على هامش النسيان

أمبي الدهاه عبد الرحمن | موريتانيا

الآن.. السماء مكفهرة و مقطبة مثل هدنة حزينة، يوم شديد الصهدِ، المكان هنا دافئ كموقد يتوهج ناراً، يتصبب صيفاً صامتًا دون النبس غير برذاذ الحر الذي يشق النفوس و يحرق القلوب قبل الجلود. إنزلقت الشمس فوقنا منذ قليل، و على حين غرة، و بدون أي مقدمات صارتْ ماحقة، كانت أشعتها تتكسر قطعاً قطعاً على الرمال و البحر، المكان هنا يعتصر عرقاً جارفاً، داهقًا، ينضح من كل الأجسام، تنفث رذاذ من الماء، يبلل الثياب و يرشح بقطيرات على قسمات النائمين، يربت بحنان و لطف، بلباقة و هدوء على أعصاب المنسيين المهمشين، سكان الهامش، و رواد الأكواخ البالية، يمتزج ماء العرق المنهمر، بفتات الجوع المتطاير كتطاير الصحف في الهواء، أو نبات الشعر في رأس كهلٍ صد الزمان عنه، و عاندته الأيام، و أرهقته الليالي. ببطون خاوية تتصايح مصارينها ألماً، و تئن أنين منقطع النظير، لكنه في صمت دائم، تُسمع أنات الصفيحيين المخشوشنة من بعيد، تلك لذة لا يفهمها إلا من نبذه وجع الأسنان، و أبكاه في الغبش وحيدًا. بحلقٍ ناشفٍ، يابسٍ، يكاد يستسرط ريقه الجاف، هو كل ما يملك من حق و غيره موؤد. في مثل هذا الجو الحارق، و الظروف الصعبة، جبينُ أحدهم ينتفخ تحت أشعة الشمس العاتية، يتضح الغني، و يتعذب الفقير و يزداد فقراً، و تقسو عليه الظروف، لا الشمس رحمته، ولا التراب كانت برداً و سلاماً تحت قدميه الحافيتين، و لا الغني تصدق عليه و شاركه جزء طفيف من بذخه و ترفه. قبل قليل كنتُ مضجعاً، منكباً على وجهي، بجسدٍ مسجى على الأرضِ، كنتُ أشعر بدبيب النوم يجتاحني، أُغمغم بصوت خافةٍ يكاد لا يخرج من بين شفتيّ، أُرددُ في دخيلة سريرتي بعض الجمل المتشابكة الخيوط، تارة تكون واضحة كماهو حال تلك الأسرة اليتمة الأب؟ صغار في ريعان نشأة أظافرهم، و أم ضعيفة، تتوكأ على أن المتمسك بالأمل قد يجني ثمار تلك القبضة يوماً ما، لكن ماذا إن تأخر سقوط تلك الثمار؟ ما بال أقوام نسوْ حق الجار و دهسوا الإنسانية ضُحاً، و تارة أخرى كنتُ أنا نفسي لا أفهم ما أتلعثم به. أسرفتُ في النوم ليلة البارح عن غير قصدٍ، رغم أني نمتُ باكراً على غير عادتي، و على غير عادتي أيضاً، راودتني أحلام كثيرة في منامي، حتى كدتُ أن أصدق أني عشتها بالفعل، أو بالأحرى أجزمتُ أني سبق أن رأيتُ بعضاً منها في مكان ما، أثناء نومي سقطتْ القبعة التي أنام دائماً و هي على رأسي، أحسستُ بالريح تمرر أطراف أصابعها بين جذور شعري الكثيف، تداعبه بلطافة، و هو يترنح يميناً و شمالاً، ثملاً أو مستمعاً، كان بعضه قد إرتمى على وجهي و تلبد فوق عينيّ، و لم يسلم فمي من زغيبات تسللن داخله خلسة، جلستُ منتصباً نصف إسقامةٍ مائل إلى جانبي الأيسر، أبحلقُ في السواد و أسافر سريعاً بذهني، لأسترجع بقايا ماكنتُ منشغلاً فيه أثناء نومي. شعرتُ بضوء النهار يسيل على جبيني، لاحظتُ إنبثاق النور على صفحة السماء المضمخة بالحمرة، كانت السماء تتلون و يتسلل نهار جديد، مشطتُ شعري و رددته إلى مكانه بأصابعي، ممرراً بيدي على وجهي المتورم، اعتمرت قبعتي و هبطتُ درجات السلم بأقدام كسيحة، أمشي على رؤوس أصابعي، أُحاول أن أسرع لكن شق عيني اليمنى لم يكتمل بعد، يحجب عني إكتمال الرؤية، وجدتُ الكل في الأسفل مجتمعين و منشغلين في ترهاتهم كالعادة، يرتشفون كؤوس مترعة من الشاي، و يضحكون ملء حلوقهم و أشداقهم، بعضهم يقضم الخبز، يهشمه تحت نواجذه تهشيماً غير رحيم. رمقني أحدهم و الحيرة ترتسم على وجهه و شعره الباهت، بادي البلاهة فاغر الفم، أدردٌ على ما يبدو، تكدر التعبير البشوش المرتسم على ملامحي، كان شاب ذو ملامح متجعدة، قصير القامة دافنها بين مخدتين، له أنف طويلة محدودب، و عينين مدورتين كبيرتين، لحيم، يتقزم كلما إنتصب واقفاً بين البقية، ملتحي، قليل شعر الرأس، له أذنين فضفاضتين، متدليتين و مشكلتين تشكيلاً سيئاً، دلفتُ الحمام و سكبتُ على وجهي من الماء حتى تبين لي الخيط الأبيض من الأسود، كان الماء بارد، إمتدتْ في رعشة بطول جلدي، أدبرتُ الحمام، أغلقتُه بقوة حتى قرقع بصوتٍ مزعج، حددتُ مكان غير بعيد منهم ثم إقتعدتُ الأرض، بعينين أُرخيتْ أهدابهما و تبللت، بدأتُ أُرهفن السمع دون أن أرمي ولا بنصف بكلمة حتى، و لم تند عني أي حركة، ابتسمُ كما يبتسمُ كهل أمام عبث طفولي، و هم يزدهون بحديثهم هذا، أُردد في قرارة نفسي أليس هناك حديث أكثر قيمة و فائدة غير هذا؟ ثم أُوراي تساؤلي هذا وراء حجاب إبتسامتي الخبيثة، كأني محاط بمستنقع من الوحل، على المرء إذا تواصل الحال على هذا المنوال، أن يفطس على مهل في حنقه البارد، الأفضل أن يموت ولن تُسمعْ له أي أنَّة، رهافة الحديث عادة مطلقة عندنا، إذا ظللتُ عاماً كاملاً أستمع إليهم، سأكون بمثابة من يصب كوب ماء في غربال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى