اغترب.. تتجدد.. كتاب غواية الذكريات

جمانة طه | كاتبة واديبة سورية
ليس السفر والارتحال، أمرًا غريبًا وطارئًا على الإنسان وعلى الشعوب. فمذ خلق الله الأرض ومن عليها والإنسان يسير في الأرض مرتحلًا من مكان إلى آخر سعيًا للاستقرار وابتغاء للرزق، متمثلًا الآية الكريمة: “قل سيروا في الأرض” العنكبوت/20
وقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:”ليس بلدٌّ أحقَّ بكَ من بلد، خيرُ البلادِ ما حَمَلَكْ”.
أو ورغبة بالتعرف على أناس وثقافات وخبرات مختلفة:”يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” الحجرات/13
وقد تنبه إلى قيمة السفر وأهميته عدد كبير من الأدباء والشعراء العرب، فالشاعر الجاهلي الشنفرى يّحضُّ على الرحيل والبحث عن حياة أفضل كل مَن لا يتحقق له الأمان في وطنه ولا يتوافر له العيش الكريم:
فَقدْ حُمَّتِ الحاجاتُ والليلُ

مقمرٌ وَشُدَّتْ لِطيَّاتٍ مَطَايا وَأرْحُلُ
وفي الأرضِ مَنْأَى للكريمِ عن الأذى

وفيها لِمَنْ خَافَ القِلَى مُتعَزَّلُ
لَعمرُكَ ما بالأرضِ ضِيقٌ على امرىءٍ

سَرَى رَاغِباً أو راهباً وهو يَعْقِلُ
وإذا كان الركود في المكان يستل من المرء نشاطه الجسدي وحيويته الذهنية والروحية، فإنَّ السفر يساعده على تجديد نفسه وتنمية عقله في رأي الشاعر أبي تمام:
وَطُولُ مَقامِ المَرءِ في الحَيِّ

مُخْلِقٌ لِديباجتيْهِ، فاغتربْ تتجددِ
فإنِّي رأيتُ الشمسَ زِيدتْ محبةً

إلى النَّاسِ، أَنْ ليستْ عليهم بِسرمَدِ
ففي ارتياد الآفاق متعة اقتنصها عدد من الرواد الأوائل، وصدّروها إلى الأجيال متعة وعلمًا ومعرفة وأدبًا. فمدونة أدب الترحال في السرد العربي كبيرة ومتنوعة، منذ ظهورها على يد أعلام أفذاذ مثل أحمد بن فضلان الذي قام في العام 921 بتكليف من الخليفة العباسي المقتدر بالله، برحلة استغرقت أحد عشر شهرًا من بغداد إلى الصقالبة الذين يسكنون على أطراف نهر الفولغا. وبعد عودته كتب “رسالة في الروس” يظهر فيها اهتمامه بالإنسان وأحوال معيشته، أكثر من اهتمامه بجغرافية البلاد التي رآها. والمسعودي ت 957 وضع فيما رآه في البلاد التي زارها عشرات المؤلفات، أشهرها “مروج الذهب”. وابن جبير المتوفى في العام 1217 سجّل رحلاته الثلاث في كتاب “رحلة ابن جبير”. وابن بطوطة وقد توفي في العام 1377، استغرقت رحلاته حوالي 29 سنة وضع فيها كتابه الشهير “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”. وتشير الكتب المتعلقة في هذا المجال إلى أن بعض العرب سافروا إلى أوروبا وأميركا في القرن السابع عشر الميلادي، ومنهم الخوري إلياس يوحنا الكلداني الموصلي . ارتحل الخوري الموصلي إلى أوروبا ومنها إلى أميركا ما بين الأعوام 1668-1683، فكان أول عربي يزور أميركا. وقد سجل رحلته في كتاب أسماه “رحلة أول سائح شرقي إلى أميركا” وضمنه تجربته ومشاهداته عن مختلف القبائل الهندية، وما استكشفه من طبائعها وطباعها. ومع تراكم الأيام كثرت أعداد الرحالة، وتعددت رحلاتهم وغايتها. ففيهم من قام بها حبًا بالمغامرة والاستكشاف، وفيهم من قام بها رغبة بالتعرف إلى ثقافات مختلفة وإنسان مختلف.
كانت رحلات العرب إلى الغرب الوسيلة الأهم، التي عرَّفَتهم بمظاهر الحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر. ودليلنا على ذلك رفاعة الطهطاوي1801-1873 ورحلته إلى باريس موفدًا من قبل محمد علي باشا، وكتابه الشهير “تلخيص الإبريز في تلخيص باريز” ولخص فيه مشاهداته وانطباعاته عن المدينة التي أقام فيها ست سنوات من 1826-1831. لتأتي بعده رحلة خير الدين التونسي 1810-1890 وتسفر عن كتاب “أقوم المسالك في معرفة الممالك” الذي وضعه بعد إقامة طويلة في فرنسا. كما مكنته رحلاته العديدة إلى بلاطات أوروبية، من دراسة أسس المدنية الأوروبية وأحوالها. أما أحمد فارس الشدياق 1804-1887 فكانت رحلته إلى مالطة لتعليم اللغة العربية، وتولي إدارة المطبعة الأميركية، فكتب انطباعاته عن رحلته هذه في كتاب “الواسطة في معرفة أحوال مالطة”. ولما دعي إلى انكلترا لتعريب الكتاب المقدس، سافر إليها في العام 1848 ثم غادرها إلى فرنسا وأقام بين المدينتين حتى العام 1855
ووضع كتاب “كشف المخبا عن فنون أوروبا”، يصف فيه رحلاته الأوروبية. وعندما سافر فرنسيس مراش1836-1873 إلى فرنسا ليدرس الطب، عاد بعد سنتين إلى مدينته حلب في سورية وكتب “رحلة إلى باريس”.
استمر الرحالة العرب برحلاتهم وبالكتابة عنها، حتى صار هذا النوع من الكتابة فنًا أدبيًا قائمًا بذاته. فكل مَنْ يسافر ويرتحل يختزن في ذاكرته مدنًا شاهدها وتفاصيل عايشها يحب أن يرويها شفاهًا أو يستعيدها كتابة، ولعل ذلك هو أجمل ما في السفر. ولا ننسى أن الأدباء العرب الذين هاجروا إلى الأميركيتين أرَّخوا هجرتهم شعرًا ونثرًا، وتركوا هذا الأدب شاهدًا على معاناتهم من وطأة الاغتراب وعن حنينهم إلى الوطن.
وإذا كانت المدن لم تغب عن خريطة التاريخ الإنساني منذ خلق الله الكون، وظل الناس يتذكرون تاريخ أور وسومر وأكاد، ويقرؤون في القرآن الكريم عن “إرم ذات العماد* التي لم يخلق مثلها في البلاد* وثمود الذين جابوا الصخر بالواد*” فهذا دليل دامغ على تجدد الإنسان وإبداعه، وعلى قدرته على التكيف مع البيئة التي يوجد فيها. فنحت من الحجر حياة، وجعل من صمت التراب ضجيجًا محببًا.
تناولتْ تجربتي الأدبية على قصرها الزمني، أكثر من جنس أدبي. ومع ذلك لم أكن أتوقع أن أكتب عن تجربة السفر والترحال، وأدوِّنُ مشاهداتي وانطباعاتي عن البلدان والمدن التي زرتها بمهمة ثقافية أو لغاية ترفيهية. وعلى ما يبدو أن الوحدة في بعض الأحيان توقظ في النفس ذكريات هاجعة في مستقر بعيد عن النور والهواء، فتصبح هذه اليقظة حنينًا يبلسم الفراق وصورًا تطرزها أعين رأت وذاكرة كتبت ومشاعر أثبتت أنها عصية على الاندثار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى