وحدك.. قصة قصيرة
محمد حسين السماعنة | الأردن
في طريقه لمقابلة المدير،شاهد محمد ابن أبي جمال جاره على عتبة الدار وأمامه النرجيلة، وتحوم حوله سحب من الدخان القاتم، فقال له: يا حاج ارحم نفسك، أنت مريض،وقلبك لا يحتمل هذا …ولم يدعه جاره يكمل كلامه، فقد نظر إليه نظرة غضب، وقال له بحدة: انت شو دخلك؟!
حوقل محمد ابن أبي جمال، ومضى في طريقه بأنفاس حزينة مرتبكة، ولم يشدد من أزرها إلا رؤية ابن جارهم يشحط كيسا ثقيلا من النفايات، ويلقيه أمام الحاوية:
– “يا عمو، يا حبيبي،انت وصلت الحاوية،حط الكيس في الحاوية!”
نظر الولد الأسمر حافي القدمين إلى محمد ابن أبي جمال بغضب، وقال له: “وانت شو دخلك؟!”
ولم يطل انتظار محمد ابن أبي جمال لسيارة الأجرة، فقد توقفت أمامه كحلم تحقق، ودسَّ نفسه فيها برشاقة وخفة، وجلس في مقعد منهار متداع، تكدست فيه أشياء كثيرة لا يربطها به رابط، وطار السائق بين السيارات،وقفز به فوق المطبات،وانتفض مع كل توقف فجائي،وغامت السيارة بدخان سيجارته، واهتزت على أنغام موسيقى زفة عريس:
“ومن وادي لوادي حنا لفينا من وادي لوادي ومن بنات لجوادي حنا خذينا من …”
– لو سمحت يا أخي،مديرية التربية والتعليم
السائق بابتسامة صفراء:”يا حلاوةالأخ معلم؟!”
– “نعم،ويا ريت تشغل العداد،وتطفي السيجارة، وتوطي صوت المسجل!”
ارتفع صوت المغني فجأة:
درج يا غزالي يا رزقي وحلالي
– “يا أخي،لو سمحت،اطفيالسيجارة، ووطي صوت المسجل!”.
أوقف السائق السيارة بغضب: “شو بتفكرني طالب عندك،انت شو دخلك؟!”
وقف محمد ابن أبي جمال على الرصيف حائرا قلقا حزينا والخوف بعينيه يتأمل الوجوه العابسة التي تمر من أمامه، ويتعجب من إصرارها على امتطاء الحزن.
“ليش،ليش، الوجوه كلها عابسة، مكفهرة غاضبة”
صوت عميق غاضب يهز صدره: وانت شو دخلك؟!
ولم يطل انتظار محمد ابن أبي جمال الحافلة، فقد توقفت عند قدميه بل فوقهما،وما كاد يدخل برجله الضعيفة في الحافلة حتى انتفضت، وتحركت، فألقته في حضن صبية فصرخت الصبية …
وكانت سبع لطمات لن ينساها محمد ابن أبي جمال أبدا، فهم لم يصدقوه،ولم يعطوه فرصة ليدافع عن نفسه.
وألقي محمد ابن أبي جمال مرة أخرى على الرصيف مهزوما مكسور الوجدان، ولم يطل انتظاره،فقد وقفت الحافلة بسرعة البرق،وانتشله الكنترول،وألقى به فوق المقعد الجلدي القاسي، وبصوت مليء بالعنجهية: “ارفع يا معلم، هي كمان بريزة قدامك ارفع،ارفع”،فتوقت الحافلة وصعد رجل طويل باسم الوجه،وربط نفسه بسرعة وبقوة إلى سقف الحافلة بكلتا يديه، وامتلأ ممر الحافلة بالركاب، وفجأة صاح الكنترول: “يا شاب،بالله قوم وقعد هالصبية”. نظر محمد ابن أبي جمال، حوله ولم يجد رجلا في مقعد سواه،فقال للكنترول:أنا؟!
الكنترول مستعجلا وقفه: “آه،انت،يلا يا شب يلا!”
– “أنا ما بقدرأوقف” ثم ثار غضب محمد ابن أبي جمال فقال: “يا أخي باصك مليان فل، والواقفين أكثر من القاعدين،وين بدك تحطها الصبية؟”
سائق الحافلة محتدا: “يا حاج،انت شو دخلك؟!”
راكب من الواقفين بامتعاض: “انت شو دخلك يا حاج؟!”
حوقل محمد ابن أبي جمال وفتح نافذة الحافلة، وصوب عينيه علىالزفتة وحجارة الأرصفة.
مشى محمد ابن أبي جمال إلى مكتب المديربعزم متقد، وعزيمة صلبة
دخل المبنى…
-أينهم؟
-الأصل أن يكون على مكتبه!
موظف وهو ينفض عن عينيه بقايا التعب: خير يا أستاذ،شو في؟
الغرف فاضية،وين الموظفين؟!
– حاج،الله يصبحك بالخير،احكي شو بدك؟
-معي موعد مع المدير!
يفتح الموظف الوسيم دفترا كبيرا أمامه،ثم ينظر في وجه محمد ابن أبي. جمال:
تفضل المدير ينتظرك!
يدخل محمد ابن أبي جمال بعزم وثبات وثقة…
– … واسم مدرستنا…
صوت خشن رسمي يخرج بقوة ويحوم في ممرات المؤسسة:
“وأنت شو دخلك ؟!”