أدب

شوكت المصري.. التوليب الشعري.. نحو القصيدة وبلاغة الشعرية في قصيدة النثر العربية

من إصدارات: سلسلة دراسات أدبية

عالم الثقافة | الهيئة المصرية العامة للكتاب

صدر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة دراسات أدبية كتاب (التوليب الشعري.. نحو القصيدة وبلاغة الشعرية في قصيدة النثر) العربية؛ يقول الدكتور شوكت المصري في مفتتح الكتاب: يمثل الفن على اختلاف تشكُّلاتِه وتجسّداته وطرائقه وأنواعه اللحظةَ الإنسانية الخالصة في أشد حالات حضورها خصوصيةً، وتنبع هذه الخصوصية من كونه يحقق علاقةً جمالية تقوم بين الإنسان وعالمه، علاقةٌ ربما تتبنى الارتباطَ بمفردات الواقع وربما ترفضها، وربما تعيد بناءها أو تتجاوزها أو حتى تفارقُها، بل وربما تُفجِّرها منقلبةً على ذلك الواقع استغراقًا في خيالٍ محض؛ وذلك تبعًا لمنطلقات الذات المبدعة ورؤيتها ومستهدفاتها وطاقاتها أيضًا.


ويختص الأدب دون غيره من الفنون الأخرى بكونه يعتمد اللغةَ وسيلةً لتحقيق علاقةٍ جماليةٍ بالعالم، لكنهُ توسُّلٌ ينبني على استحضار شديد الحساسية للُّغة في تعبيرها عن الذات والعالم، أو على الأقل استحضار مغاير لهذه اللغة، علمًا بأنه هذه اللغة وبالأساس تضطلع بدورٍ رئيسي لا سبيل لزحزحته أو المساس به (خارجَ نصوص الأدب وحوالَيْها) ألا وهو تحقيق التواصل بين البشر وبعضهم بعضًا، ومجرد الحديث عن إخلال غير منتظمٍ أو غير متعيِّنٍ بسَنَنِ هذا التواصل يعدُّ ضربًا من الجنون والمستحيل، إذ يخرجُ باللغة عن تحقيق وظيفتها الرئيسية لتصبحَ لَغوًا لا لُغَة.
ومن بين كل الفنون اللغوية، التي تجتمع داخل دائرة الأدب، يتفرّد الشعرُ بإِحداثِهِ خلالاً منتظمًا في وظيفيّة اللغة، ومجرد انتظام هذا الإخلال نسَقًا يحققُ إنتاجَ الدلالة المستهدفة ويفتحُ التعبير على إمكانات القراءة والتأويل، أو على حد تعبير جون كوين: «سوف نعتبر إذن اللغة الشعرية ظاهرة أسلوبية بالمعنى العام للمصطلح، والقاعدة الأساسية التي سيُبنى عليها هذا التحليل هي أن الشاعر لا يتحدث كما يتحدث كل الناس، وأن لغته «غير عادية» وأن الشيء غير العادي في هذه اللغة يمنحها أسلوبًا يسمى «الشعرية» وهي ما يُبحَث عن خصائصه في علم الأسلوب الشعري».
وهكذا يتميّز الشعر بتنويعه وتطويره الدائمين لطرائق الإخلال باعتيادية اللغة ووظائفها ونواتجها، وذلك عبر بنائه الداخلي والخارجي على حدٍ سواء، بمعنى أنه يطور دائمًا من فعالياته وأدواته ووسائله، ذلك التطوير الذي يطالُ القوالبَ التي يستخدمها الشاعر، مرورًا بالأنماط والمدارس التي ينتمي إليها ويحقق سماتها في الآن نفسه، ويصب نهايةً في الناتج الدلالي والجمالي، والذي لا يصبح آنذاك منتميًا لرؤيةٍ فردية يمثلها الشاعر فحسب، بقدر ما هو رهنٌ بالإضافة التي يقدمها النص لمدونة الشعر كله، وللذائقة الجمعية التي يمثلها جمهور التلقي على تنوع درجاته واختلافها.
وقد تعددت المقاربات النقدية التي استهدفت الوقوف على محددات النص الشعري ودراسة تقنياته واستكشاف جمالياته، تعددًا لا متناهٍ بقدر طرائق القراءة وآليات التأويل ومستقبليّات التلقي، منتجةً بالتبعية تعدُّدًا وتنوّعًا في الإجراءات التحليلية التي تفترضها المناهج المختلفة والنظريات المتعددة، وكذلك المقولات التأسيسية التي ينطلق منها الناقد في تعامله مع الظاهرةِ الأدبية المتمثِّلةِ نصًّا.
وإذا كان النص الأدبي كما يرى د. محمد عبد المطلب «يفرِضُ على الناقد التعامل معه بأدواتٍ تنبع من ذاته، على معنى أن النص يُطالب الناقد بأن يعامله بما فيه من خواص، لا بما يختزله في ذاكرته من إجراءاتٍ محفوظة، سواءً أكانت وافدةً أم غير وافدة»؛ فإن إجراءات تحليل النص الأدبي بالتالي يجب عليها أن تنبع من خصائص هذا النص وسماته، محاولةً تجريب مختلف مقولاتها المتنوعة عليه، ما دام النص الأدبي طاويًا على خصائص متنوعة وفنياتٍ مُغايرة متجدّدة، دونما جمودٍ يحصر الناقد في اِتباع منهجٍ تحليليٍ بعينه لمقاربة النص واستكشاف عناصره وجمالياته.
وفي مقابل تعدد المناهج النقدية وتنوِّعِ إجراءاتها التحليلية، كان هناك تاريخٌ طويل من التحولات التي عرفتها النصوص الأدبية عموما والشعر خصوصًا، وبطول التاريخ الأدبي عربيًّا وغربيًّا، والذي استهدفت نظرية الأدب صياغَتَه، مُحاوِلَةً الفصل بين الأنواع الأدبية وبعضها بعضًا، بينما نوّعَ الأدباء في نصوصهم الإبداعية بين تلك التقنيات والمحددات مُبادِلين بينها، طامحين إلى تحميل نصوصهم بفنّيات وجماليات متعددة، تتأسس على مغايرةٍ دائبة في أدائية اللغة وتداوليتها(*)، إذ تتجسّد هذه اللغة نصًّا أدبيًّا يفرض تمايزه، ويفترض انتظارَهُ لأفق مفتوح على مستقبل التلقي وإجراءات التحليل وآليات التأويل المتعددة.
والقضية بالأساس – كما أسلفَ كثيرٌ من الباحثين والنقاد – لا تنحصر، آن تعرضنا للأعمال الأدبية عموما والشعرية خصوصًا، في قضية الأداء اللغوي وفق الانتظام أو الانحراف (العدول عند البلاغيين العرب) اللذَيْن ينطوي عليهما الأداء الشعري وتقنياته فحسب؛ وإنما القضية تتسع لما هو أكبر من ذلك وأشمل، فلا يمكن لنا إنكارُ جوانب مثل: القالب الشعري، والموضوع أو الغرض، وطبيعة التلقّي، وسيرورة النص وصيرورته، ومحدادته النوعيته.. إلخ.
من هنا تضع هذه الدراسة على عاتقها تقديمَ قراءَةٍ لنصوصٍ شعريةٍ مغايرة، في منطلقاتها ورؤاها وقالَبها ومحدداتها، وفقًا لإجراءات ومقولات متحوّلَةٍ أيضًا لتستطيع الدراسة الوقوف على جوانب الاختلاف والتشابه التي تحققها هذه النصوص فيما بينها ومع سواها.
ولكن هذه القراءة التي تحاول الدراسة تقديمها لن تكونَ جديرةً بمنهجيَّة الوصول إلى نتائجها ومستهدفاتها دون تأسيسٍ نظري يتعامل مع جانبين رئيسيين في موضوعها، وهما: النص الشعري المقروء وطبيعته، والمفاهيم النقدية المطروحة ومحدداتها. وهذان الجانبان سيشكِّلان «الجزء الأول» من هذه الدراسة، وهو الذي يُعني بالإطار النظري للدراسة، وقد أسميناه بـ «نحوِ القصيدة» لأنه يتناول القواعد التي ينبني عليها النص وفقًا لرؤيةِ مُنتِجيه.
وستندرج تحت هذا الإطار النظري ثلاثةُ مباحث أولهما والثاني سيحاولان الوقوف على مرتكزات النص الشعري وطبيعته، ليس فقط من وجهة نظر المؤيدين له، وإنما قبل هذا من وجهة نظر منتقديه، أما المبحث الثالث في هذا الإطار النظري فسيتولى مناقشةَ مفهومَي «النص» و«الشعرية» لما لهما من ارتباطٍ وثيق بالتنظير والتناول النقدي لهذه القصيدة. أما «الجزء الثاني» من الدراسة وهو الجزء التطبيقي، وأطلقنا عليه عنوانًا هو «بلاغَةُ الشعريّة»، لأنه يستهدف تقديمَ قراءةٍ للنصوص الشعرية التي اختارتها الدراسة، مستكشفًا ما تنطوي عليه من جماليات، وفقًا لضوابط محددة سيأتي ذكرها في موضعها.

****

رئيس تحرير سلسلة دراسات أدبية الأستاذ الدكتور محمد عبد المطلب ومدير التحرير أحمد حسن وسكرتير التحرير الدكتورة أمل فهمى وتصميم الغلاف إسلام عمر وماكيت إيمان راشد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى