يوميات من كورنيش الاسكندرية (٥)

محمود عبد المقصود | نائب رئيس تحرير الاهرام

 

الغرفة ٤٢١

علمتنى أمى أن أمرض بلا صياح، وأن أصرخ بلا أنين، وأن أبكى بلا ضجيج.. إيماناً منها – رحمة الله عليها – أن الآخر عنده نصيبه من الإبتلاءات. ومن الرعونة أن أشاركه إبتلائى لأضيف لأوجاعه وجعى، وأيضاً يجب علىَّ أن أرضى بما قسمه الله لى خيره وشره فلا يجب أن أكون انتقائيا فى رضاي بأقدار الله وحساباته.
هكذا علمتنى أمى جميل الدين بفطرتها السوية ورؤيتها الإيمانية دون قراءة لها فى الفقه ولا استماع منها لتفسير ولا اقتناع منها بشيخ. وكأنها – رحمة الله عليها – كانت تقرأ ما تخبئه لى الأقدار من أوجاع السنين وتعثر الأيام وغدر الأصدقاء وخذلان الأحبة.
فأهَّلتنى لهذا كله دون أن تقصد حتى أننى كثيرا ما كان يصيبنى مرض ولا أنتبه له و لا ألقي له بالاً حتى يصرفه الله عنى بفضله ورحمته.
وفى واحدة من تلك الابتلاءات مضيت أقاوم أعراض وعكة صحية ألمَّت بجسدى ما يقارب الشهر حتى ضعفت مقاومتى وهزلت مناعتى النفسية والجسدية فاستجبت مقهوراً لقرار الأطباء بدخول المستشفى التى أرفض مجرد المرور بجانب أسوارها !
فالذى لا يعرفه الكثير وحتى المقربين أننى إنسان بيتوتى لا أعرف النوم إلا على سريرى، ولا أهنأ بطعام ولا سكينة ولا حياة إلا فى بيتى.
كما أن الطفل الذى يسكننى لم يكبر بعد؛ فأنا مازلت أخاف من الحقنة وهمس أصحاب الرداء الأبيض بجوارى وأنا مستلق على السرير، وأرتعب من نظرة اللهفة والهلع على وجوه من حولى؛ فكل ذلك يجعلنى مرتبكا وكفيل بأن يحقق انهيارى.
ولكن لا مفر من ذلك كله فأعراض المرض تشرست بجسدى وأنهكته وعلي أن أستسلم وبالفعل دخلت مركز طبى هو الأشهر والأقدم والأعرق بالإسكندرية، وفى الغرفة 421 قضيت نحو 7 أيام مريرة على نفسى؛ فمع إشراقة صباح اليوم التالى لدخولى كنت أسأل الطبيب (ينفع أخرج وأكمل فى البيت) ولكنه كان يبتسم ويقول لى: (إنت منورنا كام يوم كده يا أستاذ.. هو انت لحقت تزهق مننا ولا إيه)، ورغم إنى (مش طايقه) كنت أبتسم وأقول له العفو يا دكتور أشكرك.
وعلى الرغم منوأن غرفتى كان تصنفيها الحسابى درجة أولى ممتازة، والإدارة والأطباء و العاملون كانوا يتوددون إلىَّ فى الصباح والمساء وكل وقت وحين إلا أن حالتى النفسية ورفضي للمستشفى جعلنى أرى المبنى العتيق وكأنه (معتقل أبو غريب مصر)؛ فكنت أشعر أن إدارته غائبة، و تمريضه فاشية، و أطباءه أضغاث أحلام هاوية، وأدويته غير شافية، ومعامله نتائجها كاذبة، وتليفوناته صامته، وأجراسة لا تسمع لها لاغية وتلفازه لا يأتى إلا بالأخبار الكاذبة
وخيل إلىَّ أن أروقته يسعى فيها أهل المرضى بحثاً عن أكسجين لحالات ذويهم المتأخرة وعندما يحل المساء كنت أسمع كذباً أصوات صراخ وعويل ونحيب وكأه يوم الغاشية.
وقد انعكس ذلك كله على ردود أفعالى مع كل من حولى فكنت على غير عادتى أتربص بمن يتعامل معى من أطباء وتمريض وأى شخص يقترب من حجرتى حتى انصرف عنى الجميع وجعلوا دخولهم عندى للضرورة الطبية فقط. وكنت كثيراً ما أسأل نفسى بعد كل حماقة اقترفها ما الذى أفعله هذا، وهل هذا هو أنا، أين أنا؟

فلم أكن يوماً ناكرا لجميل حتى لو كان فى ابتسامة لى لمحتها على وجه إنسان بسيط، و هنا قررت أن أخرج من المستشفى على مسئوليتي الشخصية وأنهينا الإجراءات وطلبت من زوجتى قبل مغادرتى أن تعتذر لكل من تعامل معى عن أسلوبى وردود أفعالي… فابتسمت وقالت لى: إننى كنت اعتذر لهم فى اليوم مئة مرة.

وحملت حقيبتي وغادرت الغرفة، وفى طريقى لمنزلنا تذكرت مئات البسطاء من المرضى الذين طرقوا بابى سعياً فى دخول مستشفى حكومى لعلاجهم، وهنا وجدتنى أبكى خجلاً من فضل الله وجهل عبده الفقير!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى