من منافذ التجريب في الشعر العربي

د. عبد الله جمعة | شاعر مصري وناقد يقيم في الإسكندرية

في مرحلة ما من مراحل العمر الشعري يصل الشاعر إلى مرحلة من النضج الشعرفكري يستشعر أن القوالب التعبيرية و الفكرية المألوفة و المتعارف عليها قد بدأت تضيق على تجربته و من ثم فهو في حاجة إلى رداء شعري جديد يكون أكثر رحابة و اتساعًا لاستيعاب ذلك الزخم الخبراتي و المعرفي الذي حازه و يحتمل ذلك التضخم الذي بلغته ذاته الشعرية فيفكر في دخول دائرة التجريب محاولا وضع بصمته الخالدة على الفن الشعري سواء أكانت هذه البصمة على الشكل أم على المضمون ، و لكن يجب أن نعلم أن هناك من الشعراء ممن دخلوا تلك الدائرة من وقف عند التجريب الشكلي و البعض الآخر وقف عن التجريب المضموني و هناك فريق ثالث دخل التجريب شكلا و مضمونًا و هم ندرة نادرة من الشعراء الذين تأهلوا لهذه المرحلة الخطيرة .

مع وضع في الاعتبار أن هناك من الشعراء الكبار الذين يمتلكون تاريخًا حافلًا تعرضوا للفشل الذريع حيث لم يستطيعوا تقديم أُطُرٍ جديدة قابلة للإقناع فأنهوا تاريخهم الشعري الحافل نهاية بائسة و لم يبقَ لهم في ختام تاريخهم سوى الفشل و اتهموا من قبل جمهور التلقي و النقاد بالتخريف أو التخريب و تحت يدي نماذج من ذلك التخريف أو التخريب سأستعرضها في حينها .

و مع ذلك فهناك نماذج دخلت تلك المرحلة فأحدثت موجات شعرية جديدة و سَجَّلَهُم التاريخ كرواد للتجديد في الفن الشعري و من أمثال هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر : نازك الملائكة – صلاح عبد الصبور – أمل دنقل – صلاح جاهين – نزار قباني ….

لذلك أقول إنَّ هذه المرحلة خطيرة تضع الشاعر أمام محكمة النقد الأدبي فإما أن يحصل على براءة التجديد و إما أن يُدَانَ ما بقي من تاريخ الأدب .

و في الحقيقة فإن الشعر العربي منذ نشأته – شأنه شأن كل الكائنات التي تتكيف مع البيئة – قد مر بمراحل و مستويات مختلفة من التجريب بدءًا من (عمرو بن كلثوم) الذي خالف البداية الطللية و استهل قصيدته المعلقة بوصف الخمر مرورًا بالتغييرات التي أحدثها شعراء صدر الإسلام في القصيدة العربية ثم التحولات التي نالت القصيدة في عصر بني أمية إلى ظهور مدرسة المحدثين التي سعت إلى تطوير و تطويع الشعر في العصر العباسي أمام مدرسة المحافظين امتدادًا لعصرنا الراهن و لمتابعة ذلك مسارات خاصة أخوض فيها إن شاء الله في حينه . و في عصرنا هذا هناك نماذج لهذا التجريب و الذي نوهت منذ قليل بأنه يشتمل على اتجاهين ؛ الشكل و المضمون .

 

مثال التجريب الشكل:

و يتمثل هذا التوجه من التجريب في عدة عناصر مست شكل القالب التعبيري و منها على سبيل المثال لا الحصر :

١- التجريب في القالب الموسيقي .

٢- التجريب في القالب التكويني للجملة العربية .

٣- الاشتقاق و استحداث مفردات جديدة على اللغة .

٤- اعتماد الجانب الصوتي و جعله قوامًا من قوامات الدراما الشعرية .

٥- التطور الأسلوبي ودمج تقنيات الفنون الأخرى و توظيفها لخدمة الجانب السردي في القصيدة ….

و كثير غير ذلك.

 

مثال التجريب في المضمون:

و يتمثل في عدة عناصر أيضا مست مضمون القصيدة و منها على سبيل المثال لا الحصر:

١- التطور الموضوعي .

٢- اعتماد الرؤى الفلسفية في نسيج القصيدة .

٣- تحويل مسارات المدلول اللفظي إلى آفاق جديدة .

٤- تعزيز الحبكة الدرامية في القصيدة بإدخال تقنيات الفنون الأخرى ككسر الحيز الزماني و المكاني و التنقل عبرهما خلال التحول من حدث شعري لآخر داخل القصيدة .

وحقيقة فإن إشارتي هنا لهذه العناصر ليست من باب الحصر و إنما من باب التنويه فهناك عناصر أخرى للتجريب في الشكل و المضمون بعضها قد جمعته و ربما يأتي بعدي من يكتشف عناصر إضافية فيضيفها في هذا المضمار . ومن الأمثلة الشاهدة على دخول بعض الشعراء دائرة التجريب ما سيلي:

التجريب الموسيقي

و هو تجريب شكلي يدخل على شكل القصيدة و يكون بمحاولة الخروج عن أطر الموسيقى التقليدية و ليس من الضروري أن يحطم الشاعر أسس الموسيقى التقليدية و إنما هو إما أن يحافظ عليها و يعيد توظيفها لتحقيق مساقط نفسية و درامية جديدة و إما استعادة ما فقد منها و أصبح غير متداول و إما الخروج منها جزئيًّا أو كليًّا مع الوعي الكامل أن هذا الخروج لابد أن يكون محسوبًا و أن لديه عناصر تعويضية حتى لا يفقد الشعر إيقاعه الأصيل الذي هو أصل من أصوله .

و خير من دخل تلك الدائرة عن وعي و اقتدار (نزار قباني) ؛ إذ دخل التجريب على كل مستوياته شكلا و مضمونًا و كي لا أتوغل في الجانب السردي غافلاً الجانب التطبيقي فسأسارع بالنظر في إحدى تجاربه و كيف طوَّع تفعيلة القصيدة العربية المتعارف عليها لخدمة غايته في التجريب إلا أنه صَفَّها و رتب نسيجها على غير المألوف و كأنه قد أخذ المستعمل و أعاد نسجه و توظيفه لحياكة ثوب جديد لم يلبس من قبل .

إن ذلك يتجلى في قصيدته “منشورات فدائية على جدران إسرائيل” و نظرًا لطول القصيدة جدًّا فسوف أجتزئ منها موطئ الشاهد فقط كلما عَنَّ لي مشهد تجريبي منها … يقول :

لن تجعلوا من شعبنا

شعبَ هنود حُمْر

فنحن باقون هنا

في هذه الأرض التي تلبس في معصمها

إسوارةً من زهر

حين دعت الشاعرة العراقية (نازك الملائكه) إلى الشعر التفعيلي فإنها قد ذكرت أنه لا يأتي إلا من البحور الصافية كالوافر و المتقارب و المتدارك و أكدت أنه لا يأتي من البحور المركبة ، و لكن نزار قباني استحدث فوق ما دعت إليه نازك الملائكة فأتى بقصيدة تفعيلية من بحور مركبة ؛ إذ استخدام في هذا المقطع تفعيلتين مختلفتين هما “مستفعلن” /٥/٥//٥ و “فاعلن” /٥//٥ و لكنه كان على وعي تام بإدراج تفعيلة “فاعلن” في نهاية السطر الشعري كي لا يربك أذن المتلقي فجعل منها جزءًا من التقفية التي يحرص عليها بعض شعراء التفعيلة في نهاية الدفقة الشعرية و هي هنا في هذا المقطع حرف “الراء” مع تنوع حرف التقفية في القصيدة ككل وهو يلزم نفسه بالتفعيلة ذاتها و كأنه – بلسان حال القصيدة – يقول لنا ؛ أنا أعي ما أفعل و على علم بأن الموسيقى تحتاج مني ذلك فلستُ عشوائيًّا في التجديد الموسيقي … و سوف أفصل الأمر للتوضيح :

لن تجعلوا من شعبنا شعب هنود حمر

“/٥/٥//٥” “/٥/٥//٥” “/٥///٥” “/٥/٥”

فهو في هذا السطر يلتزم تفعيلة “مستفعلن” حيث كررها ثلاث مرات ثم ختم بالتفعيلة الرابعة “فاعلن” التي أدخل عليها علة “القطع” بحذف ساكن الوتد المجموع ثم تسكين ما قبله ، فأصبحت “فَعْلُنْ /٥/٥”

و لأن الشاعر يتحرك نحو الابتكار و التجديد بمنطلق العالم فهو مدرك تمامًا أن العلة إذا هي وقعت في آخر البيت الشعري وجب التزامها ،و من ثم فقد ألزم نفسه أو كاد في نهاية كل سطر شعري بتفعيلة (فَعْلُنْ) مقطوعة .

و قد يسألني سائل : ما الذي أجبره على تفعيلة (فاعلن) مقطوعة في نهاية كل دفقة شعرية ؟ أقول لقد فعل ذلك لسببين :

– الأول : أن التضخم الفكري و النفسي عند الشاعر جعل التنامي الدرامي للحدث الشعري في حاجة لأن يبدأ بطيئًا ثم يسارع الإيقاع الدرامي إلى أن يبلغ نهاية الدفقة بهبوط نفسي مفاجئ فكان لزامًا على الموسيقى أن تواكب هذا التنامي الدرامي .

– الثاني : أن الشاعر أراد أن ينبئنا أنه يتحرك نحو التجريب بوعي و اقتدار و لم يأتِ بالأمر عشوائيًّا أو بمحض الصدفة أو حتى سعيًا وراء التيسير على نفسه .

و لنجرب في الدفقة الشعرية التي تليها :

“فنحن باقون هنا في هذه الأرض التي تلبس في معصمها إسوارةً من زهر”

سأرسم تلك الدفقة عروضيًّا لأبيِّنَ كيف أن الرجل يتحرك في الإطار التفعيلي عالمًا بما يفعل و ليس متخبطًا على الرغم من صعوبة ما يفعل فلو كان ينهج بحرًا شعريًّا عموديًّا ما أرهق نفسه كل ذلك الإرهاق و هذا يبين لنا أن نزار قباني لم يلجأ إلى التجريب سعيًا وراء تيسير الأمر على نفسه بل رغبة في التجريب و إثبات قدرته على التجديد في موسيقى الشعر العربي .

//٥//٥ – /٥///٥ – /٥/٥//٥ – /٥/٥//٥ – /٥///٥ – /٥///٥ – /٥/٥//٥ – /٥/٥

فهذه الدفقة أتت بثماني تفعيلات سبع منها “مستفعلن” و الأخيرة “فاعلن” مقطوعة ؛ أي “فَعْلُنْ /٥/٥”

فالتفعيلات الثالثة و الرابعة و السابعة “صحيحة” و الأولى “مخبونة” و الثانية و الخامسة و السادسة “مطوية” و هذه هي التفعيلات السبع الأولى التي في أصلها “مستفعلن” و أما “فاعلن” الأخيرة فقد أتى بها “مقطوعة” بما ألزم نفسه به في نهاية كل دفقة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى