رسالة إلى الحزن المعتّق
بقلم: زياد جيوسي
أولا – الرسالة بقلم: قمر عبد الرحمن
أكتب
كي أفجّرَ الحزنَ.. وبعض الكتابةِ تهمة
أكتب كي ينتصرَ النّهارُ على سرّ العَتمة
كي تصافحنَي السّنابلُ كلّما ارتعشت غيمة
أكتب كي تعانقَني الورودُ على حين ضمّة
أكتب
حتّى أنقذَ البلادَ من أضراسِ الجنون
حتّى أنقذَ المرأةَ من نفسِها، جرّاء الظّنون
أُخرِج النّص كحمامةٍ من قبعةٍ سّاحرة
أخترع القصيدة من جيوب الذّاكرة
أنتزع الكتابة من الحروف المعاصرة
أجرح كثافة المعنى بنصوصٍ مغامرة
أرتكب ذنب الكتابة
كي تبقى المرأة مرأةً.. كي يبقى الرّجل رجلًا
وكي يعودَ الإنسانُ إلى طبيعة الإنسان
أرتكب ذنب الثّقافة.. كي يدرك السّكان
الفرقَ بين صباح القرنفلة وصباح المقصلة
والفرقَ بين مساءٍ مع رمانة ومساءٍ في زنزانة
كي يسقطَ الطّغاة، ويذوبَ الطّغيان
أرتكب ذنب الإبداع
كي أبقى طفلةً في يقين عيني..
كي يسقطَ غرور المثقفين..
وكي أكون صوتًا لمن لا يملكون اللّسان
أتعطّر باللّغة، كما تتعطّر ربّةُ البيت بشجرة اللّيمون
أتنهد بين الصّفحات..
وأشتاق لها، كاشتياق أسيرٍ لحاسّة اللّمس ولغة العيون
أكتب
كي أحوّلَ دموعَ الشّعوب إلى دروب
كي أقلّدَ الأطفالَ في الخطايا والذّنوب
أكتب دون موعدٍ، كسطوع جبينه في كلّ مرّة
وهل هناك شمسٌ أبهى من جبين المحبوب
يا أصدقائي.. أنا أكتب كي أصل لأعماق نفسي
فأنا الصّوت الذي يمشي.. بحريةٍ بين عنابر السّجون
أنا أحلم.. أحلم أن أحطّم القضبان والحكّام والقانون
ثانيا – الهمسات
في رسالتها رقم 29 كان العنوان: “رسالةٌ إلى الحزن المعتّق”، وهذا العنوان يحمل دلالة قوية، فالحزن هو الوجه الآخر للفرح، واستخدام لفظ المعتق دلالة على ان الحزن الذي تخاطبه قمر قد طال حتى تعتق وأصبح عتيقا جدا، فهو حزن شعب قد تجاوز القرن من المعاناة منذ لحظة دخول المحتل البريطاني فلسطين، وقد آن لهذا الحزن أن يتوقف وآن لشعبنا أن يفرح، وآن للشاعرة والاعلامية قمر عبد الرحمن أن تبوح لنا لماذا تكتب رغم كل ما جلبته الكتابة عليها من مضايقات، وهذا فعليا ما يتعرض له أصحاب الفكر والقلم في ظل احتلال بشع وقذر.
يلاحظ في هذا النص الجديد المكون من تسعة مقاطع تكرر كلمة “أكتب” أو اشتقاقات مرتبطة بالكتابة، فهنا سنصل من خلال ما نقرأ أن قمر لا تكتب من اجل الكتابة بل هي تحمل رسالة وتكتب من أجل نشر رسالتها وإيصالها للآخرين وهذا ما نراه بعبارات وردت في الفقرات التسعة مثل: “كي أفجر الحزن، كي ينتصر النهار، كي تصافحني السنابل، كي تعانقني الورود”، وهذه بعض من رسالة قمر وأهدافها التي تكتب من أجلها وهنا في العبارات السابقة علينا أن نبحث وراء الكلمات كي نصل للأهداف الوطنية والانسانية لدى الشاعرة ومنها: “حتّى أنقذَ البلادَ، كي يسقطَ الطّغاة، ويذوبَ الطّغيان، حتّى أنقذَ المرأةَ من نفسِها، كي تبقى المرأة إمرأةًـ، كي يبقى الرّجل رجلًا، وكي يعودَ الإنسانُ إلى طبيعة الإنسان، كي يسقطَ غرور المثقفين.. “.
لذا تغامر وتواجه بقلمها فهي تقول عن نفسها وعن كتابتها: ” أرتكب ذنب الكتابة، أرتكب ذنب الثّقافة، أرتكب ذنب الإبداع” وهذا بعض من المعاناة التي تواجهها الكاتبة بحيث تحولت الكتابة الى ذنب والثقافة ذنب والابداع ذنب، وكل من يقترفها ويكون حاملا لرسالة وليس للترف سيتحمل تبعات الانتماء للقلم والحرف والوطن والانسانية، لأنه بمفهوم أعداء القلم والثقافة والذين يضعون البندقية في مواجه القلم يرون أن “بعض الكتابةِ تهمة”، ولذا تضطر لاستخدام الرمزية والالتفاف بالكلمات تاركة للقارئ أن يبحث فيما خلفها، فهي تشير لذلك في نصها الشعري بالقول: “أُخرِج النّص كحمامةٍ من قبعةٍ سّاحرة”، وهذا يشير لحجم الذكاء في التعامل كحجم ذكاء السحرة بألعابهم الخفية باستخراج حمامة من قبعة أو منديل أو صحيفة، وتقول أيضا: ” أخترع القصيدة من جيوب الذّاكرة” بإشارة ذكية لاستخدام حكايات الماضي بالكتابة، وتكمل بالقول: “أنتزع الكتابة من الحروف المعاصرة” حيث حكايات الماضي يتم اسقاطها على الحاضر، كي تصل إلى هدفها: “أجرح كثافة المعنى بنصوصٍ مغامرة”.
يلاحظ في النص الاعتماد على التضاد في الشطرات ومثال لذلك: “النهار والعتمة، المصافحة والارتعاش، السنابل والغيمة”، ومن خلال ذلك تنطلق لأهداف متنوعة منها: “انقذ البلاد من أضراسِ الجنون، أنقذَ المرأةَ من نفسِها جرّاء الظّنون، الفرقَ بين صباح القرنفلة وصباح المقصلة، مساءٍ مع رمانة ومساءٍ في زنزانة”، وقمر تكتب حتى لو اعتُبرت الكتابة والابداع ذنب تحاسب عليه، فهي تصر أن تكتب حتى تؤدي رسالتها وتبقى تحترم نفسها ونقاءها فتقول: ” كي أبقى طفلةً في يقين عيني..” وأيضا: ” كي أقلّدَ الأطفالَ في الخطايا والذّنوب”، والأطفال رمز النقاء وقمر تصر على النقاء.
وأيضا تقول كيف ستكون صوت المضطهدين: ” كي أكون صوتًا لمن لا يملكون اللّسان” وأيضا: ” كي أحوّلَ دموعَ الشّعوب إلى دروب”، ولذا فلا مواعيد لكتابتها: “أكتب دون موعدٍ، كسطوع جبينه في كلّ مرّة” فهي لا تكتب الا كلما سطعت الشمس في جبين الوطن: “وهل هناك شمسٌ أبهى من جبين المحبوب”، وهي ترى اللغة التي تكتب بها عطر جميل وعبق يفوح بالجمال فتتعطر بها: “أتعطّر باللّغة، كما تتعطّر ربّةُ البيت بشجرة اللّيمون” فهي حين تكتب تعيش بحالة عشق: “أتنهد بين الصّفحات..” وهي تشتاق الحروف وتمارس العشق للصفحات والحروف التي تشتاقها كلما ابتعدت قليلا: “أشتاق لها، كاشتياق أسيرٍ لحاسّة اللّمس ولغة العيون”.
وفي نهاية النص تخاطبنا جميعاً أصدقاءها وتقول لنا: “يا أصدقائي.. أنا أكتب كي أصل لأعماق نفسي”، فهذه الأعماق هي التي تنبع منها عملية العشق للأرض وللوطن، للأسرى الذين يعانون بصمت وازداد العناء بعد بدء الحرب في السابع من تشرين الأول فسقط منهم شهداء ومنعوا من الزيارة وجرى تخفيض وجبات الطعام، وقمر التي كنت القبها “قمر الأسرى” من خلال برامجها الاذاعية والاعلامية التي قدمتها وجلبت لها الكثير من المشكلات ولكنها صمدت وقاومت، فهي تقول عن نفسها: “أنا الصّوت الذي يمشي.. بحريةٍ بين عنابر السّجون” ومن يعرف مسيرتها يتأكد من صدق القول، ومن يعرفها جيدا يعرف أهدافها وأحلامها التي تقول عنها: ” أنا أحلم.. أحلم أن أحطّم القضبان والحكّام والقانون”.
وهكذا نجد انفسنا مع نص مكثف لخص الحكاية وروى حكاية الكتابة لدى قمر، بألفاظ جزلة وصور مشرقة ولوحات فنية ولغة مكثفة، تدلل على المستوى اللغوي الذي وصلت اليه قمر والتطور الفني وسمو الفكرة، في نص اختلف عما سبقه من رسائل.