قضاء حوائج الناس مصيدة القلوب 

د.عادل المراغي | القاهرة

إن قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم والقيام على خدمتهم من أعظم أعمال البر ومن أسرع الطرق إلى غزو القلوب، وقد فضل أهل العلم الأعمال ذات النفع المتعدي إلى الآخرين على النفع الخاص فأفضل الأعمال ما تعدى نفعها للغير .

وقد ثبت  الترغيب في ذلك، كما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ” المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ” .

 وروي الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: ” كان رسول الله – صلى الله عليه  وسلم – إذا جاءه السائل أو طُلبت إليه حاجة، قال: ( اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء )

وأفضل خدمة نقدمها للناس أن نشفع لهم ،وأفصل الشفاعة ماكان لإصلاح بين الناس أو زواج أو بين متحابين.

معنى الشفاعة:

 وتعني الشفاعة: التوسط للغير بجلب منفعة مشروعة له، أو دفع مضرة عنه؛

  • قال الطيبي رحمه الله : (قال النبي – صلى الله عليه وسلم –

: إذا عرض المحتاج حاجته عليّ، فاشفعوا له إليّ؛ فإنكم إن شفعتم حصَل لكم الأجر؛ سواء قبِلت شفاعتكم أم لا، ويجري الله على لسان نبيه ما شاء من موجبات قضاء الحاجة أو عدمها، فإن قضيتها أو لم أقضِها، فهو بتقدير الله تعالى وقضائه )

ويقول الإمام النووي رحمه الله عند شرحه لهذا الحديث: ” (هذا الحديث فيه استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة؛ سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووالٍ ونحوهما، أم إلى واحد من الناس، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلمٍ أو إسقاط تعزير، أو في تخليص عطاء لمحتاج أو نحو ذلك، وأما الشفاعة في الحدود فحرام، وكذا الشفاعة في تتميم باطل أو إبطال حق ونحو ذلك، فهي حرام )

ومما ورد في العبادات المدنية وقضاء الحوائج ما رواه الشيخان عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي – صلى الله عليه وسلم-  قال: ( كل معروف صدقة ).

 وقوله صلي الله عليه وسلم: ( كل معروف ) : أي : ما عُرِف من جملة الخيرات من عطية مال أو خلق حسنٍ ، أو ما عُرِف فيه رضا الله من الأقوال والأفعال.

وقوله : (صدقة) : أي : ثوابه كثواب الصدقة.

 ومن ثمرات فضاء الحوايج اصطفاء الله للذين يقضون حوائج الناس :

 وقد روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن لله عبادًا اختصَّهم بالنعم لمنافع العباد، يُقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منَعوها نزعها منهم، فحوَّلها إلى غيرهم ” .

وقوله: ( لمنافع العباد ) : أي: لأجل منافع الناس.

 أما قوله: (يقرهم فيها ما بذلوها) : أي : مدة دوام إعطائهم منها للمستحق.

وقوله: (نزعها منهم) : أي: نزَع منهم النعمة لمنعهم الإعطاء للمستحِق.

وقوله: (فحوَّلها إلى غيرهم) : أي : حوَّل الله تعالى النعم إلى غيرهم  ليقوموا بها كما يجب .

محبة الله للذين يقضون حوائج الناس :

وفي هذا المعني روى ابن أبي الدنيا والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :  ” أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ” .

وأصحاب قضاء حوائج الناس هم مفاتيح الخير مغاليق الشر .

كما روى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطُوبَى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه ) .

وقوله: ( إن من الناس مفاتيح للخير ) : أي: إن الله تعالى أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير  كالعلم والصلاح على الناس ، حتى كأنه ملَّكهم مفاتيح الخير ووضعها في أيديهم .

فأفضل الناس الذين يقضون حوائج الناس ويدخلون السرور على عباد الله.

روى الطبراني عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” المؤمن يَألف ويُؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخيرُ الناس أنفعهم للناس ” .

قوله: (ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) : لأن التآلف سبب الاعتصام بالله وبحبله، وبه يحصل الاجتماع بين الناس، وبضده يحصل التفرقة بينهم .

قوله: (أنفعهم للناس): أي: بالإحسان إليهم بماله وجاهه وعلمه؛ لأن الخلق كلهم عيالُ الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله

 ومن ثمرات قضاء حوائج الناس أن الله في عون الذين يقضون حوائج الناس :

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : ” مَن نفَّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون اخيه ” رواه مسلم

وفي صحيح مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) .

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله :  أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ـ ولو شاء أن يمضيه أمضاه ـ ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة ـ حتى يثبتها له ـ أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام) . رواه ابن أبي الدنيا .

وهذا الحديث  يفيد فضل السعي في حوائج  الناس على الاعتكاف مدة شهر، وقد أورد المنذري في الترغيب والترهيب

حديث ابن عباس مرفوعا : (من مشى في حاجة أخيه كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين )رواه الطبراني في الأوسط.

 كما روي الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: ( كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا جاءه السائل أو طُلبت إليه حاجة، قال: ” اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء )البخاري، ومسلم،

ولا يقتصر السعي في قضاء حوائج الناس على النفع المادي فقط، ولكنه يمتد ليشمل النفع بالعلم، والنفع بالرأي ،والنفع بالنصيحة ، والنفع بالمشورة ،والنفع بالجاه ، والنفع بالسلطان .

ومن لطيف كلام جعفر الصادق رحمه الله أنه قال :-(إن الله خلق خلقا من رحمته برحمته لرحمته وهم الذين يقضون حوائج الناس)

 

ولله در أبو العتاهية حيث قال :-

اقض الحوائج ما استطعـت

 وكن لهمِ أخيك فارج

فلخـير أيام الفـتى

 يوم قضى فيه الحوائج

ومما يدل علي فضل قضاء حوائج الناس ما رواه البخاري في صحيحه (أن رجلًا لم يعملْ خيرًا قطُّ ، و كان يُداينُ الناسَ ، فيقولُ لرسولِه : خُذْ ما تيسَّر ، و اتركْ ما عَسُرَ و تجاوزْ ، لعل اللهَ يتجاوزُ عنا . فلما هلك قال اللهُ له : هل عملتَ خيرًا قطُّ ؟ قال : لا ، إلا أنه كان لي غلامٌ ، و كنتُ أُدايِنُ الناسَ ، فإذا بعثتُه يتقاضى قلتُ له : خُذْ ما تيسَّرَ ، و اتركْ ما عَسُرَ ، و تجاوزْ ، لعل اللهَ يتجاوزُ عنا . قال اللهُ تعالى : قد تجاوزتُ عنك)

ولقد ضرب النبي – صلى الله عليه وسلم – المثل والنموذج الأعلى في الحرص على الخير والبر والإحسان , وفي سعيه لقضاء حوائج الناس وبخاصة للضعفاء والأيتام والأرامل ، لقد أمره الله تعالى بذلك في كتابه الكريم و قص عليه قصة يوسف لما قضي حوائج صاحبي السجن، كما قص عليه قصة موسي عليه السلام لما قضي حاجة بنتي الرجل الصالح في مدين وسقى لهما فكافأه الله خمس مكافآت، كان خائفا فأمنه الله ، وعزبا فزوجه الله ، وجائعا فأطعمه الله ، وطريدا فآواه الله، وفقيرا فأغناه الله ، كل ذلك بسبب قضائه لحوائج الناس ، ولم يمنعه الجوع والنصب والخوف من فعل الخير .

ولله در الشافعى رحمه الله حيث قال:-

ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻟﻮﻓﺎﺀ ﺑﻬﻢ

ﻭﺍﻟﻌﺴﺮ ﻭﺍﻟﻴﺴﺮ ﺃﻭﻗﺎﺕ ﻭﺳﺎﻋﺎﺕُ

ﻭﺃﻛﺮﻡ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﺭﻯ ﺭﺟﻞٌ

ﺗﻘﻀﻰ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻩ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﺣﺎﺟﺎﺕُ

ﻻ ﺗﻘﻄﻌﻦ ﻳﺪ ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻋﻦ ﺃﺣــﺪٍ

ﻣـﺎ ﺩﻣـﺖ ﺗـﻘﺪﺭ ﻭﺍﻷﻳـﺎﻡ ﺗـــﺎﺭﺍﺕُ

ﻭﺍﺫﻛﺮ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﺻﻨﻊ ﺍﻟﻠﻪ ﺇﺫ ﺟﻌﻠﺖ

ﺇﻟﻴﻚ ﻻ ﻟﻚ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺣﺎﺟـــﺎﺕُ

ﻗﺪ ﻣﺎﺕ ﻗﻮﻡ ﻭﻣﺎ ﻣــﺎﺗﺖ ﻓﻀﺎﺋﻠﻬﻢ

ﻭﻋﺎﺵ ﻗﻮﻡ ﻭﻫﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ أموات

 ومن النماذج العملية لقضاء حوائج الناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ( أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ ، فَقَالَتْ :”  يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً ، فَقَالَ : يَا أُمَّ فُلاَنٍ ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ ، فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا) أخرجه أحمد ومسلم

و لقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة على قضاء حوائج الناس ، فكان الصديق رضي الله عنه يحلب الشياه لعجائز المدينة ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد امرأة عجوزاً من عجائز المدينة يقوم على خدمتها ، ويحمل الدقيق على كتفه وهو خليفة المسلمين .

ومن أفضل أنواع الشفاعة : الشفاعة بالجاه التي حث عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان يقول: “( أَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ إِبْلاَغِي حَاجَتَهُ ، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَا نًا حَاجَةَ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ إِبْلاَغَهَا إياه ، ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

ولقد توارت الشفاعة الحسنة وانزوى بذل الجاه والمكانة للناس ، وأصبحت في حكم المعدوم والنادر في هذا الزمان، وتناسى أصحاب المكانات والجاه والرئاسة الفضل العظيم في قبول الشفاعات الحسنة .

ومن شفاعة الجاه : ما ورد أن رجلاً جاء إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها فأقبل الرجل يشكره ، فقال له الحسن بن سهل: علام تشكرنا؟! ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة؟ ثم أنشأ يقول :

فرضت علي زكاة ما سلكت يدي

 وزكـاة جاهي أن أعيــن وأشفعـا

فإذا ملكت فجد فإن لـم تستطـــع فاجهـد بـوسعــــك كلـه أن تنفعا

فالمناصب إلى زوال وهي زائفة زائلة ولن يبقى إلاّ الود وصنائع المعروف.

وأعز ما يبقي وداد دائم

إن المناصب لا تدوم طويلاً

إن المناصب مثل شمس قد بدت

ولعل شمسك آذنت تحويلا

 

ولله در القائل:

إنَّ المناصبَ لا تدومُ لواحدٍ

إنْ كنتَ في شكٍّ فأينَ الأولُ؟

فازرعْ منَ الفعلِ الجميلِ صنائعًا

فإذا عُزلتَ فإنّها لا تُعْزَلُ

فالشفاعة وقضاء الحوائج من أهم المفاتيح التي تفتح قلوب الناس ، وكم رأينا من شخص محبوباً تعلقت به القلوب وهوت إليه الأفئدة بسبب سعية في خدمة الناس ، وكم رأينا من شخص أصبح ممقوتا مكروهاً بسبب تعطيله لمصالح الناس واعراضه عنهم ، لأن الناس عيال الله واحبهم إلى الله انفعهم لعياله ،وإذا أردت أن تفتح قلوب الناس فأحسن إليهم بخدمتهم وقضاء حوائجهم فإن النفوس جبلت علي حب من أحسن إليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى