المسرح، في ليلة وحشته!

عبد الرزّاق الربيعي | شاعر مسرحي وكاتب صحفي

Razaq2005@hotmail.com

قبل أيّام قليلة، مرّ يوم المسرح العالمي ( 27 مايس) بهدوء، لا عروض، ولا احتفالات، كما اعتدنا في كلّ عام، فبقي المسرحيون قابعين في بيوتهم، حتّى أطلق أحد المسرحيين على تلك الليلة “ليلة الوحشة”! لكنّهم لم يكتفوا بمباركة بعضهم، البعض، عبر الرسائل، والاتّصالات، ومنشوراتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل تجاوز ذلك إلى تقديم عروض سبق للجمهور أن شاهدها، عبر شبكات التواصل ، ولعلّ المسرحية الأردنيّة “أسماء مصطفى” هي الأنشط في هذاالمجال، إذ قدّمت العديد من العروض لمتابعي صفحتها في “الفيسبوك”، وضمن هذه الأجواء التي صار فيها فايروس” كورونا” هو البطل الأوحد في الساحة، بدّدت الهيئة الدولية للمسرح، وحشة المسرحيين العرب بنشر كلمة العام التي دعت لكتابتها المسرحي الباكستاني “شاهد نديم”، كما اعتادت في كلّ عام بهذه المناسبة، وكانت الكلمة حاشدة بالكثير من العبارات، والدروس التي من شأنها أن تمنح العاملين في حقل المسرح طاقة إيجابيّة، وحماسا للعمل المسرحي، وقد استوقفتني في هذه الرسالة فقرة تقول “في عام ٢٠٠٤ ، وبعد عرض مسرحي في البنجاب اقترب رجل عجوز برفقته صبي صغير من الممثل الذي يؤدي دور الشاعر الصوفي الكبير بولهي وقال: “حفيدي مريض جداً، أرجو أن تدعو له بالشفاء”. فوجئ الممثل، وقال: ” يا أبتاه لست بولهى شاه ، أنا مجرد ممثل يؤدي دوره”. عندها أخذ الرجل العجوز بالبكاء وقال: “أرجوك كل ما أطلبه هو الدعاء لحفيدي، أنا متأكد من شفائه لو تكرمت بالدعاء له”، فاقترحنا على الممثل أن يلبي رغبة الرجل العجوز. وبالفعل قام الممثل بالدعاء للصبي وإرضاء الرجل العجوز”

تلك الفقرة تؤكّد أن الممثل البارع صاحب الرسالة،  يكسر مساحة الإيهام، ويجعلعامة الجمهور يرفعه إلى مقام رفيع، قد يصل إلى مرتبة القداسة، وقد  ذكّرتني  بأغرب ما مرّ بي، في أواخر الستينات، ببغداد، ومدينتي الشعبيّة التي كانت تسمّى آنذاك “مدينة الثورة”، عندما تقام في العشر الأوائل من شهر محرّم الطقوس التي  تجسّد واقعة “الطف”” تسمّى محلّيّا “التشابيه” “، كنت أرى نساء يتجمهرن في مكان واحد، وينتظرن سقوط الممثل الذي يؤدي دور ” الحسين”(رض)، وغالبا ما يشترط أن يؤدّيه شخص بمواصفات معينة، ومشهود له بالإستقامة، عكس بقيّة الممثلين الذين يؤدّون بقية الأدوار، من دون قيد، أو شرط، ليهجمن على التراب الذي يسقط  عليه، ويحملنه للتبرّك به، مع أنه قبل لحظات من سقوط الممثل لم يكن سوى تراب لا يختلف عن سواه!!

عندما نفحص هذين النموذجين، نكون قد تجاوزنا مجال الممثل المندمج وفق نظرية المخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي التي ذكرها في كتابه” إعداد الممثل” وتتلخلص بأن الممثل عندما يؤدي دوره ينبغي عليه معايشته معايشة حقيقية قائمة على الصدق في الأداء والتعبير، وندخل في فضاء آخر هو الجمهور المندمج!، وهذا يحدث معي في أحيان كثيرة عندما أعتلي خشبة المسرح لأحيي ممثلا أدّى دورا أبهرني، فأقدّم له التهنئة على نجاحه في الأداء، وأفاجأ بأنّ الممثل، خصوصا إذا لم تكن تربطني  به معرفة سابقة، يمتلك صفات جسمانية تبدو مختلفة عن التي رأيتها، وأنا أشاهده من مقعدي بين الجمهور، وهو يقف على خشبة المسرح، يمثّل الشخصيّة المسندة إليه!! كأن يبدو  على الخشبة أطول قامة، مما هو عليه في الحقيقة، أو أكثر مهابة، أوأقل وسامة، أو العكس، وهذا الاختلاف هو المساحة التي يلعب عليها الممثل حين يتقمّص شخصيّة، فيكون قد خرج من جسده الحقيقي، ودخل في جسد الشخصية التي يجسدها، وحين ينتهي العرض، ويرمي ثياب الشخصية، شعوريّا، حتى لو بقيت الاكسسوارات نفسها، يكون قد عاد إلى حجمه الطبيعي!

الواقعة التي تحدّث عنها الباكستاني “شاهد نديم”، وما خزنته ذاكرتي من مشاهد محفورة من زمن الطفولة، وماتحمل في طياتها من قراءة ميثولوجية، واندماجي مع الشخصيات التي يؤدّيها الممثلون كلّها تؤكد قيمة المسرح، ودوره في حياة الشعوب، وفعله الحقيقي، الذي لم يجعله يقف منعزلا عن قضايا أفراد المجتمع، وتطلّعاتهم، وهاهو يؤكّد ذلك في زمن” كورونا”!!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى