أدب

النثر والشعر فخوران بسعيد

أ.د. عهود عبد الواحد عبد الصاحب
كلية التربية/ ابن رشد/ جامعة بغداد
حين قرأت للمرة الأولى ما كتبه الناقد المتألق د. سعيد حميد كاظم أخذتني أصالة الفكرة وعمق البناء إلى شواطئهما ونسيت الغاية التي أبتغيها من القراءة، فَجَرَّنِي سرده الروائي وأدخلني في عالمه المليء بالحزن يومذاك فَقَدْ كان فَقْدُ الأعزَّةِ شعلتَهُ والعاطفة مرفأهُ، لَكنَّهُ مليءٌ أيضا بالجمال في عذوبة الكلمة وأصالة الأساليب المعبِّرَة التي أعطتها الطاقات الإيحائية المتجدِّدة، فأخذتُ أبحث عن منجزِهِ المعرفي فوجدته منطلقا من الرواية وتجريبها، وقد أخذ الرواية النسوية بعد عام 2003 لتكون ميدانا لأطروحتِهِ النابضة بالعطاء لتكشف لنا عن عُمْقِ التجربة الروائية النسوية العراقية، وقد لمحتُ جانبا آخر من هذه الشخصية وقَلَمًا سيَّالا وهو يدور في أفلاك نسوية مليئة بالعطاء؛ ليرفع عنها الهيمنة الذكورية ويعطيها المكانة التي تسعى جاهدة لحفرها في الذاكرة العراقية والعربية لتنطلق منهما إلى العالمية، وإن كان التضييق عليها غير خافٍ، فكان الناقد د.سعيد حميد ـ وهو من الفئة المهيمنةـ معدِّلا للكفَّة كاشفا النقاب عن الاستحقاق النسوي بجدارة من خلال منجزٍ كبيرٍ في فحواه وفي حجمه: ((التجريب في الرواية العراقية النسوية بعد عام 2003)).
محاولا إجابة أسئلة افترضها منها: ((هل يسعى التجريب النسوي لامتلاك ناصية المتن الثقافي والمعرفي لاسترداد السلطة المقصيَّة عنه أو تجفيف منابع التسلط الذكوري الذي فرض هيمنته على الآخر؟ وهل تناسى الآخر أنَّ القهر والعبودية والاضطهاد وسائل خانقة للمشاعر الإنسانية؟)).
وقد انتخب لنفسه سؤالا مهمًّا عبَّر فيه عن المرأة أجمل تعبير إذ وصفها بأنَّها:((حضارة قائمة وفكر متوقِّد)) حيث قال:((بل يبقى السؤال الأهم هل أرادت الرواية العراقية أن تثبت أنَّ التغييب الذي مورس ضدها لايجدي نفعا تجاه حضارة قائمة وفكر أفرز كتابة شهد له ابالتميز والفرادة وهل الكتابة النسوية كتبت بالوعي الإنساني أو كتبت بلغة أنثوية خاصة بها؟)) وأجاب بتعبير دقيق طافح بألفاظ تناسب رقة النساء وأصالتهن حيث قال:((لعلنا لانجانب الصواب إذا قلنا مادامت تكتب بلغة الحب والجمال والإنسانية كما كتبت بلغة الوعي الإنساني وبمضمونه الفكري فإنها تقف في مصاف الإبداع وفي تعزيز الرافد الإنساني)).
لقد احتوى الكتاب قراءةً واعيةً لما وجد في المشهد الثقافي النسوي العراقي من أبرز الروايات، وأضفى عليها نظرته الثاقبة وحسَّه المرهف ليظهر نواحي التجريب المتعددة ومواضع التجديد المتوقِّدة، ولم يكن مقلدا في رؤيته بل مجددٌ حاول جاهدا النظر إلى النصِّ نفسه من زاوية أخرى تكشف عمق مضمونه وتبرز جمال مكنونه، لتطرح إشكالات حاولت الروايات أن تكون لسانا مجيبا عنها، والكتاب على الرغم من كثرة صفحاته (428) إلَّا أنَّه خالٍ من الحشو والتكرار، هادف نحو ملء جرار المعرفة بما ناله من سبر أغوار تلك الروايات وتحسُّسِ مواطن المعالجة النقدية بما يكشف عن قلم كاتبٍ وفكر ثاقبٍ، وقد حلَّق في فضاء واجهات العراق الروائية أمثال: (إنعام كجة جي ولطفية الدليمي، وعالية ممدوح وإلهام عبد الكريم، وإيناس أثير وغيرهن)، وأشار إلى ما استعملنه من تقنيات هيمنت على رواياتهن، وإلى الأساليب التي سخَّرنها لإبراز أفكارهن، فمن تلك التقنيات ما اشتهرت به الألوان الأدبية الأخرى كالمسرح والصحافة، فلقد أفدنَ من مَسْرَحَةِ الرواية ومن الريبورتاج الصحافي، كما تلوَّنت بتقنيتي الميتاسرد والمعادل الموضوعي وغيرها.
إنَّ كثرة الأسماء وسعة المنجز أدخلت الناقد في حيرة الاختيار، فأصاب في انتخاب الأسماء المدروسة، ولا أدري ما أسباب إحجامه عن أسماء لامعة لو درسها لزادت لآلئ كتابه ولأصاب مقتل جوابه، أمثال الروائية ميسلونهادي في روايتها الجميلة “حفيد البيبيسي”، التي تبرز اغتراب الهوية بشكل مؤثر ساخر، والروائية ابتسام عبد الله ولاسِيَّما أنها جمعت بين الكتابة الروائية والترجمة الأدبية.
ومن جميل ما يتَّضِحُ للمتأمل في هذا المنجز أنه لم يكتفِ بما أطَّره من ملف نظري بل ملأه بما وجده من تطبيق عملي أبرز تلك التجارب المتميزة وأزاح الستار عن القراءة المبتسرة لجمالياتها فلم تكن قبله قد حظيت بواسع الاهتمام فقد اقتصرت على المقالات النقدية البسيطة هنا وهناك، فلمَّا تناولها الناقد د. سعيد كشف مضمونها وأخرج الدرر من مكنونها فأنصف المرأة وأزاح عنها التهميش الذي لم تستسلم له بل أثبتت أن رافدي العراق ليس دجلة والفرات وحسب بل الرجل والمرأة بما يحملان من خزين فكري وجوهر إبداعي وجد في التغيير عام 2003 طريقا للعطاء وإثراء المشهد بالعطاء والتعبير حتى بات ذلك العطاء عصيا على المواكبة ؛ لذا انتخب منه ما كان عاكسا للتعبير عن ذلك المشهد.. إن إعجابي بهذا الكتاب لم يكن نثريا وحسب فلقد علَّقت له حين تحدَّث عن نشره تعليقا شعريا على عادتي في جواب ما ينشره د. سعيد فقلت يومها:

أتى (التجريبُ) يرفلُ بالضياءِ
فيسعدنا بفيضٍ مِنْ بهاءِ
يقولُ: سعيدُ طرَّزَنِي بعلمٍ
لهُ الانظارُ تُلفتُ باعتناءِ
فمَرْحَى بالرِّوَايةِ وهي تبدو
مُنَمَّقَـةً بإبداعِ النِّسَاءِ
وتشهد أنَّ أقلامَ الرجالِ
تحَيِّيْه الِتَرْقَى في العلاءِ
وذاك (سعيدُ) فارسُ كلِّ فنٍ
يجمِّلُه التأدبُ في الرجاءِ
تحيِّيْهِ (العهودُ) تَقُوْلُ حقا:
أخي فَخْرٌ وعُنوانُ العطاءِ

ومن الكتب التي زخرت بفيض قلم الناقد المبدع د. سعيد حميد كتاب ((انعطاف المعاني ورسوخ الأثر، قراءات في شعرية الجيل التسعيني في العراق)) وهو كتاب ثرٌّ كان ميدانا لتطبيق ما وضعه من طروحات حول الشعر التسعيني الذي أفاض الحديث عنه في كتابه ((تجييل الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء دراسة في الجيل التسعيني))، فلقد بيَّن أن العطاء الثر للشعراء التسعينينين اتضح في المعاني التي أثْرَوْها والآثار التي تركوها في الساحة الأدبية ممَّا يُشَار إلى عمق المضمون وجماليات الأداء. ومما يمن ضربه مثالا على ذلك ما تناوله الناقد من أثر توظيف التضاد في ديوان الشاعر المبدع د.مشتاق عباس معن في ديوانه الجديد (وطن بطعم الجرح) حيث يقول:

ترتديني الجرارخجلى وظمأى
والسحاب الثقال بالوصل ينأى
في ظلال جفاف يسقي جذوري
وثماري العجاف بالموت ملأى

يقول د. سعيد:((إنَّ دالة التضاد التي صنعها الشاعر عبر الجفاف/ والارتواء والخلو/ والامتلاء وأكسبها قيمة شعرية كيما يدليمضمونه ابالأثر الذهني كان لها الأثر في بيان ما يحيط بالذات، وقد تمَّ الاستدلال عبر مابثَّتْهُ الموجهات الشعرية لمزيد من الوعي الداعم إلى توثيق اكتشاف مهيمناتها على الذات وبهذا فقد وفق الشاعر في تكثيف صوره حتى صارت تشكيلاته الشعرية المتضادة تكثيفا ايحائيا لدلالات زاخرة لاحدود لبعضها لتظل نصوصه مكتنزة بالدلالات ومترعة بمآلات التجربة الشعرية))، فلقد سبر غور هذا النص المعبِّر الذي كان التضاد أساس ثرائه الدلالي ليكشف عمق إيحائه المكثَّف الذي أفضى كل تضاد فيه إلى تضاد آخر عضده بما كسر توقع المتلقي وجعله متلهفا لسماع المزيد. ويستمر قائلا:((وبينما يسير النص هذا الاتجاه وإذا به يحدو باتجاه رؤى أخرى سعيا منه للتغيير لإنتاج شكل جديد من أشكال الإفصاح عن الذات والهويَّة)). وتناول قول الشاعر نفسه:

كيف أنمو وغدي يذبح يومي
والذي يفزع أحلامي نومي

حيث يقول:((إنَّها رؤية تستبطن رؤى أخرى فيها احتمالات متعددة فضلا عن ارتكازها على الاستفهام المؤجل الذي يعقد مقاربته بين طموح شاعر يدعو إلى حوار الحضارات وبناء الإنسان وبين تهاوي الحضارات في الواقع الإنساني لذلك يتجلى القلق بسبب انحسار الذات بين واقع المغيب ومقيد نحو المجهول وبين ثنائية:(الغياب/ اليوم)،و(الحاضر/ المستقبل) الذي يمكن من خلاله تثوير العديد من الأسئلة وفتح مجال الاحتمالات المتعددة وتقديم البدائل الفكرية)).لقد غاص الناقد في عمق المعنى وأخرج لآلئه المكتنزة خلف هذا التضاد المكثَّف المعبِّر.
إنني إذ أتكلَّم عن د. سعيد حميد كاظم إنَّما أتكلم عن قامة نقدية عملت على النصَّين الأدبيين النثري والشعري واستطاعت أن تفتح مغاليقهما ولاسيَّما أنه أشار في النثر إلى إبداع الروائيات العراقيات وفي الشعر إلى جماليات التعبير لدى الشعراء التسعينيين وهم يحملون هموم الوطن ويعبرون عنها بما لم يسبقوا إليه من النصوص المكثفة الجميلة، فهنيئا للعراق بهذا القلم الثر وللنقد بهذا الفكر الحُرِّ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى