بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية(2)

علي  جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك – العراق
                                    (2)

                 عصر الغمّان !!

بدأ العصر السعيد لـ(الأستاذ) يتجلّى أكثر، فأكثر خاصةً يوم تسلمنا الراتب المتأخّر لشهرين، فاكتشفنا شمول بعض العاملين بتخفيض رواتبهم ، مئتي الف دينار، واستثناء بعضهم ، وبالطبع كنت  من المشمولين بالتخفيض، وحين طلبت مقابلته وسمح لي بالدخول عليه كان يتابع قناة الـbbc  العربية، وخبرا عن ضربات للتحالف العربي على مواقع (حوثية)، ويرتشف الشاي برغبة كبيرة، مع كثرة المرّات التي يطلب فيها الشاي، وبرغم أنه يعاني من ارتفاع السكّر، وضغط الدم، لكن  يبدو أنّ من علامات رئيس التحرير :كثرة شربه للشاي !!
سألته عن سبب تخفيض راتبي من سبع مئة ألف دينار إلى خمس مئة ألف دينار؟ قال : نصرف لكم الراتب الأصلي فقط قبل الزيادة الأخيرة.
قلت : إنّ هذه الزيادة أقرّتها لجنة مشكَّلة من المكتب الإعلامي في الإقليم قبل أربع سنوات، وشملت الجميع.
رد بالقول : إنّ الدكتور (السندي) كان يصرف هذه الزيادة من موارد الجريدة، ونحن غير ملزمين بصرفها.
هذه ليست المرة الأولى التي يتحسس فيها ( الأستاذ) من الدكتور بدر خان السندي ويصفنا بـ(جماعة الدكتور) والسبب يعود إلى حادثة جرت في مطلع سنة ٢٠٠٨ م إذ اشتكى قسم التنضيد، من دخول شخص ، يأتي من (الحزب) مباشرةً إلى القسم ويطلب منهم تنضيد مقاله من دون أن يمر بمحررٍ أو يوقعه رئيس التحرير حسب السياقات، ووقتها أصدر السندي أمراً ، بمنع دخول هذا الشخص أو تنضيد مقاله من دون توقيعٍ، ولم يكن ذلك الشخص سوى (الأستاذ)! ولعلَّ هذا هو سر عداوته لـ(جماعة الدكتور) !!
انتابتني رغبة قوية في صفعه، لكن مرَّ في ذهني سيناريو ، أنه سينادي الحرس، ويقيّدونني، ويرسلونني إلى مركز شرطة الكرّادة ، ويطبّقون القانون بدقةٍ معي؛ لأنني اعتديت على مسؤولٍ مهمٍّ ، في مقرّ عمله !
لكن كلّ هذا لم يمنعني من توجيه الصفعة، إنما الذي منعني هو : سبب أخلاقي بحت هو : أني لا أريد أن أستخدم  هذه الحلول لمواجهة مثل هذه المشكلات، ثمّ  – وهذا هو الأهمّ – إنّ مثل هذه الردود لا تنسجم مع طبيعة شخصيتي، التي تميل إلى المسالمة، والتماس العذر للآخر برغم أنني أحسست أنّ (الأستاذ) كأنّه ركلني!
كنت في زمن ما أوجّه النقد إلى الفيلسوف الأغريقي ديوجينوس حين كان نائما في الشمس، فجاء الإسكندر وركله برجله، وقال :قمْ ، فقد فتحنا مدينتك! فأجابه الحكيم بالقول : إن فتح المدن لا يُنكر للملوك ، ولكنّ الضرب بالرجل من صنيع الحمير !!
اعتذرت من (ديوجينوس) على انتقادي ردّه القاسي على الملك، لأنه يبدو صاحب خبرة في معاملة مثل هؤلاء الناس.
خرجتُ من غرفته، وقرّرتُ مع نفسي ؛ أن يكون هذا هو آخر راتب أتسلّمه ناقصاً، وسأطالب براتبي كاملا، بالوسائل السلمية، وإلّا سأترك الجريدة مهما كلّف الأمر.
وعرفتُ لماذا ركّز المؤرِّخون على تسمية أحد حكّام بني أمية   بـ(الناقص) لإنقاصه رواتب الجند !!
حين عدتُ إلى مكتبي، رأيتُ إضباراتنا الشخصية التي جرى الإحتفاظ بها في الأرشيف من أيّام جريدة (العراق) قد نقلت إلى غرفة مقابلة لمكتبنا، لكن تشكو الإهمال ويعلوها الغبار، فكّرتُ لِمَ لا آخذ اضبارتي الشخصية لاسيما أن زملائي الذين سبقوني بالإحالة على التقاعد كانت عقدتهم الأولى في معاملتهم التقاعدية كتاب التعيين وبعض الكتب الرسمية في الاضبارة ؟
شجّعني بعض الزملاء على طلب الإضبارة التي تشكَّلت منذ يوم تعييني في جريدة (العراق) في ١٩٩٢/٢/٩ م ، بتقديم عريضةٍ إلى (الأستاذ) ومقابلته ولن يقصّر معك :هكذا أكّدوا !
تركتُ في  هذا اليوم تقديم الطلب ، إلى يوم آخر ليتعدّل مزاج (الأستاذ) .
هالني في اليوم التالي منظر إحراق جزء من الأرشيف وسط ساحة الجريدة بدعوى أنّ بعضه أكلته الأرضة، وكانت المجموعة التي تحترق مجلّدات لسنواتٍ كاملة من جريدة ( العراق) .
لقد احترق تاريخ الجريدة أمام ناظري!
حضر في ذهني مشهد رهيب من مشاهد فلم (٤٥١ فهرنهايت) المأخوذ من رواية الكاتب الأمريكي (راي برادبري) التي تتحدّث عن الإرهاب الثقافي الذي كان يمارسه السيناتور جوزيف مكارثي في الستينيات ضدّ المثقّفين بما تسمّى مدّة حكم المكارثية في أمريكا، واتّهامهم بالشيوعية، وكيف كان الكتاب ممنوعا من التداول، وكان المشهد المثير  الذي جسّده الفلم بإتقان حين يبلّغون عن سيدة، عندها مكتبة، وهذه جريمة في قانونهم، فيحرقون كتبها، وتأبى إلّا أن تحترق معها !!
قلتُ في نفسي : تدعون أن الأرضة أكلت المجلّدات، وهل هناك أرضة أكبر منكم؟
طلبتُ مقابلة  (الأستاذ) ثانية، ومن دون مقدّمات طالبت باضبارتي الشخصية، رد عليٌّ  : سنرسل جميع الأضابير إلى وزارة الثقافة، واذهب إليهم، وقدِّم طلبا بذلك!
خرجتُ خائبا منكسرا، لكن أتعلمون كيف حصلتُ على اضبارتي الشخصيّة؟
  أقول لكم من دون لفٍّ، ودوران : لقد اتّصل بي أحد عمّال المطبعة  في كراج باب المعظم  بعد سنتين من العصر السعيد ليخبرني : لقد وجدتُ في مكبِّ النفايات اضبارتك الشخصيّة !!
بدا لنا أنّ عصر ( الأستاذ) لا يمتلك مقومات الإستمرار ، مما يغري النهّازين بالتوثّب، واقتناص أقصى قدر ممكن من الفرص، والمنافع  ، مما يعني المزيد من  الإستبداد، والتعسف.
ولأنّ أبطاله جلّهم من غير المتخصّصين بالصحافة، لذا يكون التحسّس واضحا من العناصر الصحفيّة المهنيّة القديمة، فهو يستحقّ أن يُطلق عليه عصر الغمَّان
 بامتياز !             
     كنتُ قبل هذا العصر، أعدُّ ثلاث صفحات، بعد أن كلّفني رئيس التحرير د. بدرخان السندي بمسؤوليات في شهر آيار سنة ٢٠٠٦ م.. وقتها أخذني الزميل الكاتب جمعة  الجباري جانباً، وقال لي :  لقد اتفقت ومام دارا مع الدكتور السندي على تكليفك بمسؤوليّات، ورشّحناك لها، وأردف:  إنّ الذين يحترمون أنفسهم، ولايطالبون بحقوقهم، يكون من الواجب على من يعرفونهم، التعريف بهم، والإشارة إليهم، وتكليفهم.
وقتها، سألني السندي عن راتبي، فلما أجبته، دهش، وقال : حرام أن تعمل عدّة أعمال، وتأخذ راتبا متدنّيا مثل هذا، وأصدر أمراً بمضاعفة الراتب ، ثمّ أردف وهو الأستاذ بعلم النفس : أنا متأكد أنك سوف تنجح في مهمتك الجديدة ، وبابي لك مفتوح في أيِّ وقت.
مرَّ أمامي كل هذا الشريط المتدفِّق، وأنا أنتظر اللحظة التي يبلغني فيها الناقد (حسب الله يحيى) الأمر السلطاني الجديد. قال لي بأسف  : طلب مني الأستاذ رئيس التحرير  ابلاغك بتحويلك من نظام العقد الى  نظام القطعة !
استحضرتُ أبيات الشعر الدارمي العراقي، الذي يحلو لبعض الكتاب وصفه بالموشّحات الفراتيّة  تقول :
   ردتيني ابليل جلجل بالظلام أوجن
أوشدَّنْ حزمهنْ عليَّ كلِ الهموم وجن
الناس لي (عونْ) تكَصد بالشخص لو جن
    المن يودوه كَلي لو تسودن (عونْ) ؟
أجبته :ماذا؟
أجاب (يحيى) بلهجة أماتت الأمل في داخلي : الأستاذ سافر إلى أربيل صباح اليوم بالطائرة، وبإمكانك أن تستفسر منه عندما يعود !
(السيرة مستمرة.. شكراً لمن صبر معي.. يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى