قراءة في رواية “حارس الفنار” للرّوائي نافذ الرّفاعي

بقلم: رفيقة عثمان

    صدرت رواية “حارس الفنار” للرّوائي نافذ الرّفاعي عن مكتبة: كل شيء في حيفا، عام 2021م. وجاءت الرواية في ثلاث مئة وثمانِ وثلاثين صفحة من القطع المتوسّط. و”حارس الفنار” تعتبر لوحة فلسطينيّة فنيّة متكاملة الخطوط والألوان، لوحة خطّها الرّوائي بصدق الإحساس، والفكر الفلسفي العميق. سرد الكاتب روايته حول وقائع وأحداث سياسيّة واجتماعيّة واقعيّة مطعّمة بالخيال؛ للقضيّة الفلسطينيّة، حيث عكست الحياة البائسة الّتي ألمّت بالثوّار الفلسطينيين، خاصّة بعد اتّفاق أوسلو البائس، وما ترتّب عليه من فشل وتراجع في الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة، وأبرزالكاتب الإنهيار الأخلاقي والنّفسي، وتردّي الاحوال الافتصاديّة، وانتشار المنتهزين والنّصّابين والعملاء والخونة؛ بالإضافة لتعزيز الصّمود، والدّفاع عن الأرض والمُقدّسات. ومن المُمكن تصنيف هذه الرّواية تحت مُسمّى، الرّواية التّاريخيّة والسّياسيّة والوطنيّة معًا.

الزّمنكيّة في الرّواية:

تناولت الرّواية حقبة زمنيّة محدودة، حيث بدأت منذ سنة 1967، وزمن الإنتفاضة، ولغاية هذه المرحلة الزّمنية الحاليّة (ما بعد معاهدة أوسلو)؛ في فلسطين  المُحتلة. انتقل الرّوائي عبر الزّمن، بسرد الأحداث وتسلسلها الزّمني والمكاني. كما اعتمد الرّوائي أسلوب الحوار المتبادل بين الأبطال في السّرد الرّوائي؛ خاصّةً بين الشّخصيّتين المحوريّتين: حارس الفنار وغادة، بالإضافة للشّخصيّات: الواعد، والرّفيق، والنّجيب؛ بينما شخصيّة الرّاعي كانت ثانويّة؛ وهو صاحب النّبوءة، بأنّه: “ستكون حرب وسوف يحتل اليهود من الترع أو المخاضة “قناة السّويس”، إلى الشّريعة “نهر الأردن”؛ ويحدث سلام وهو ليس بسلام، يضرب اليهود الشّام ويدمّرونها..” بعدها بسنتين تحقّقت النبوءة.كما ورد صفحة: 122. ولم تخلُ الرّواية من استخدم الحوار الذّاتي (المونولوج)  في العديد من المواقف؛ ممّا أضاف في تعزيز السّرد ومصداقيّته.

 تعدّدت أصوات الرُواة في الرّواية، وسُرِدت على لسان الشّخصيّات المحوريّة، المحدّدة والمذكورة أعلاه؛ لتمكين الشّخصيّات السّرديّة من التّعبير عن آرائها وأفكارها بحرّية تامّة دون قيود، ممّا أتاح الفرصة؛ للتعبير عن المعتقدات السّياسيّة المتضاربة، بين الشّخصيّات في الرّواية. برأيي هذا الاستخدام يُحسب لصالح الرّواية، الّتي تمنح المساحة الكافية للشّخصيّات بالتّعدّديّة الفكريّة، وعدم سيطرة الرّاوي المتحدّث بضمير الأنا بالسّرد والتّمركز حول الذّات؛وأحيانًا أخرى ظهر صوت الرّاوي المُحايد؛ الّذي يعرف كل ما يدور للشّخصيّات.

ومن خلال تعدّد الشّخصيّات في الرّواية، نجح الكاتب بتحريكها والتّحكّم فيها بطريقة فنيّة؛ لإيصال الفكرة الرئيسيّة في الرّواية. كما يظهر تأثّر الرّوائي بالفلسفة السّياسيّة ودحضها؛ مثل: العالِم الإنجليزي والفيلسوف (جون لوك)؛ كما ورد صفحة 227 “يعلن اللّعنة على جون لوك ونظريّتة هنا الاستعمار بالاستيلاء على الأرض، يدعو باستعمارها، ومنح حق التّملّك، أكبر بصاق في التّاريخ على هذا الاستعمار الرّخيص.. جون لوك: ألعن بموتك احلام المستوطنين والمستعمرين”؛كذلك استشهد الكاتب بالفيلسوف التّاريخي الألماني (هيجل)ودحض نظريّته، كما ورد صفحة 274 “تبًّا لك يا هيجل، ولكل قوانينك؛ من التّراكم الكمي، إلى التغيير الكيفي، أم التّغيير الأخلاقي أم المادي أم التّوازن ما بينهما مفقود”.أورد الكاتب صفحة 124 جملة فلسفيّة على لسان الحارس قائلًا:”إنّ النّبوءة مجرّد رؤية ما بين الهذيان واليقين؛ فيها وهج الفلسفة؛ وضلال الخرافة. هي إحساس غريب بالعالم، واستشراق للحدث”. برأيي هذا التأُثُّر بالفلسفة ونظريّات بعض الفلاسفة، تشير على مدى وسعة ثقافة الرّوائي الرّفاعي، ممّا تضيف لقيمة الرّواية عمقًا فكريًّا وأدبيًّا.

الشّخصيّات النسائيّة في الرّواية:

ظهرت البطولة النسائيّة في الرّواية، بصورة الضعف والظلم، والقهر الشّديد واليأس؛ مثلًا: شخصيّة البطلة الرئيسيّة في الرّواية، الشّابّة غادة: المُمرّضة الجميلة والنشيطة في الحراك السّياسي، والّتي اتُّهمت بالجاسوسة والخيانة، وطُعنت في شرفها الوطني، بكت بمرارة، ولم تنجح في إثبات براءتها خلال أربعين عامًا؛ وتعرّضت للتعذيب أثناء التّحقيق، عند عبورها جسر الأردن، أثناء مغادرتها إلى بيروت؛ كي تبحث عن أختها وأمّها. كرّست غادة معظم أوقاتها في علاج المصابين، والجرحى أثناء الانتفاضة، وقامت بالتضحيّة وخدمة المحتاجين؛ على أمل ان تحظى ببراءتها ذات يوم.

 شخصيّة البطلة الثّانية:

هي والدة غادة، المرأة الأرمنيّة المسيحيّة، والتي تزوَجت من أبي غادة الفلسطيني دون رغبة والدته؛ وتمّ انتزاع ابنتيها منها، وقام زوجها بترحيلهما إلى فلسطين.إنّ حرب النكسة، حالت دون لقائها بابنتيها؛ تخلّى والد غادة عن الأم الأرمنيّة، إلى أن اختفت في لبنان، بأحد المسشفيات للصحّة النفسيّة، وأصبحت في عالم الغياب.

الشّخصيّة الثالثة في البطولة:

أخت غادة، الّتي غادرت فلسطين؛ بحثًا عن والدتها في السّويد، وانتهى بها المطاف، بزواجها من رجل بريطاني، وأنجبت منه ولدًا، وأنكره؛ ناعتًا إيّاها بالعاهرة؛ وأمضت باقي عمرها في مصحّة للأمراض النفسيّة في السويد.

 الشّخصيّة الرابعة:

 الملكة دينا، عندما التقت بالقائد الفلسطسيني المرحوم صلاح التّعمري، عندما هربت متخفيّة بزي فلّاحة؛ هاربةً مع القائد الّذي حصل على إذن بالزّواج منها، من الزّعيم الفلسطيني السّابق المرحوم ياسر عرفات.

الشخصيّة الخامسة:

 ام الشّاب الرّاعي، الفلّاحة العتيدة والعاتية، الّتي لا تهاب سوى الموت في الدّفاع عن أبنائها؛ كما ورد صفحة 67 ” ملاحقتك مكشوفة، وأي مكروه يحصل لإبني سأقتلك، لِمَ تطارده؟ قل لي؟”. هذه الشّخصيّة تمثّل الصّمود وقوّة الإرادة بالدّفاع عن الأبناء والوطن.

الشّخصيّة السّادسة:

زهرة وهي حبيبة باجس البطل الشّهيد، ولم يتسنّ لها الزّواج منه.

الشّخصيّة السّابعة:

 زوجة الرّفيق، لم تُوفّق بزواجها منه، وأمضت فترات صعبة، خاصّةً أثناء ولادتها، ولم يتكفّل زوجها بمصاريف العائلة، حتّى البسيطة منها، وأصيبت بخيبة امل من زوجها المناضل، ودخلت في حالة هستيريّة.

برأيي الشّخصي، لا بدّ أنّ صورة المرأة السّلبيّة في هذه الرّواية تعكس صورة الوطن، وربّما هذا الوضع الشّائك لحالة النّساء الفلسطينيّاتيُمثّل الواقع الفلسطيني بمواصفات عديدة منها:  ازدياد الفساد الاجتماعي والسّياسي والاقتصادي، والضعف، والفقدان والضياع، وعدم الاستقرار؛ شعب راضخ تحت القهر واليأس والحرمان،والظّلم والقسوة، وتفشّي ظاهرة الخيانة، والانتهازيّة بين أبناء الشّعب؛ صورة المرأة الفلسطينيّة في الرّواية، إنعكاس لحياة شعب يبحث عن الحرّيّة والحقيقة والعدالة المفقودة، مثلهكمثل كافّة شعوب العالم.

“حارس الفنار” عنوان الرّواية الّتي اختارها الرّوائي لروايته؛ نظرًا لكونه البطل الرّئيسي للرّواية، والّذي شغل دور البطولة، وكان الفنار هو محور المكان، حيث تواجد به الحارس؛ هذا البطل الثّائر، الإنسان الفلسطيني المنهار بكل المقاييس الإنسانيّة، وصل الى المنارة بعدعودته من المنفى، بعد إقصائه من الفندق والشّقة الفاخرة، التي منحوه إيّاها بعد اتّفاقيّة أوسلو، والّتي خيّبت آماله وحطّمت أحلامه. حارس الفنار هو رمز للثّائرين والأبطال، الّذين صدمتهم وخيّبت أمالهم.

اتّشحت رواية “حارس الفنار” بوشاح عاطفة الحزن، ومشاعر الألم والقهر، والشّعور بالإحباط واليأس، والتّوتّر، ولم تظهر مشاعر الفرح، إلّا نادرًا؛ كما أبرزها الكاتب بفرح مؤقّت، كالفرح بعد تحرّر الأسير، وكان التشبيه فيها جميلًا:”هبطتُ من الحافلة الى الأرض بلا قيد، سحبت نفسًا عميقًا بكل هواء الكون؛ ولامست المدى المفتوح وقبّلت شعاع الشّمس المنطلق بلا قضبان، قبّلت التّراب والأرض،وقلبي كحصان برّيّ يتراقص مع حرّيّتي”،ولا يوجد أدنى شك، بأنّ المشاعر الصّادقة للرّوائي، وظهور بعض الأحداث،تلامس شخصيّة الرّوائي، والرّواية لا ينقصها عنصر التّشويق؛ لجمال لغتها العربيّة القويّة والرّصينة، واستخدام المحسّنات البديعيّة، وأسلوب السّرد الممتع.

     رواية “حارس الفنار” رواية تغلّبت على سابقاتها في الطّرح والجرأة المتناهية؛ بوصف الواقع الفلسطيني،والّذي لا يجرؤ احد إلّا قلّة،من الّذين دفعوا ثمنًا لحياتهم؛ بالبوح الصّادق أمام السلطة الحاكمة.

       أوصي وبكل صدق، إخراج هذه الرّواية،في إنتاج تمثيل فنّي بفلم سينمائي؛ ليجسّد أحداث الواقع الفلسطيني وحياة شعبه،على غرار التّغريبة الفلسطينيّة؛وكما أوصي بترجمتها ونشرها باللّغات الأجنبيّة.

^^^

مكتبة كل شئ للنشر والطّباعة – حيفا – 2021.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى