التعايش مع الأخطاء والتجاوزات وتوريث الأبناء للمواقع والمسؤوليات

نهاد أبو غوش | فلسطين

لو كان لدينا مجلس تشريعي، فلربما تقدم بعض النواب باستجواب لوزير الخارجية (هذا إذا بقي هو هو في مكانه ومنصبه، وحصلت الحكومة التي تضمه على ثقة المجلس ولو كان له رأي بأمر تعيينات السفراء) حول مسوغات تعيين السفيرة الجديدة في طهران، وما هي مؤهلاتها العلمية والأكاديمية، وخبراتها السياسية والدبلوماسية، وتجربتها النضالية والاعتقالية (إن وجدت) ، وهل خضع هذا المنصب للتنافس مثلما خضعت / أو لم تخضع قبل ذلك مناصب السفراء في السويد وكندا والمانيا وجيبوتي وبلغاريا والله اعلم اين، ومثلما تخضع اي وظيفة ضئيلة الشأن والراتب للتنافس فتجري لها امتحانات تحريرية وشفوية ومقابلات ويقدم لها طالبوها وثائقهم ومستنداتهم وشهاداتهم، وحسب ما نعلم فإن ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف وظيفة سنوية في وزارة التربية والتعليم تستحدث سنويا يتقدم لها أكثر من أربعين ألف مرشح/ة جميعهم تتوفر فيهم الشروط المطلوبة، ومثل ذلك يحصل عند الإعلان عن أية وظيفة في أية وزارة او مؤسسة مهما صغر شأنها، وحتى لو كانت ضمن الحد الأدنى للأجور ووفق نظام العقود.

ولكن، ليس لدينا مجلس تشريعي، لدينا تسميات لمؤسسات وهيئات تابعة لمنظمة التحريرالفلسطينية ولكنها مشلولة، ولا تتحرك إلا عند الطلب، أي عندما يجري استدعاؤها لتمرير أمر ما، وبالتالي فإن مسؤولية السؤال والاستجواب تصبح من مهمة قوى المعارضة -إن كانت لدينا معارضة- ووسائل الإعلام ومنابر التعبير عن الرأي، والأطر الأهلية المعنية بالرقابة على أداء السلطة التنفيذية وبخاصة منظمات حقوق الإنسان والشفافية والنزاهة، وحتى في هذا المجال يبدو ان فعالية ونشاط الأفراد المؤثرين أكثر تاثيرا وجدوى من فعالية المؤسسات مع إيماني المطلق بجدوى العمل المؤسسي وتقدمه على الفردي، وربما يدفعنا سوء الظن إلى القول أن المعارضة التي لا تعرف الحياة الديمقراطية داخل صفوفها، ويبقى مسؤولوها البارزون في مواقعهم مدى الحياة، ويورثّون المواقع المهمة لمحاسيبهم إن لم يكن لأبنائهم، مثل هذه المعارضة لا تستطيع ولا تجرؤ على الاحتجاج على أية تعيينات غير نزيهة.

لا نعرف شخص السفيرة التي عينت في طهران، ولا نعلم شيئا عن مؤهلاتها وشهاداتها، والأرجح أنها جامعية ومتعلمة، لا سيما وأنها نشأت في بيت ميسور (سفير تاريخي) ولا شيء يمنعها من أن تشق طريقها لتحصل على أرقى الشهادات وأعلاها، لكن كونها ابنة السفير لا يؤهلها إطلاقا لوراثة والدها، بل إن كونها ابنته ينبغي أن يكون المانع الأقوى لعدم تبوؤها هذا المنصب عملا بالحديث النبوي الشريف الذي تلخصه عبارة “اتقوا مواطن الشبهات”، وإن شئتم النزاهة فإن وجود سفير في منصبه لمدة أربعين عاما (أي أكثر مما أمضى كريم وماهر يونس في السجن حتى الآن) هي حقيقة تدين كل من علم بهذا الأمر ولم يتوقف عنده في حينه، فقانون السلك الدبلوماسي يقيّد الحد الأقصى لبقاء أي سفير في منصبه بخمس سنوات، والحد الأقصى لبقاء سفير في الخارج هو عشر سنوات. التقصير يطال بالتحديد جميع قوى المعارضة وينسحب على المجلسين التشريعي الأول (1996) والثاني (2006) وجميع أعضائهما من القوى والكتل كافة، حيث لم نسمع أي اعتراض من أحد على بقاء هذا السفير طيلة هذه المدة في دولة جارة وصديقة وشقيقة ومهمة إقليميا مثل إيران التي كان من اوائل ما قامت به ثورتها هو طرد السفير والسفارة الإسرائيلية ومنح مقر السفارة لفلسطين حتى قبل إعلان الاستقلال في العام 1988.

وليس أدل على أهمية إيران للعمل السياسي والدبلوماسي الفلسطيني من تعيين شخصية قيادية بارزة من وزن المرحوم هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح في هذا الموقع الحساس، فكيف سكتنا و”غرشنا” وطنشنا وتجاهلنا حقيقة وجود هذا السفير لأربعين عاما ، منها 23 عاما في عهد الرئيس الشهيد الراحل ياسر عرفات، و17 عاما في عهد الرئيس ابو مازن.

ولا يقتصر الأمر على سفيرنا في طهران ولا على السفراء فقط، ثمة كثير من السفراء وقادة أجهزة أمنية أمضوا في مواقعهم اكثر من عشر سنوات، وكل ذلك مخالف للقانون.

ما جرى يمثل احتقارا لنا ولمؤسساتنا وأحزابنا وتقاليدنا، والمصيبة الكبرى أننا بتنا نتعايش مع الأخطاء والتجاوزات وكأنها أمور طبيعية ومنطقية ومألوفة في حياتنا، نتعايش مع الفوضى والواسطة والمحسوبية وكل اشكال الفساد على أنها عادية ويمكن التآلف معها (تحصل في كل مكان وفي جميع المجتمعات) ، نتعايش مع الغش والخداع وانعدام النظافة والكذب والتحرش والتعديات على الحيز العام وعلى المال العام، نتعايش مع استهبالنا والاستهتار بوعينا وبوطنيتنا وبعقولنا، وكأنه لا توجد لدينا معايير للاستقامة والنزاهة.

كل هذه الأخطاء تجري ضد شعب يناصل منذ أكثر من قرن ضد ابشع استعمار واحتلال، فلم ينل الاحتلال من عزيمته وإرادته، لكن هذه الأخطاء والخطايا التي ترتكب في ساحتنا الداخلية هي التي تضعفنا وتعصف بكل منظومة القيم التي تربينا عليها وطورناها خلال عقود النضال، بل إنها باتت تهدد عزيمتنا وأملنا في الحرية والاستقلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى