نظرة مستقبلية لعلم النفس الاكلينيكي

أ.د. / رأفت عبد الباسط محمد قابيل | أستاذ علم النفس الاكلينيكي بكلية الآداب بجامعة سوهاج – مصر

   بداية أريد أن أوضح أن علم النفس الاكلينيكي يعد أحد فروع علم النفس التطبيقية وبالتالي يجب أن ينظر إليه ليس بوصفه علم فقط وإنما هو علم ومهنة Profession and Science يهدف إلى تقديم خدمة اكلينيكية جيدة Clinical Delivery سواءً كانت تشخيصية تعتمد على تقييم نفسي علمي دقيق أو علاجية أو بحثية أو استشارية في ظل توافر تعريف ووصف علمي دقيق لهذه الخدمة، واحتمالية كبيرة في أن تحقق هذه الخدمة فائدة للعميل، تبدو واضحة في ارتفاع أثاراها الإيجابية على العميل مع انخفاض نسبة الأخطاء والأثار السلبية.  

   من الملفت للنظر أنه توجد دعوة تتردد كثيرا في وسائل الأعلام، وعلى ألسنة العديد من المسئولين بضرورة تجديد الخطاب الديني، وكأن هذا المجال هو المجال الوحيد الذي يحتاج إلى تجديد، في حين أن هذا التجديد يعد أمراً ضرورياً يجب العمل عليه في مجالات أخرى منها مجال علم النفس الاكلينيكي على سبيل المثال، فالخطاب الاكلينيكي في حاجة إلى تعديل وتجديد أيضاً، بحيث يشمل هذا التجديد موضوعات ثلاثة رئيسه في هذا المجال:

  • البحث العلمي
  • التدريب والعلاج النفسي
  • الممارسة

مع الأخذ في الاعتبار أن البحث العلمي هو الذي يقود حركة سير وتطور المجالين الأخرين التدريب والممارسة، وأن الاهتمام بهذه المجالات الثلاثة يضمن لنا في النهاية جودة الخدمة الاكلينيكية المقدمة للمرضى.

على أن تكون محاور هذا التجديد على النحو التالي:

– الحفاظ على التنوع أو التباين أو الاختلاف، وهذا التنوع يضمن لنا الإبداع وعدم الاكتفاء بمصدر واحد للمعرفة، أو طريقة واحدة، أو منهج بحثي واحد للوصول إلى حقيقة ما يعاني منه المريض، أو أسلوب أو فنية علاجية، أو أسلوب واحد من أساليب التقييم النفسي في ضوء تنوع المشكلات والاضطرابات الإكلينيكية.

– الوعي بوحدة العلوم، وأن علوم الإنسانية يوجد بينها وحدة وعلاقة، ومن ثم يجب الانفتاح على تلك العلوم وعدم التقوقع فقط داخل علم واحد فقط، وبناءً عليه لا يمكن لي أن أتصور معالج نفسي ناجح دون أن يكون مطلع على علم الانثروبولوجيا (علم دراسة الإنسان)، أو علم الاجتماع، أو الأدب، أو علم النفس الاجتماعي، أو ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه المريض.

– ضرورة التخلي عن النظرة الدوجماطيقية مثل الإدعاء على سبيل المثال بأن التحليل النفسي هو “علم زائف” يتميز بعدم وجود منطق، وعيوب منهجية، وأطروحات تحليلية تتنافى مع البيانات التجريبية، فتلك النظرة غير قادرة على استيعاب ما هو جديد أو التعقيد المتزايد لواقع يغلب عليه حالة من التغير والصيرورة.

– وليكن الهدف الذي يجب أن نجتمع عليه هو تحقيق الفائدة والمنفعة للأخرين، وأقصد بالأخرين المرضى أو من يطلب المساعدة، وذلك من خلال الحرص على تقديم خدمة اكلينيكية جيدة.

وللأسف فإن الخطاب الاكلينيكي الشائع المسيطر والغالب هو الخطاب الذي يروجه أنصار النموذج الطبي أو البيولوجي The medical / biological model الذي يرى:

– أن الاضطرابات العقلية لها سبب أم مسببات، والجميع يتفق على هذا، ولا ضير في هذا، إذ أن كل العاملين -باختلاف توجهاتهم، ومدارسهم التي ينتمون إليها -يروا استحالة وجود ظاهرة ما بدون سبب (مبدأ الحتمية Determinism).

 إلا أن الاختلاف مع هذا النموذج الطبي أو البيولوجي يبدو في النقاط التالية:

– الادعاء بأن أسباب المرض عضوية فقط.

– وأن هذه الأسباب العضوية هي وحدها التي تؤدي إلى وجود أعراض، والتي يتم تشخيصها في صورة مرض، وأن المرض هو العرض، وأن العلاج فقط يتمثل في إزالة واختفاء هذا العرض، باعتبار أن زوال العرض يعني زوال المرض، وأن العلاج الدوائي كفيل وحدة بإزالة هذا العرض.

   يجب علينا ملاحظة أن موضوعات البحث العلمي والممارسة والتدريب في علم النفس الاكلينيكي، والعلاج النفسي موضوعات متشابكة وبينها ارتباط إلا أن البحوث هي التي يجب أن تقود وتوجه موضوعي التدريب والممارسة في علم النفس الإكلينيكي:

 

أولاً: البحوث الاكلينيكية واكتساب مهارات كيفية الاستفادة من نتائج البحوث وتطبيقها في مجال الممارسة الاكلينيكية.

قد دعت النظرة الموضوعية المسيطرة في علم النفس الاكلينيكي للآسف إلى الاكتفاء فقط أو الاعتماد فقط على منهج بحثي واحد وهو المنهج الكمي أو السيكو متري باعتباره المنهج الوحيد الآمن والضامن للوصول إلى الحقيقة العلمية التي يمكن أن نثق فيها ونعتمد عليها، وهو المنهج الذي يتعامل فقط مع ما هو ظاهري ، وملموس، ومحسوس، وعياني، ويعتمد على المقاييس والاختبارات النفسية، والإحصاء، ويرى أن الظاهرة النفسية ما هي إلا امتداد للظاهرة الطبيعية، فما ينطبق على الظاهرة الطبيعية ينطبق على الظاهرة النفسية، والذى يحظر أنصاره دراسة أي ظاهرة غير قابلة للقياس أو الملاحظة أو غير عيانيه أو محسوسة ، أو بدون إشارة بيولوجية أو مادية محسوسة وواضحة، مما يجعلنا نستبعد دراسة ظواهر نفسية مثل اللغة، الوعي، الإدراك، المشاعر، أو الحب … وهكذا ،فهو منهج يعتمد في الأساس على الفلسفة الموضوعية Objectivism، والفلسفة الوضعية Positivism التي تقوم على افتراض أن الواقع يمكن تصوره بعيد، وبشكل مستقل عن الذات المراقبة، وبناءً عليه فإن المعرفة وفقاً لهذا التصور ما هي إلا انعكاس وتمثيل لما هو موجود في الواقع.

   ومن الملاحظ أن هذا المنهج حتى وإن ثبت جدواه أو فائدته في دراسة بعض الظواهر، فقد ثبت أيضاً عدم جدواه في دراسة بعض الظواهر الأخرى التي نهدف من دراستها التعرف على الديناميات التي تكمن وراء حدوث تلك الظواهر، الأمر الذي يقتضي عدم الاعتماد على منهج بحثي واحد، وإنما استخدام مناهج متنوعة ومختلفة تتضمن ما هو كمي، وما هو نوعي، وهنا تظهر إشكالية كبيرة في علم النفس بصفة عامة، وعلم النفس الاكلينيكي بصفة خاصة، وهي كيفية التوفيق بين هذا التصور الفلسفي الذي يعتمد في الأساس على النظرة الموضوعية أو الوضعية وتصور أخر يدعى بالبنائية Constructivism الذي يقوم على فرضية أن الواقع لا يمكن تصوره بمعزل عن الذات المراقبة، بحيث لا يمكن تصوره بشكل مستقل عن الذات المراقبة، وبناءً عليه فالمعرفة وفقاً لهذا التصور ما هي إلا تمثيل داخلي للواقع، وهذا التصور البنائي هو الأساس الفلسفي لمنهج أخر وهو المنهج الكيفي، فالحرص على التنوع من وجهة نظري يحل هذه الإشكالية، ويجعلنا لا نقتصر على منهج بحثي واحد، وإنما يجعلنا نستعين بأكثر من منهج، والذي يحدد المنهج المناسب هو طبيعة الظاهرة التي تخضع للبحث، وبلغة اكلينيكية طبيعة المشكلة التي يعاني منها المريض.

 

ثانياً: التدريب والعلاج

يهدف التدريب بشكل عام إلى التطوير والارتقاء بكفاءة الاختصاصي النفسي الاكلينيكي من حيث السرعة والدقة في المهام المهنية المكلف بها، والتي يمكن حصراه في النقاط التالية:

– إجراء البحوث الاكلينيكية.

– التقييمات النفسية الاكلينيكية بحيث لا تعتمد على أسلوب تقييمي واحد.

– المشاركة في وضع الخطط العلاجية لأنواع مختلفة من الاضطرابات.

– القدرة على إعداد برامج التدخل بكافة أنواعها وتطبيقها (التدخل الوقائي، التدخل التنموي التطويري، التدخل المعرفي الذي يهدف إلى تعديل المعتقدات والأفكار الخاطئة، التدخل العلاجي، التدخل التأهيلي أو إعادة التأهيل.

– الحرص على التنوع في الاستعانة بأساليب وفنيات متنوعة التي تراوح عددها من 250 إلى 400 أسلوب علاجي، لا يشترط أن يكون الاختصاص النفسي ملماً بجميع هذه الأساليب ولكن أقل الإيمان أن يكون على دراية ومعرفة بهذه الفنيات مع التعمق والتمكن من استخدام الأساليب العلاجية الأكثر شيوعاً واستخداماً.

– يجب أيضاً الإلمام بمحتويات العلوم الصحية، والعلوم الإنسانية (مثل الانثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، والأدب، والثقافة)، وأخذها في عين الاعتبار، وإدراك أهمية معرفة تلك المحتويات العلمية.

– ويجب أيضاً إدراك أن علاج المريض وشفائه لا يرتبط فقط بزوال أعراض المريض، ولكن يرتبط بالأحرى بنظرة المريض لنفسه، والأخرين، والمجتمع الذي ينتمي إليه، وحرصه على أن يكون مصدر نفع وفائدة لنفسه والأخر والمجتمع الذي يعيش فيه.

– ومن ناحية أخرى فإن التدريب يتطلب منا تبني الموقف النقدي المستنير الواعي لكل ممارساتنا الاكلينيكية، والتغلب على العزلة التقليدية من المدارس المختلفة، بمعنى الانفتاح على النظريات والمدارس المختلفة دون التقوقع حول نظرية أو مدرسة علاجية بعينها، والتعصب لها.

 

ثالثاً: الممارسة

جديد بالذكر بأن ممارسة الأدوار الأساسية الثلاثة المتمثلة في: البحث العلمي والتقييم النفسي الاكلينيكي والعلاج النفسي تشكل جوهر الممارسة الاكلينيكية، وأن هناك عدة أمور تتعلق بالممارسة الاكلينيكي يجب مع الانتباه إليه:

– التنوع في استخدام أساليب تقييم متنوعة، وعدم الاكتفاء فقط بأسلوب واحد فقط.

– التنوع في استخدام الأساليب العلاجية، وعدم الاقتصار على أسلوب علاجي واحد، وليكن منهجنا منهج انتقائي ينفتح على كل الأساليب والفنيات العلاجية في ضوء طبيعة الحالة المرضية التي نتعامل معها.

– العمل بحكمة الفريق As a team work يضم كل من الطبيب النفسي المعالج النفسي الاختصاصي النفسي الاختصاصي الاجتماعي الممرضة.

– تفعيل دور الاختصاصي النفسي مصحوب بتغيير نظرة الطبيب النفسي له.

– العمل على تغيير القانون الحالي المنظم لعمل المعالجين النفسيين من غير الأطباء لكونه يمنح مزاولة المهنة لكل من يحمل درجة الدكتوراه في أي فرع من فروع علم النفس، بحيث يُعطى هذا الحق فقط لمن يحمل فقط درجة الدكتوراه في تخصص علم النفس الاكلينيكي بشرط أن يقضي سنة كاملة في مستشفى حكومي أو خاص أو أهلي للاضطرابات النفسية والعقلية، بالإضافة إلى تلقي عدد ساعات تدريبية معين يتم الاتفاق عليها، وتحديدها في مجالات التقييم النفسي الاكلينيكي والتشخيص والعلاج وإجراء البحوث وتقديم الاستشارات.

– المطالبة بإنشاء نقابة مهنية للاختصاصيين النفسيين تدافع عن مصالحهم، وتراقب أعمالهم، وتطبق القانون على المخالفين منهم.

–  العمل وفقاً لنموذج العالم – المهني (الممارس) الذي يرى بضرورة الجمع بين العلم النظري والممارسة الاكلينيكية بشكل تفاعلي خلاق ومبدع، محافظاً على مبادئ التنوع، ووحدة العلوم، وضرورة تحقيق الفائدة لطالبي المساعدة.

– الالتزام بما جاء من مبادئ أخلاقية في الميثاق الأخلاقي الخاص بممارسة هذه المهنة الإكلينيكية.

وختاماً ..فإن علم النفس الإكلينيكي من التخصصات القريبة جداً من التخصصات ذات الصلة بالخبرة البشرية بكل جوانبها الاجتماعية، والتاريخية، والثقافية، والسياسية، ويمثل علم النفس الاكلينيكي مجالاً متقدماً للمعرفة التي ينظر لها لا بوصفها فقط انعكاس للواقع أو تمثيلاً له، وإنما أيضاً بوصفها تمثيل داخلي للواقع، إن النظرة المستقبلية لعلم النفس الاكلينيكي تقتضي منَا الاستعانة بمناهج بحثية متعددة وعدم الاكتفاء فقط بالمنهج الكمي أو السيكومتري، وتقتضي أيضا تلك النظرة المستقبلية أن تكون الممارسة الاكلينيكية بمثابة تغذية راجعه لجدوى النتائج البحثية التي تجرى في مجال علم النفس الاكلينيكي، فلا يوجد برنامج علاجي ذات فائدة ما لم يكن له أثاره الإيجابية على الممارسة الاكلينيكية، التي تقتضي الانفتاح الفكري والثقافي، وعدم الانغلاق أو التقيد بوجهة نظر واحدة، فالعالج أو الطبيب النفسي بمثابة النحلة التي تتنقل بين المدارس العلاجية المختلفة تنتقي منها الأساليب العلاجية المناسب في ضوء فهمه الواعي لحالة المريض حتى يتمكن من علاجه، وتحقيق الشفاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى