يوميات رجل من صعيد مصر (3) الناظر فاروق

د. عماد الدين علي ماهر

 

اصطحبني والدي وأنا ابن ستة أعوام، إلى المدينة لشراء احتياجات الدراسة؛ فالطفل المدلل علي أربعة بنات سيدخل المدرسة. ركبنا من موقف القرية القابع في المكان نفسه منذ قرابة الـ٥٠ عامًا، منذ أن قام أحد أشهر عمد القرية؛ العمدة رضوان – رحمه الله عليه – باستقدام المساجين لتمهيد الطريق الجديد الذي سيربط تونس بالعاصمة سوهاج، وقبل ترك هذا العمدة العظيم نضيف أنه أنشأ سور المقابر الذي مازال قائما حتي يومنا هذا. كانت (باتا) محل الأحذية المشهور هو وجهتنا الأولى لأنه الأقرب إلى موقف سيارات القرية بسوهاج والأشهر كمحل للأحذية، اشترى لي والدي حذاءً جلديًا رائعًا، وشنطة ذات ابزيمين جميلين، ثم أكرمني بشراء أيس كريم من محل الخواجة حلمي، ومشينا في شارع مستشفى الحميات مرورا بمعهد سوهاج الأزهري، وصولا إلي عمر أفندي لشراء المريلة والشرابات والملابس الداخلية، والدي الموظف العام صاحب الـ 36 جنيها راتبا شهريا يستطيع أن يشتري الكثير لولده الوحيد في عامه الدراسي الأول.

أيقظتني أمي باكرا بعد أن أعدت فطورا جيدا وقد غسلت شعري وارتديت ملابسي الجديدة وحذائي الجديد اللامع، وقامت أمي بتقليم أظافري جيدا خوفا من طابور الصباح، منديلي القماش المكوي كان في جيبي، وعشر قروش ورقية كانت أول مصروف في حياتي.

تحركت أنا وغادة أختي صوب المدرسة نخترق الشوارع لاختصار الوقت والمسافة حتى وصلنا إلي وابور المياه الذي يغذي القرية، ثم أكملنا إلى الوحدة المجمعة والتي تحوي مدرستنا الرائعة.

تفوح من المكان روائح النباتات المختلفة، فالوحدة المجمعة إحدى روائع الحقبة الناصرية في مصر: مستشفى ووحدة اجتماعية ومشغل وورشة لحام وورشة أثاث ومكتب بريد ومنحل ومعلف للعجول، ومدرستنا هي مكونات المجمع والذي كان متواجدا في كل قرية كبيرة بها وحدة محلية تتبعها عدة قرى.

كل وصف للمدرسة لا يعطيها حقها؛ فالمدرسة ممر طويل على هيئة حرف  (L)بالإنجليزية، وعلى الممر تصطف وحدات عبارة عن فصلين متجاورين خلفهما حمامين، وكل فصلين لفرقة دراسية يفصل بين كل وحدة وأخرى شجرة وارفة الظلال، وهذا الممر الطويل يطل على الحوش وخلفه فدانين من الأرض الزراعية، وبجواره ملعب لكرة القدم، وعند فصول الصف الخامس والسادس برج الحمام الشهير الجميل. المدرسة والفصول ذات دور واحد صحية وجميلة وإنساني لأبعد مدى.

في طابور الصباح اصطف المدرسون خلف ناظر المدرسة، ذاك الشخص الضخم ببدلته الصيفية الأنيقة والمدرسون بملابسهم المنمقة المهندمة الرائعة التي تعكس مستوى دخل معقول ومحترم.

الكل يقف في مستوى خلف مستوى وقوف الناظر الذي لم يتكلم كثيرا وكانت أوامره بإيماءات عينيه.

بعد انتهاء الإذاعة المدرسية التي قدمها طلاب الصف السادس، طلب منا أن يمد كل طفل يده للأمام وبدأ المدرسون التدقيق في أظافرنا وكأننا في الكلية الحربية، كل هذا وذلك الجبل الواقف بنظارته الكثيفة يراقب كل سكنة وحركة لنا وللمدرسين وللجميع.

كانت عيناي تنظر إليه بخوف ومحبة في آن واحد؛ إنه الناظر فاروق محمد أحمد عناني شخصية اليوم المحورية، فالرجل ابن العائلة ذات الصيت والحسب النسب جارنا وصديق والدي وجدي يقابلونه بحب وترحاب شديدين يعكسان مدى أهميه الرجل ومكانته في قلوبهم، أمر الناظر بإنهاء الطابور وتحرك الطلاب إلي فصولهم لنتحرك في صفوف منتظمة وكأننا طيور البطريق في حركتها نحو المحيط للصيد.

في الفصل تعرفت علي العديد من الزملاء الذين أصبحوا جزءًا من حياتي إلى الآن، وكان رفيق الكرسي حتي المرحلة الثانوية الطبيب البيطري عاطف النموري الذي ربطتني به الدنيا حتى في السكن في إحدى أحياء المدينة الجميلة الآن.

بعد أن أصبحت طالبا لدى الناظر فاروق أو أبو الأيمن أصبح محرما علي التواجد أو المرور أو الحركة في دائرة قطرها يبدأ من بيتي وينتهي عند مقهي عم فتحي حميد، لأن هذا هو المجال الاستراتيجي لحركة الناظر بعد رجوعه من العمل. الناظر فاروق ومعه مجموعة المدرسين والموظفين بشرق البلد كان لهم طقس جميل كل عصر قرب المغرب يسمي طقس التمشية في الحقول، جلابيبهم المكوية النظيفة تشهد أن المعلمين كانوا ميسوري الحال مقارنة بغيرهم في بدايات الثمانينيات.

كان الطالب غير محظوظ إذا ضبط متلبسا يلعب الكرة في الشارع وقد مر أحد المعلمين به، ولكن إذا ضبطه الناظر فاروق فذلك يعني بلا شك عقابا شديدا بطابور صباح اليوم التالي.

كان جيلا يرسم بأنامله مستقبل الأجيال القادمة وكانوا متفانين معنا لدرجة غريبة اختفت واندثرت الآن.

كان الناظر فاروق الأخ الأكبر للمحامي المشهور في قريتي الأستاذ الزمر رحمه الله، والأخ الأصغر الحج عناني الذي ظل مقيما بالسعودية حتى أصبحنا رجالا بالجامعة .

كان منزلهم محوريا مهما، فهو يتوسط شرق البلد وتنسب إليه المواعيد وفي مندرة المنزل تعقد الجلسات المهمة وخصوصا بين المعلمين في المدرسة الابتدائية.

كان والدي شابا في ذاك الوقت ومعه جيل كامل من أبناء المنطقة لم يتبق منهم الآن إلا النذر اليسير فلقد غيبهم الموت جميعا ولكن لم تغب ذكراهم.

وداخل منزل الناظر كانت هناك أيقونة ما كان لنا أن نغفل عن ذكرها، إنها الجدة ناهد، وللجدة ملامح جميلة كالشمس رغم أنها عبرت الثمانينات؛ فالشعر الأصفر والعيون الخضراء، وقبلهم القلب الطيب أحد أهم سمات الجدة، إذا ساقتك الأقدار لمكان معيشتها، فإنك لن تخرج بدون تمر أو أي شيء حلو المذاق كطبعها الجميل، سمعتهم يقولون إن جمالها الأخاذ قد ورثته من آسيا بنت عناني الجدة الكبرى لبيت عناني، وعليه فكل آسيا سميت في تونس كانت طلبا لجمال المتوفية في ثلاثينيات القرن العشرين آسيا بنت عناني.

كانت مواعيد خروج الناظر فاروق صوب المدرسة ثابتة، تستطيع أن تضبط ساعتك عليها؛ فأبو الأيمن يضرب المثل في الإنضباط للكبير قبل الصغير، تخرج من مدرستنا الابتدائية الأستاذ في كليه الطب والضابط الكبير في القوات المسلحة والمهندس والطبيب والمعلم وكل صنوف الحرف والمهن، وكلهم كان يراقبهم بدون كلل أو ملل ذلك الرجل ذو الكاريزما العجيبة الناظر فاروق.

في يوم ما في آخر الأسبوع سمعنا أن الجار مريض، نعم مريض وأنهم ذهبوا به إلى سوهاج للكشف عليه، ولكن الرجل لم يعد، عاد ولكنه لم يعد إلى مدرسته أو طابور الصباح أو جلسته في شرق البلد أو إلي تمشيته في المغرب، بل عاد إلى النهاية المحتومة لكل المخلوقات، سمعنا صراخا لم نعهده من هذا البيت، وكان الخبر أن الناظر فاروق مات، ومع موته انتهت أسطورة المدرسة التي تُربي وتعلِّم وتهتم وتتابع، جيل من العظماء في قريتي انتهى في الثمانينيات والتسعينات من القرن الماضي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى