراليا من الضفة الأخرى للحياة ويقول: إنَّ درجة الحرارة عندهم (٧) مئوية وجهاز التدفئة يعمل بكفاءة فأخبره بأنَّ درجة الحرارة في بغداد تجاوزت نصف درجة الغليان والمروحة الحائطية تناضل من أجل أن تحرك الهواء في غرفتي فلا تقوى حتى على تحريك أوراق الكتب!
لم أطلب منه أن يرشدني إلى حرفٍ أستعين به على حر الطقس؛ لأنَّه يعاني من حر مختلف هو حر الوجد والوصول إلى المعنى، وإنْ كان يعيش في قلب الشتاء بينما نحنُ نصارع من أجل البقاء في الجحيم المناخي، وهو المصطلح الذي أطلقه مؤخراً الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إذ قال: (في عصر الاضطرابات العالمية يتجه العالم مباشرةً على الطريق السريع نحو الجحيم المناخي وأقدامه ما تزال على دواسة السرعة)!
ترى كيف يستطيع القارىء أن يقرأ والكاتب أن يكتب شيئاً ذا قيمة وسط هذا الفرن؟
هل كتب القاص محمد خضير قصته (في درجة ٤٥ مئوي) في أجواء شبيهة بمثل هذه الأجواء ؟
إنَّ المطلع على سير الأدباء يجدهم يفضلون الأجواء الباردة في الكتابة: يُنقل عن الكاتبة البريطانية الشهيرة أجاثا كريستي قولها: (لا أستطيع وضع تصاميم رواياتي إلا في الرياح الممطرة).
ولا توجد إشارة إلى تفضيل الروائي نجيب محفوظ فصلاً معيناً للكتابة.


يقول في كتابه (أتحدث إليكم): [أكتب في وقت محدد تبعاً ليومي الموزع بين الوظيفة والكتابة، أكتب لساعتين أو ثلاث ساعات يومياً (العاشرة صباحاً إلى الواحدة ظهراً)، وأقرأ ساعتين أيضاً، أبدأ بالكتابة، وأختم بالقراءة] .
أما الكاتب أسامة أنور عكاشة فعرف عنه أنَّه يترك بيته في القاهرة في الشتاء، ويسافر إلى الإسكندرية لينعزل في بيته الذي خصصه للكتابة فقط يساعده في ذلك قربه من البحر،وقد أخبرني بذلك الكاتب كرم النجار في إحدى زياراته إلى بغداد نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.


أما الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد صاحب رواية (لا أحد ينام في الإسكندرية)، فيكتب رواياته عادة بعد منتصف الليل وحتى شروق الشمس.
ولا تفوتني الإشارة إلى روايةٍ مهمةٍ على خلاف الأجواء الباردة التي يفضلها الأدباء يبدو أنَّها كُتبت وسط أجواء ساخنة من حيث الأحداث ألا وهي رواية  (فهرنهايت ٤٥١)/١٩٥٣م للروائي الأمريكي راي برادبري التي تُعد رداً منه على الإرهاب الثقافي الذي مارسه السيناتور جوزيف مكارثي النائب عن ولاية ويسكنسن خلال سنوات (١٩٤٧ ـ ١٩٥٧) على الكتاب والمثقفين والفنانين في أمريكا واتهامهم بالشيوعية، حتى عرفت تلك الحقبة بالمكارثية التي تعني توجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة.
تحكي رواية (فهرنهايت ٤٥١)  وقائع افتراضية لمجتمع يسير نحو تبني الفكر الواحد محذرةً مما يحدث في المستقبل من سيطرة الإعلام على الناس ومنع التفكير فاقتناء الكتاب أو تداوله أو الاحتفاظ به جريمة، وهو أخطر من السلاح المحظور، وتكون وظيفة رجل الإطفاء إحراق الكتب لا إطفاء الحرائق، مستذكراً عدداً من حرائق الكتب منها إحراق رابطة الطلبة في يوم ١٩٣٣/٥/١٠ في برلين سنوات حكم النازية لأكثر من عشرين ألف كتاب لمؤلفين يساريين بذريعة احتوائها على (روح غير ألمانية) !
لقد منعت الرواية في عددٍ من الدول لسنوات برغم فوزها بعددٍ من الجوائز الأدبية المرموقة وذلك لمضمونها المناهض للنظام المكمم للعقول والأفواه، وقد جُسدت في عدد من الأعمال الدرامية في الإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما ومنها فلم بريطاني سينمائي جميل بالاسم نفسه أنتج سنة ١٩٦٦ أخرجه المخرج البريطاني فرانسوا تروفو ومثله أوسكار فيرنر وجوليا كرستي، وقد شاهدته مطلع التسعينيات في مركز الفنون على شاشة سكرين، وكان عرضه يمثل وقتها تحدياً وشجاعةً وجرأةً من مُنظم الفعالية السينمائية الأسبوعية الفنان القدير مقداد عبد الرضا.
ألم يقل المتنبي :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
ما رأيكم في وسط هذه الأجواء الساخنة بتناول كوب شاي ساخن ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى