هل مجامع اللغة العربية أحزابٌ سياسية؟       

 توفيق أبو شومر | فلسطين

التشكيل بالأحجار.. اللوحة للفنانة الأردنية هاجر الطيار

تابعتُ منذ سنوات مؤتمرا لمجمع اللغة العربية في القاهرة وهو المؤتمر الرابع والسبعون الذي اختتم أعماله يوم 5/5/2008م، وكان عنوان المؤتمر ” اللغة العربية وتحديات العصر، وقد خرج المؤتمرون بالتوصيات التالية:

– التنبيه إلى خطورة تعليم المواد باللغات الأجنبية

– مناشدة أجهزة الإعلام بالإقلاع عن اللغة العامية

– مناشدة الجامعة العربية والدبلوماسيين العرب ليتقيدوا باستخدام اللغة العربية في المجالات الدولية

ثم ساءلتُ نفسي بعد قراءة التوصيات السابقة:

هل أصبحت المجامعُ اللغوية أحزابا سياسية، تنتهي مؤتمراتها وندواتها دائما بتوصيات عامة، يدرك المشاركون بأنها لن تُطبَّق، على مذهب “ألا هل بلّغتْ … اللهم فاشهد”؟

وهل صارتْ المجامع اللغوية بروازا تقليديا مُذهَّبا معلقا في صالون قصرٍ قديم، يستعدُّ ورثتُه لهدمه ليبنوا فوقه ” بوتيكات” ؟

وهل أضحتْ المجامعُ اللغوية مجرد قصيدة من قصائدنا القديمة، يرجعُ لها الباحثون من اللغويين حين يرغبون في إنجاز دراسة للحصول على شهادة أكاديمية في علوم اللغة؟

وهل تحوَّلتْ المجامع اللغوية إلى مجرد أحزاب معارضة صغيرة تستظلّ بجدران السياسيين، تعيش على مضغ الألفاظ والتعبيرات، ونحت المصطلحات الجديدة ونشرهت، ثم تقوم بعد ذلك بالتودَّدُ إلى الآخرين وترجوهم أن يستعملوها .

إن المجامع اللغوية في الأوطان التي تحترم لغاتها، هي السلطة العليا التي تُشرّعُ، وتأمر، وترفض وتقود النظام التعليمي والتربوي، وهي الوحيدة التي لا تحتاج إلى محامين وقضاة ووكلاء للنيابة العامة، لكي يأخذوا لها الحق، فهي الوحيدة التي يمكنها أن تقوم بهذه المهمات.

ومجامع اللغات العالمية تأخذ على عاتقها مهمة تغيير وإضافة المصطلحات والأسماء الجديدة في المعاجم الجديدة، التي تُجدد كل عام.

تعرضتْ المجامع اللغوية العربية في القرن المنصرم إلى حملات من التشكيك، لدرجة أنها صارت مثارا للاستهزاء والسخرية، حين أشاع كثيرٌ من الساخرين أعداء اللغة بأن المجامع اللغوية وضعت تعريبا للساندويتش يقول:

الشاطر والمشطور وما بينهما كامخ، ومشروب السفن أب هو سبعةٌ لها الدرجات العلى! وأن شكسبير عربي اسمه الشيخ زبير …!

والحقيقة إن مطاردة المصطلحات الأجنبية، بعد أن درجتْ على الألسنة وصارت مألوفة، يشبه من يُطارد الهواء محاولا أن يستخلص منه الأكسجين، ويعزل منه ثاني اكسيد الكربون، لأنه يضر بالصحة العامة.

فقد درجت بعض مجامع اللغة على وضع تسميات عربية، لمصطلحات أجنبية مشهورة، مثل بريك السيارة، فقد أسمته بعض المعاجم الفرامل، وهي تسميةٌ مقبولة، واجتهد مجمعٌ عربي آخر لم ترضه التسمية السابقة فأسماه ( الكابح الهوائي ).

وقام مجمعٌ آخر بالاعتراض على اسم البلاط فأسماه ( مِلاط إسمنتي جيري)، وأسمى حجارة البناء الحمراء( الطوب الطيني المشوي)، وأسمى الحائط الخارجي ( جدار حُر الاستناد).

ونشطتْ بعض المجامع في تعريب بعض المصطلحات العلمية، التي رسختْ في الأذهان بألفاظها الأجنبية، وحاولوا أن ينحتوا لها مرادفات عربية، مع العلم بأن تلك الطريقة لم تكن مُجدية، فهناك فرقٌ بين نحتِ مصطلحٍ جديدٍ، وبين مطاردته بعد الاستخدام، فالطريقة الأولى مُقدَّمةٌ على الثانية، لأن مطاردة المصطلحات جهدٌ عبثيٌ، لا طائل من ورائه في معظم الأحيان.

وانعكست السياسةُ على اللغة، وتعددت المجامعُ اللغوية العربية وفق مذاهب السياسيين، فمجمع القاهرة ليس هو مجمع دمشق، وهما يختلفان عن مجمع عمّان، وبغداد، وبيروت، والخرطوم ، وأكاديمية التعريب المغربية، وكل المجامع السابقة لا تشبه مجمع طرابلس الغرب، ولا مجمع الرياض، وما تزال الدول العربية الأخرى حُبلى بمجامع لغوية جديدة، وكأن لكل دولة لغتها العربية الخاصة بها، التي تختلف عن نظيرتها في الدولة الأخرى، وإكمالا لصورة المجامع، فإن لكل مجمع أمينُه العام، الذي يعينه في الغالب رئيس الدولة.

وهذا بالطبع أضعف آثار المجامع اللغوية العربية، وجعل اللغة العربية المسكينة لغاتٍ عربيات.

وهذا جعل إسرائيل تسعى لتأسيس مجمعها اللغوي العربي، لا لضبط اللغة العربية، ولكن لاختراقها، فقد تطوَّعتْ إسرائيل من باب الإحسان فأرسلت لمنظمة الثقافة والعلوم طلبا غريبا، وهو أنها مستعدةٌ لترجمة الآداب، والفكر، والسياسة، من كل لغات العالم إلى اللغة العربية مجانا!

وهذا الإعلان يمنحها الحق في نحت مصطلحاتها، وفرض آرائها، فالترجمة هي الخيانة الوحيدة التي لا يُعاقب عليها القانون.

غير أن أكثر الأشياء خطورة على اللغة، هو اعتقاد الكثيرين بأن الالتزام باللغة أمرٌ مُنفِّرٌ، يسلبُ المتحدثَ بالفصحى شعبيته.

وعلى كل الراغبين في اكتساب الجماهيرية والشعبية أن يتحدثوا بالعامية، ومن أبرز دعاة هذا الاتجاه هم الرؤساء العرب، الذين واظب أكثرهم على الحديث بالعامية، باعتبارها الطريقة الأمثل للوصول إلى قلوب الجماهير.

مع العلم بأن أنصار اللغة العامية من زعماء العرب، هم من مؤسسي المجامع اللغوية، فهل يُعقل أن يسعى هؤلاء لتمكين المجامع اللغوية ليُلزموا بها الآخرين؟

مع التأكيد بأن هناك من بين الزعماء العرب قادةٌ، تمكنوا من تطويع اللغة لبيانهم، وحافظوا على لغتهم، وكانوا قادرين بفصاحتهم من كسب جمهور أكبر من جمهور القادة الذين استمرؤوا العامية، لأنهم لم يكونوا يجيدون ركوب جواد الفصحى حتى لا يجمح بهم حصانُها.

كما أنني عاصرتُ جيلا من مدرسي اللغة العربية، ممن كانوا يشرحون نحوها وصرفها وبلاغتها بالدارجة الضعيفة، والمقيتة، والبعيدة عن موضوع درسهم، مع العلم بأن شرح البلاغة العربية بالعامية إخلالٌ ليس بالدرس فقط، وإنما هو رسالة تشير إلى الفشل في الوصول إلى البلاغة.

وما أزال أحفظ قول أحد الناقدين من مدرسي اللغة العربية،  عندما كنت أزوره للتفتيش، وكنتُ أشترط أن يكون الدرس مشروحا بلغة عربية، كان يقول مستهزئا:

جاء سيبويه !!

فكانوا يتقمصون في الحصة دور المتحدثين باللغة العربية، فيفشلون لأنهم جعلوها لغتهم الثانية، وليست الأولى، على الرغم من أنهم دائمو القول:

 إن اللغة العربية لغة جميلة، وسهلة، وبليغة، وهي من أجمل لغات العالم.

كنتُ أتوقع من المؤتمرين أن يقوموا بخطوةٍ تُلائم العصر، وتخدم لغتنا، فقد كنتُ أبحث عن توصية تنصُّ على تأسيس قناة فضائية، أو مجموعة من القنوات، تبث البرامج الثقافية، والترفيهية، والإخبارية، مثلا، تُديرها المجامع اللغوية العربية، تقدم اللغة العربية للعرب وغيرهم، في صورتها السهلة الجميلة الشائقة، لتنافس بها اللهجات العامية، التي اكتسحت أجواءنا، حتى أنها أسرتْ أبناءنا في قوالبها ومصطلحاتها، وجعلتهم ينظرون إلى لغتهم الفصحى كلغة اختبارات مدرسية، يعتصرونها فوق أوراق الإجابة، ثم تتبخَّر بعد عصرها.

إن تأسيس منظومة إعلام باللغة العربية الفصحى، سيثبتُ لأبناء يعرب قدرة لغتهم، ورشاقتها، وصلاحيتها للحياة بكل أشكالها.

كنتُ أودُّ، أن يُلزم المجتمعون كل القنوات الفضائية بتعيين ضابطٍ لغويٍّ، يُشرف على تقويم ألسنة المذيعين والمذيعات، بحيث يكون ذلك شرطا أساسيا، من شروط منح الرخصة للمحطة الإعلامية.

كنتُ أودٌّ ألا يُعارض المجتمعون تدريس العلوم باللغات الأجنبية، وذلك بأن يقوموا بتعزيز المواد الأدبية للطلاب أنفسهم، بنصوصٍ عربية جميلة، وان يُحسنوا اختيار المواد الأدبية العربية المقررة، والتي ما تزال تُدرَّسُ بصورتها التقليدية البائدة منذ قرون، فليس عيبا أن يكتسب الأبناء لغاتٍ أجنبية، بشرط أن يبرعوا في لغتهم.

كنتُ أتمنى أن تأخذ مجامع اللغة العربية في اعتبارها المسميات الجديدة، لا لنسفها من أساسها، ولكن لألباسها ثوب اللغة، وقبولها ضمن المعاجم اللغوية العربية، كما يحدث في كل لغات العالم، والتي يجب أن تُجدد في كل سنة، وألا تبقى على صورتها قرونا، مثل معاجمنا العربية التقليدية، وحبذا لو اتحدت جهود المجامع كلها لإصدار معجم عربي واحد، سهلٍ ميسور، يستطيع أن يستخدمه الكبير والصغير، بلا مشقة وبدون مجموعة طويلة من التعليمات. فليس عيبا أن نبقي تسمية (الكاسيت) فنُعرّبها، بدلا من أن ننحت لها اسما جديدا “الشريط المرن، أو اللدن” مثلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى