الانطباع النفسي في نقد الشعر (1- 5)

الناقدة والشاعرة ثناء حاج صالح / ألمانيا

ما أٌقصده بـ(الانطباع) هو : (أول ما يتجه إليه شعور المتلقي الناقد عند تذوق النص الشعري للمرة الأولى، وقبل البدء بدراسته النقدية المعتمدة على تطبيق المعايير العلمية للنقد الأدبي) .

فهذا الشعور المبدئي وفي اللحظات الأولى إما أن ينحو نحو الإعجاب والتلذذ بخفي جماليات النص فيحدث هزة نفسية ،قد تسبب إشراقا نقديا عند الناقد، يركز على جماليات النص الشعري ، أو أن يمر ببرود ورتابة وتثاقل ،فيحدث كفَّا عن النقد، قد ينقلب فيما بعد إلى نقد يركز على سلبيات النص أكثر من تركيزه على جمالياته وإيجابياته، مع توفر تلك الجماليات والإيجابيات في الواقع .

المسألة: أن الناقد كمتلق هو إنسان ذو مزاج كغيره من البشر. فتحريك مزاج المتلقي الناقد باتجاه إيجابي أو سلبي ذلك ما يقوم به الشاعر عبره نصه الشعري في ما أسميه الانطباع النفسي الأول عند الناقد .
وقد يعترض على كلامي هذا من يقول : ” إن عملية النقد الأدبي ليست عملية مزاجية محكومة بتقلبات مزاج الناقد وأهوائه . بل هي إجراء علمي يخضع لمعايير نقدية علمية دقيقة تفيد في تقييم الجوانب الأدبية المختلفة مع تحييد مزاجية الناقد . فمهما كان مزاج الناقد معكَّرا أوسيئا وحاول التركيز على سلبيات النص الشعري فإنه لن يستطيع طمس جمالياته وإيجابياته .لأن الأمر ببساطة أن الجمال يفرض نفسه بنفسه ولا يحتاج الجمال الواضح أصلا لناقد وسيط ينقله من النص إلى متلق آخر . كما أن النص الشعري الفاشل لن يتحول بجهد الناقد ذي المزاج الإيجابي الرائق العالي إلى نص ناجح أدبيا وفنيا مع وضوح عثراته .”

وأنا سأرد على هذا القول : بأن مزاج الناقد في الواقع يتحكم إلى حدٍ كبير بمزاج المتلقي الآخر قارئ النقد . ولا أقول: إنه يتحكم به مطلقا . فالنص الشعري الفاشل لن يبدو مع محاولات تحسينه من الناقد نصاً رائعاً، لكنه على الأقل سيبدو نصاً مقبولاً يراوح في اقترابه من المستوى الجيد . أما النص الناجح المتميز فإن كان الناقد متمكناً من أدواته الفنية و التعبيرية فسوف يتمكن بالفعل من إخفاء الكثير من جمالياته عبر توجيه البوصلة النقدية في اتجاهات أخرى لا تمر بجماليات النص ولا توازيها ولربما تتقاطع معها على سبيل التبهيت أو التفنيد أوالتشويه .
والأمر هنا يشبه ما يسمى بمستوى التغطية الإعلامية للحدث في القنوات الفضائية . فهناك فرق بين قناة فضائية تسابق إلى تغطية الحدث إعلاميا من جميع جوانبه ومن ظاهرِه وباطنه و تؤدي ذلك بحماس وتعاطف واضحين ، وبين قناة أخرى تمرُّ على الحدث ذاته مرورا يرفع عنها العتب مع تقصُّد الحد من استشفاف أبعاده والإحاطة بتفاصيله ، ومع الإصرار على تضخيم ما يحيط به من أحداث أخرى تلفت الانتباه عنه إليها .

فالناقد في الحقيقة وعبر التحكم بمستوى التغطية الإعلامية المتفاوت لجوانب دون أخرى في النص الشعري يستطيع سرق انتباه المتلقي الآخر وتحويله حسب مزاجه هو .

نقد النص الشعري يختلف في الواقع عن نقد أي نص من جنس أدبي آخر بسبب ثلاث خصائص للشعر تميِّزه عن بقية الأجناس الأدبية وهي :

1- الموسيقا 

2- الصورة الشعرية

3- العاطفة 
فهذه الخصائص الثلاثة كما نرى هي مفاهيم فنية ونفسية فضفاضة، إذ يشارك المتلقي بخصائصه النفسية والثقافية وذوقه الخاص ومستوى تحسسه للجمال في تمثلها وصنعها أثناء عملية القراءة أو التلقي . وهي تشكل بوابات مفتوحة من غير حرَّاس أمام الناقد تقوده  باتجاه التأثير في وعي المتلقي الآخر وتوجِّه تذوقه للنص .

وتخبرنا التجارب المتكررة أن الحكم بالسلاسة أو الثقل الإيقاعي (مثلا) على الأبيات نفسها لن يكون حكما واحدا بين جميع النقاد أو القراء المتذوقين . وهذا نرده إلى الاختلاف في طبيعة مخزون اللاوعي من موسيقا الشعر عند الأفراد . فاختلاف الذوق يشكل بصمة فردية لكل متذوق لعدم إمكانية تطابق الخبرات الانفعالية المثالية والتي يقاس إليها في الحكم عند كل متذوق. والنقاد منهم .

فما قد يطرب له سواي قد أراه أنا عاديا أو أقل من عادي والعكس صحيح . غير أن التفاعل الاجتماعي بين الأفراد بما يتضمنه من تبادل الخبرات في التربية والإعلام في بيئة ثقافية جغرافية وتاريخية معينة يوحد عموما بين تلك الأذواق ويعطيها طابعا عاما يمثل بدوره بصمة ذوقية تميز الذوق العام في تلك البيئة عن سواها .

فمهما كانت المعايير العلمية المطبقة في النقد دقيقة وصارمة فإنها لن تمنع الناقد من الدخول إلى وعي المتلقي عبر نصه الناقد من خلال هذه البوابات المفتوحة، التي هي في الحقيقة ثغرات غير قابلة للضبط النقدي المحكم . فمن هنا يتدخل الناقد في ذائقة المتلقي الآخر ويكون له حسب طبيعة مزاجه المساهمة في تشكيل رؤية ذلك المتلقي وتوجيه حسه الجمالي في عملية تذوق النص الشعري .

يتبع بإذن الله..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى