سؤال المقاومة الصوفية في رواية ” فرحة “

عيسى قراقع  | فلسطين

أما آن الأوان لنائل البرغوثي أن يأكل من ليمونته؟

” فرحة ” عنوان الرواية الجديدة للكاتب والأسير المحرر وليد الهودلي، وهي رواية تجمع بين الجوانب التوثيقية والتسجيلية والسيرة الذاتية وذات بعد سياسي وتاريخي، والرواية هي الغوص في ذاكرة الأم المرحومة المناضلة فرحة رباح البرغوثي والدة أقدم ١لاسسرى في سجون الاحتلال نائل البرغوثي، ووالدة المرحوم المناضل عمر البرغوثي، جدة الششهيد صالح البرغوثي وال١سير عاصم البرغوثي وام الششهيد علي البرغوثي.

فرحة رواية كل أم وامرأة فلسطينية مناضلة وهي سيرة كل بيت فلسطيني، بيوت الششهداء و١الأسسرى والجرحى والمبعدين والمطاردين، هي سيرة ومسيرة النضال الوطني الفلسطيني المستمر ضد هذا الاحتلال الغاصب، وهي قصة الحركة الوطنية الاسسيرة وصمود الاسسرى ومواجهاتهم المستمرة ضد الطغيان الإسرائيلي وجرائمه المتعددة.

من يقرأ رواية فرحة يشعر بأنها لائحة اتهام قانونية واخلاقية وسياسية لدولة الاحتلال العنصرية، فالرواية هي محكمة متكاملة تقوم بها امرأة فلسطينية عظيمة وقفت في وجه المحتلين على مدار ثلاثة عقود، رواية المق١اومة الفلسطينية في كافة المراحل ومنذ ان بدأ الصراع، رواية الحاجة فرحة البرغوثي صاحبة النظرية الثورية التي حملت شعار (درهم شرف ولا بيت مال) وهي وصيتها الأخيرة لأبنائها الأسسرى عمر ونائل قبل وفاتها عام 2005، وهي وصيتها للشعب الفلسطيني ولكل الأجيال.

الرواية تنتصر للمرأة الفلسطينية المقاتلة حيث تقل الكتابات التي تنصف المرأة، تدافع الرواية من خلال فرحة عن دور المرأة وتاريخها وحقها في المشاركة والمساواة، وتفتح أعين العالم على حكايات المرأة الفلسطينية الأم والأسسيرة والجريحة والشهيدة والمربية والمبدعة والعنيدة، المرأة التي تقاتل بالحجر والبندقية وبالقلم وبالأغنية وبالدعاء والصلاة.

فرحة البرغوثي حالة نضالية مترسخة في الوجدان الفلسطيني لا تتسعها مجرد رواية، فلا غرابة ان يطلق عليها خنساء الأمه الخالدات، الانسانة الملائكية، الناطقة باسم الاسسرى، المحرك الكبير للانتفاضات، المرأة التي تجتمع فيها الشمس والقمر، الحاجة مبروكة، المرأة الحديدية الحرة، ايقونة فلسطين، وغيرها من الألقاب والصفات التي نجدها عند كل نساء فلسطين.

ما ميز فرحة بروايتها الطويلة هو المقا١ومة الصوفية كسلاح في مواجهة الاستعمار والمعتدين، هذه المقا١ومة التي تجاهر بالتصالح الذاتي وبالتضحية وبالفناء الروحي في سبيل القناعات والمبادئ والترفع عن المكاسب المادية والمنفعية، وبالتمسك بالكرامة والحرية وبالثوابت الوطنية.

النزعة الصوفية في رواية فرحة ظهرت على شكل التدين الشعبي، تدين تلك الفلاحة المرتبطة بالأرض ورائحتها وحماية ترابها واشجارها وينابيعها والموت في سبيلها، التفاني وعدم الخوف الا من الله، الفداء والجههاد والقناعة هي الصور المتطابقة للكلمات والمواقف بين الدين والدنيا.

المقا١ومة الصوفية للحاجة فرحة صنعت البطولات والمعجزات بكل ما فيها من عظمة وقوة لتبلغ قمة الكمال الإنساني والروحي، وهذا ما اعانها على التصدي لمصائب الاحتلال بحكمة وصبر وصلابة، وقد نجح الكاتب الهودلي بتوظيف النزعة الصوفية في روايته مستدعيا التراث الروحي في عملية الابداع الادبي وتحقيق جمالية فنية اثارت القارئ واضفت على النص هالة من الروحانية والقدسية.

المقا١ومة الصوفية في رواية فرحة للكاتب الهودلي نلمسها في المحاور التالية:

أولاً: مقا١ومة الاحتلال وأعوانه، تقول فرحة: مالم نحصله بالبندقية لن نحصله ابدا بأي شيء آخر، فالنفوس الحرة هي التي تُحرر بينما العبيد على اكتافهم يبني الاحتلال بنيانه، فلو دفعت كل عائلة عُشر ما فيها للثورة ما بقيت دولة الاحتلال المارقة.

فرحة بإيمانها الثوري واجهت المحتلين واعوانهم بذلك الشموخ والعزيمة وهي تقول: الدم يعود وينتصر على السيف، ولن ننتصر بالأزهار والورود وغصن الزيتون، لن ننتصر على هذا الاحتلال الا بأمثال عمر ونائل، بالفدائييين وحدهم ننتصر وليس بالتجار والمقاولين.

فرحة التي قادت المظاهرات والمسيرات الشعبية ودعت الى مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية كانت تردد دائما: لا نريد بضائعهم، من يتهاون في الصغائر يقع في الكبائر.

ثانياً: الدفاع عن حرية الاسسرى وقضيتهم العادلة، الحاجة فرحة قضت حياتها تزور السجون، حملت الكبسولات والرسائل من الاسسرى الى قيادات الثورة، حملت السلاح والتعليمات، اضربت عن الطعام في مقار الصليب الأحمر أكثر من مرة، قادت العديد من المظاهرات، اعتقلت وتعذبت ولوحقت وحرمت من الزيارات وظلت صامدة، انتقدت التقصير في قضية الاسسرى الذين يقضون سنوات طويلة خلف القضبان،

 وجهت سؤالها الموجع الى الجميع: أما آن الأوان لنائل أن يأكل من ليمونته؟

تلك الليمونة التي اخرجها نائل بذرة من داخل السجن مع والدته التي زرعتها حتى صارت شجرة مثمرة، أخرج نائل قناني الماء من السجن لتسقي والدته فرحة الشجرة، وظلت فرحة تنتظر ان يعود نائل ويأكل منها ويتمدد تحتها كما كان يتمنى، أما آن الأوان ليوضع حدٌ لهذا الزمن الثقيل الذي يطوي حياة الالاف من الاسسرى والمناضلين؟ عندما سألها نائل عن الليمونة قالت له الحاجة فرحة: تهديك السلام لكن سلامها حامض مثلها.

فرحة البرغوثي وقفت في ساحة الصليب الأحمر في القدس عندما استششهد ثلاثة أسسرى في سجن نفحة خلال اضرابهم الملحمي عن الطعام عام 1980، وأمام هول تلك المجزرة صرخت: لو كنت زعيماً للمنظمة لأعلنت الحرب.

ثالثاً: عدم التنازل عن الحقوق، المقا١ومة الصوفية عند الحاجة فرحة تجلت في رفضها التنازل عن المبادئ والقناعات الوطنية، لا مساومة على الحقوق، لا مشاريع اقتصادية ومالية للمقايضة على حساب الكرامة والاستقلال والحقوق السياسية والقومية،

تقول الحاجة فرحة: أرى الخطر في مبدأ التنازل، ان تسلل الى عقولنا او عقول قادتنا فلن يكون له حدود، سيأخذون منا كل شيء.

فرحة تخرج من الرواية وتقول لنا: التاريخ لا يرحم والشعوب ليست فئراناً في مختبرات وتجارب الاحتلال، لسنا شعباً خلق للذبح، من يستخدم القوة ويمارس الاستيطان والعدوان لا يعرف السلام أبداً.

انتقدت فرحة المشهد الفلسطيني الحالي قائلة: ليس لهذا سُجن عمر ونائل وكل المناضلين الأحرار، لا نحن أحرار ولا نحن مستقلين، يقولون أسسير محرر لا هو محرر ولا الوطن محرر، كل شيء في حياتنا كبلوه بإجراءاتهم اللئيمة.

لا وسطية ولا محايدة عند فرحة البرغوثي، فإن كنت فلسطينياً حراً فلا تلعب دور الوسيط بينها وبين هؤلاء المحتلين.

رابعاً: الصمود في التحقيق

عندما اعتقلت سلطات الاحتلال الحاجة فرحة البرغوثي وزجتها في زنازين سجن المسكوبية واجهت المحقق الإسرائيلي قائلة: انت لا تعرف المرأة الفلسطينية ولا تعرف فرحة بالذات، حسبتها فرخة، ولم تدرك بعقلك الصغير أن هذه الفرخة هي التي خلقت أسوداً وديوكاً، فأعلى ما في خيلكم اركبوا، اتحداكم ان تأخذوا مني حقاً أو باطلاً.

فرحة بنضالها الصوفي اليقيني الايماني الوطني شعرت وهي في اقبية التحقيق بأنها تشم رائحة أولادها الاسسرى نائل وعمر، وانهم قريبون منها جداً، روحها تعانق أرواحهم وتستمد منهم الشجاعة والصمود.

عندما توفي ابنها عُمر البرغوثي في شهر آذار عام 2021، وخلال الجنازة في قرية كوبر هطلت أمطار غزيرة ومدرارة، عواصف ورعود وبروق، السماء لم تتوقف عن المشاركة في تلك الزفة الشتوية لمناضل قضى أكثر من 28 عاماً في سجون الاحتلال، الجميع شاهد الحاجة فرحة تحررت من نصوص الرواية، تحررت من قيود الكلمات ومن الأبدية، مشت معنا في الجنازة، روحها توحدت مع ابنها في الدنيا والآخرة.

رواية فرحة للكاتب وليد الهودلي هي روايتنا جميعا، فلنذهب لقبر تلك المرأة ونقرأ على روحها الفاتحة، لنستعيد الماضي ونقرأ الحاضر جيداً ونستشرف المستقبل، لننظر أكثر في المرآة لنرى أنفسنا بطريقة مختلفة ونسأل: هل نحن نحن كما أرادت المرحومة فرحة ان نكون؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى