قراءة في مجموعة “البهجة مطلب عصي” للشاعر اليمني عبدالغني المخلافي
بقلم: الأكاديمية: د. وافية حملاوي
جامعة العربي بن مهيدي،
أم البواقي، الجزائر.
الشاعر “عبد الغني المخلافي صوت يمني يصدح في سماء واحة الشعر، قلم شعري أقلّ ما يمكن أن يُقال عنه إنه قلم مبدع، أنيق، يستلهم تجربته الشعرية من واقع حياته، يتلبس القصيدة و تتلبسه، يعطيها من روحه، و تعطيه هي من روحها شطحاتها الكثير.
فبين نجمة معلّقة في السّماء و حكاية تُروى على الأرض، يسير الشّاعر وسط أحلامه الكبيرة ظمآن يفتّش عن حبيبته، أوليست القصائد حبيبة للشّعراء، نعم هي كذلك، فنشوة لقاء القصيدة لا تضاهيها نشوة.
تتلبّس القصيدة الشّاعر “عبد الغني”، و إنها حالة نفسية ووجدانية و أيضا عضوية، تستغرق كيانه كلّه و لا تكاد تستثني أيّ عضو منه، فحين ينغمس فيها يصبح مسلوب الإرادة، لا يقول إلا ما تمليه هي عليه.
أمكث وحيدا في عزلتي
أضاجع القصيدة
و أخاف أن يُطرق بابي.
تتشكّل القصيدة داخل الشّاعر تماما كتشكّل الجنين؛ تُخلق ثم تتكوّن ثم تنمو شيئا فشيئا إلى أن تصل لحظة الولادة، و كلّما دنت هذه اللّحظة واقتربت نهاية القصيدة أحسّ الشّاعر بلذّة قاتلة، فتتحول القصيدة من مجرد كلمات إلى كيان بأكمله، تلقي بظلالها على الشّاعر فتمنحه الحياة و الرّغبة في العيش، يقول:
أحاول أن أتنفس
من خلال قصيدة مثقوبة
أبحث عن شرارة وميض
أنعش بها قلبي
و أسرج ليلي المكبّل بالسّواد
أصير فراشة
و أمتص رحيق شعري
و أطير.
الشّاعر “عبد الغني” هو خالق تجربته يعاني من حين تخلّق قصائده إلى حين اكتمالها؛ يعاني في معانيها و أخيلتها و صورها و إيقاعاتها، ذلك أن التّجربة الشّعرية عبء و مشقة و جهد، فهي لا تكتمل إلا بتعمق الشّاعر في الحياة و سبر أغوارها و أسرارها، يقول:
من المستحيل أن تقبض
على قصيدة
تطير و تهبط
تعتلي عرشا لم يُطل
بعلامة أدبية كاملة
تنهي الشعور بقلة الموهبة
والغوص في المعارف والفنون
و الهروب إلى اللّغة
و تريض الأخيلة.
ملكت القصيدة على الشاعر نفسه، فهي نقطة الوصل غير المرئية بينه وبين العالم، بحضورها تُقبل عليه الدنيا بكامل زينتها، و بغيابها يعاني الغربة و الوحشة و النأي.
ماذا أقول و أنا لم يعد لي حبيب
أيها الشعر امنحني قصيدة مضيئة
ثمة شعراء يبتهجون
و أنا أتلفّت
نحو السّماء
(…)
ماذا يصنع شاعر مثلي
على الهامش
مساؤه جثّة هامدة
قلبه محاصر بالسّكون.
إنّ الكتابة لدى “عبد الغني” تعبير صادق عن ذاته بكل مشاعره و أفكاره، إنها نقل أمين للواقع النفسي الذي عاشه، تنضح أشعاره حرارة و دفئا، لها قدرة عجيبة على التّأثير في جمهور السامعين و القراء، و ذلك لما تحويه من حرارة و قوة و صدق وعمق، فأن تصل إلى درجة يندمج فيها القارئ بالقصيدة، فذاك منتهى النجاح بالنسبة للشّاعر.
لقد نأى الشّاعر “عبد الغني” عن الرصد المباشر لأحداث الواقع الذي عاشه و ما يزال يعيشه، و ذلك بكل احترافية؛ فراح يصور الأحداث كما أحسّها بروحه ووجدانه، يراها بعمق بصيرته و صفاءها، يمزج بين فكره ووجدانه بطريقة تلقائية وانسيابية، فالصدق كان عنوان تجربة الشاعر و بصمته الواضحة و الطاغية على أعماله.
استمد الشاعر صوره الشعرية بالأساس من عناصر الطبيعة البكر، بكل ما فيها من جمال و تنوع، فقديما قال الفلاسفة بأن “الإنسان عالم صغير، كما أن العالم إنسان كبير”، و هذا القول فيه جانب كبير من الحقيقة و الصواب، فالطبيعة معين قوي للشّعراء و الكُتّاب، يستمدون منها خيالاتهم و صورهم؛ فالأصوات و الروائح و الألوان من أهم مصادر الإلهام، الأمر الذي يضفي على القصائد قدرا كبيرا من الحياة و الحس المرهف و المقدرة الفنية، و بالتالي تنقل هذه القصائد القارئ إلى عوالم من الجمال و الإبداع و العبقرية الفنية.
و منه فإن الكتابة الشّعرية لدى الشاعر اليمني “عبد الغني” كتابة صادقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تفاعل فيها الشّاعر بكل أحاسيسه بعد أن أثرت مواقف الحياة في وجدانه و كيانه، فاستغرقت فكره و خياله، فعاشها بدقائقها و تفاصيلها، ثم صاغها بأسلوب المعبر عن نفسه و أصالته فأخرج قصائده هذه إلى الوجود مكتملة العناصر الفكرية و الفنية.