الشاعرة السودانية منى حسن نموذجا.. عندما تتحرر القصيدة من لغة المذكر
موج يوسف/ العراق
ظلتْ المرأة مغيّبة لمدة طويلة عن اللغة، والفكر، فلا يحق لها الدخول إلى هذين الصرحين لا سيما الأول، أما حضورها في قصائد الشعراء، فقد ظل حسيا في صوره، ويتم استدعاؤها غالبا بالضمير الغائب، وبما أنها كانت خارج اللغة وراح مسار اللغة الثقافي ينطلق بعيداً عن أصله المؤنث فقد تحولت بهذا إلى موضوع ثقافي، ولم تعد (ذاتاً) ثقافية أو (لغوية) ـ كما يرى د. الغذامي ــ ومحاولة استعادة حقها الثقافي، ودخولها إلى اللغة يحتاج إلى الكشف عن ذاتها. وظلت قرونا طويلة على هذه الحال، أو في مرحلة “الأنا” من الناحية النفسية وليست في مرحلة “الذات”، ذلك أنها كانت في مرحلة الحكي أو الشفاهية، فالمرأة لم تكن تكتب لذا ظلت بعيد عن اللغة. ولوعدنا لشعر المرأة في العصور السابقة، سنجد أن صوت الأنثى يتوارى خلف صوت ولغة المذكر، وعلى مر العصور كانت تحاول وتفشل في الصعود إلى جبل اللغة والذات، وهذا ينطبق ليس على الشاعرات وحسب، بل على الأديبات بصورة عامة.
في العصر الحديث اتسعت مساحات الحرية التي وصلت إليها المرأة، وأخذت دورها في خارطة الأدب العربي، حيث أتقنت اللغة وتمكنت من العبور إلى الذات.
هذا التحول لم يشمل جميع الشواعر، وإنما نلمسه لدى شاعرات معينات تعد الشاعرة السودانية منى حسن، موضوع المقال، منهن. فمثلا يرى د. الغذامي أن نازك الملائكة هي من أنثت القصيدة حين كسرت النسق الفحولي، لكني أرى أنها كانت مبادرات خجولة وبسيطة منها، لأن الصوت واللغة المذكريين كانا يعلوان في أغلب قصائدها.
ما أعنيه هنا أنّ الشواعر العربيات زاد حضورهن شعرياً، وثقافياً، وهذا فجّر ينابيع الذات التي استطاعت أن تشق رافداً خاصاً للغتها الشاعرة، وتتحرر من الرأي القائل: (الأصل في اللغة التذكير)، وتدخل في (الأصل في اللغة التأنيث)، وهذا ما نلاحظه في شعر الشاعرة السودانية منى حسن، التي أمسكت بيد اللغة وأدواتها، ممّا عزز موقع الذات الأنثوية عندها بشكل مكثف. ولم تبقَ عند هذه المرحلة، بل نجد تناوب الضمائر في القصيدة بين (المتكلم والمخاطب والغائب) وهذه الثلاثية قد فسحت المجال؛ لتعدد الصوت في النصّ الشعري. تقول في قصيدة (هُو مثلُنا):
هو مثلُنا يقتاتُ من شجر التَّصبُّر
ما يخيطُ به ظنونهُ
هو مثلنا
صمتٌ يُكبّلُهُ
وآمال تصارعُ أن تكونَهُ
وشكاكَ لي:
هل يكبرُ الأحبابُ عن وطنٍ يحنُّ لهمُ
ولم يهدوا إليه سوى التغرّبِ والغبينة؟
عنوان القصيدة العتبة النصية الأولى (هو مثلنا)، هل تلغي الشاعرة الفوارق الجنسوية بين؟ رجل، امرأة / إنسان/ نيل مؤنسن. الضمير(هو) الآخر عن الرجل، “مثلنا” ضمير المتكلم عن النسوة فهي صوتهن هنا. فهل المرأة والرجل كانا متحدين وانفصلا؟ نلحظ في الأبيات: الصبر، الصمت، الآمال، ألم الغربة، الفراق. فهذه المشتركات الروحية موجودة في ذوات كلّ منهما، إذن هذا يعني وحدتهما، وربما تقرب المعنى للقارئ الأسطورة الإغريقية التي تقول: إن الرجل والمرأة خلقا بجسد واحد لكنهما تمردا على الآلهة، فعوقبا بالانفصال الجسدي؛ ليظلا يتجرعان مرارة البحث عن الآخر في محاولة معاودة الاتحاد الجسدي، الذي تعذر الحصول عليه، فصار الاتحاد الروحي هو البديل. ضمير المتكلم في القصيدة كان أداة التأنيث المهمة في اللغة، فتقول بقصيدة (ما تدلى من غصون الروح):
وهمستَ لي: لم أَدَّخر عشقاً وجئتكِ حافيَ الآمال
درويشاً تزمّل بالدعاء مبعثراً..
ما بين ما أبقى وما نهبَ الرّحيل
إلى أن تقول:
وهمستَ لي : لُمّي شموسكِ عن دمي
لا ظل لي
قاس نهارك
مترفٌ هذا الصهيل
النصّ يقوم على الضمير المتكلم والفعل (وهمستَ لي) هذه الجملة تحمل ضميرين ( مخاطب ومتكلم) والافتتاح بمخاطبة الآخر، هو إثبات ذات الأنثى الشاعرة وحضورها اللغوي، فوجود (لي) بهذا التكرار يعني أنها أنّثت أول ضمائر اللغة وتحررت من لغة التذكير. وهذا ما جعل الشاعرة تحلق في سماء لغتها، وتكثف حضورها. هناك صوتان في النص الشعري (صوتها وصوت الآخر) الذي استعمل ضمير المخاطب (جئتكِ) فالكاف مع فعل المجيء، يكشف عن صعوبة في الطريق، والوصول لها، ويمكن أخذ المعنى من جانب ثقافي هو أن استقلال ذات الأنثى الشاعرة جعلت عملية الوصول إليها شاقة، ممّا ذللت كبرياء الطرق لها. بالمقابل نجد الوصول لكنه: (حافي الآمال). وقد استطاعت تشكيل صورته، وشخصيته عبر الألفاظ (درويشاً تزمّل بالدعاء)، (لا ظل لي) ، (قاس نهارك). روح الشاعرة ذات النفحات الصوفية تجلت في ألفاظها، وما سهل العبور لهذه المرحلة الروحية هو (ضمير المتكلم) الذي تناوب بين الذات والآخر، فمثلا (همست لي، لا ظل لي). أيضا الشاعرة تجمع خيوط خيالها من حياتها، وتنسجها في النص فتقول:
وعلمتني كيف تحلو الحياةُ
على حضن عالمكَ الأرحب
أحنُّ إلى “واحدٍ” في الرجال
إلى عاشق في ثياب أبي
في حياة كلّ امرأة رجل يأتي كالحياة مرة واحدة هو الأب، وما أن أصبحت المرأة شاعرة يكون المسؤول عن خيالها ومنه تخرج صور شعرية صاغتها بمعانٍ جديدة من لفظ مألوف، في البيت الأخير(أحن إلى واحد في الرجال إلى عاشق في ثياب أبي). الأب في الأبيات يمثل قيمتين: معنوية، وفنية، الأولى ما تركه من أثر في قلب ابنته، ممّا سيطر على خيالها وكوّن عندها مادة الإلهام، فغزلت صورتها الشعرية بخيوط لغتها حتى ألبستها ثوباً فنياً جديداً. فالشاعرة لا تريد عاشقاً الا كأبيها فهو النموذج الأعلى عندها في الرجال. إن الشاعرة منى حسن خطّت لغتها بأنامل المرأة، وصوتها، وروحها وحسّها الداخلي الذي كوّن هويتها الشعرية وأسلوبها الخاص. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على وعي الشاعرة بسلاحها الشعري وهو اللغة.