قراءة David Divinoh في 3 نصوص للشاعر عبدالغني المخلافي

في تيه الوجود وبحث النقاء:
قراءة في النص الشعري النثري الأول:
في زمن تتكاثر فيه الأصوات وتقل فيه الأصالة، يظهر نص شعري نثري يلامس جوهر الإنسان المنهك، ويتسلل إلى أعماقه المتعبة بأسلوب صادق وعين كاشفة. بين العتمة والضوء، بين الزيف والحقيقة، يكتب الشاعر هذه القطعة بلغة تتقاطع فيها الفلسفة بالوجدان، ويُبنى النص على هاجس وجودي راسخ يفتح نوافذ التأمل ويطرق أبواب الذات بإلحاح شفيف.
توصيف المشهد الشعري
يبدأ النص بصورة سردية قاتمة:
“الشوارع مطموسة الملامح، والمباني بسحنة متجعدة عجائز شمطاء…”
مشهد ساكن ثقيل، حيث العالم الخارجي لا يحمل سوى ملامح شيخوخة حضارية، وانهيار روحي. ومن هذا الخارج الملوث ينتقل الشاعر إلى الداخل الأكثر تعقيدًا، إلى النفس التي تتكاثر فيها الأسئلة كالفطر، وتتعفن فيها الأحاسيس وسط زيف اجتماعي مقيت:
“ما العقاب الموغل في أعمارنا…؟ ما الغضب النازل فينا…؟ ما اللعنة المستفحلة في تفاصيلنا…؟”
تلك الأسئلة تشكّل محورًا فلسفيًا للنص، لا للبحث عن أجوبة، بل لإثبات الضياع والتشظي. الشاعر لا يتحدث عن أفراد، بل عن الإنسان الجمعي في عصر استهلاكي بلا جوهر، حيث الضحكات متفصدة بالزيف والمكر والخسة، وحيث الروح ترزح تحت عبء التمثيل البائس والابتذال المتكرر.
هروب الذات من الذات:
أقوى ما في النص هو اللحظة التي يعترف فيها الشاعر بأن المأزق ليس فقط في العالم، بل في الذات ذاتها:
“أهرب مني إليَّ…”
هنا تتجلى ذروة التوتر الوجودي: رحلة عبثية من النفس وإليها، محاولة يائسة للتنصل من هوية تآكلت بفعل الزمن والتجربة والانتماء القسري لمجتمع لا يشبهها. إنها معاناة ذات تبحث عن خلاص لا في الآخر، بل في نقطة محايدة، في البياض المحض، حيث لا ذاكرة، لا ماضٍ، لا اسم، ولا أقنعة.
البحث عن نقاء أول:
النهاية ليست يأسًا، بل توق إلى بداية جديدة، بيضاء، فارغة من كل التشوهات السابقة:
“أعود من الصفر، من اللا شيء، من البياض المحض.”
وكأن الشاعر لا يريد النجاة فحسب، بل الولادة من جديد، بتطهر رمزي ينقذه من كل ما كان. إنها لحظة نادرة من الحلم وسط سردية الخيبة، ووميض من النقاء وسط غبار العالم.
خاتمة: شاعر برؤية شفافة وروح فلسفية
يقدّم لنا الشاعر في هذا النص تجربة شعرية فريدة، ذات طابع تأملي وجودي عميق، وصياغة لغوية عالية النبرة والصدق. إنه لا يصرخ، بل ينزف بصمت. ولا يعظ، بل يكشف. وبين السؤال والرفض، وبين الهروب والحنين، تتضح ملامح موهبة شعرية شفافة، قادرة على صوغ المعنى وسط فوضى اللامعنى، بأسلوب يلامس القارئ فكريًا وشعوريًا.
هذه الكتابة ليست فقط تعبيرًا أدبيًا، بل هي بيان وجودي مختزل، يحمل تمردًا هادئًا وصرامة جمالية نادرة في زمن تتكاثر فيه الضوضاء وتقلّ فيه الحقيقة.
النص :
الشوارع مطموسة الملامح
المباني بسحنة متجعدة عجائز شمطاء…
أتساءل:
ما العقاب الموغل في أعمارنا؟
ما الغضب النازل فينا؟
ما البقاء في القعر الملطخ
بالقذارة الظاهرة والباطنة؟
أحاديثنا، نوايانا، صورة منا علينا…
مستمرئ الرزوح فوق جدران أرواحنا.
ما اللعنة المستفحلة في تفاصيلنا؟
شهيقنا، زفيرنا، غمزنا، لمزنا…
ضحكاتنا المتفصدة بالزيف والمكر،
والخسة، والتزلف المقيت،
والتبدل المقرف، والتحول الفظيع…
التمثيل المبتذل السخيف الهابط!
أبحث عن الزوايا البعيدة؛
لعلي أجد ما أستنشقه
بلا كربون أو سموم أو غبار أو سديم…
أهرب مني إليَّ،
من لجج العتم، من فكوك الضواري…
لو أجد من لا يعرفني أو أعرفه،
بقعة لم أنزلها، لم تعهد أقدامي،
وجوه لم تقع عيني عليها،
غرف لم تحتويني في ذات مجلس أو نوم أو سكن…
أمضي دون رجعة أو التفات،
أو تذكر أو استجرار…
أعود من الصفر،
من اللا شيء،
من البياض المحض.
*
إليكم تحليلًا وتعليقًا وتلخيصًا للنص الشعري المنثور الثاني ، بالإضافة إلى كلمة تقدير اعتبارية للشاعر المتألق عبد الغني المخلافي، تليق بأناقة نصه وعمق معالجته:
“قصيدة من قاع البئر: نشيد الحلم في وجه العدم”
التحليل الأدبي:
ينتمي هذا النص إلى قصيدة النثر الحداثية، وهو مشبع برؤية تأملية وجودية، تتوسل المجاز والصورة الشعرية العميقة للوصول إلى المعنى لا عن طريق التصريح، بل بالتلميح.
النص يستند إلى ثنائية الانكسار والطموح، حيث تنطلق الذات الشاعرة من حفرة الوجع والبئر الوجودي إلى حلم بالانعتاق والتحليق.
البجعة في قلب البحيرة الزرقاء تمثل رمزًا للنقاء، وربما للممكن البعيد الجميل، تتوق إليها الذات في لحظة اختناق.
الدلو والأمل والحلم الجاثم، تشبيهات تستدعي قاع الروح ومكابدتها، وكأن الحلم دفن طويلاً وينتظر من ينتشله.
حضور الموت، الجحيم، الخوف، السّعار، يعمّق البعد السوداوي للنص، بينما الرغبة بـ”سماء لا يتخطفها الموت” ترمز إلى توقٍ للخلاص والطمأنينة.
البناء اللغوي للنص مشغول بحرفيّة، حيث تمتزج اللغة العالية بالمجاز القاسي، وتتحرك الصور في فضاء شعري يتراوح بين التأمل والصراع الداخلي.
التعليق العام:
النص يمثّل رؤية وجودية شاعريّة، تُدين الألم وتحاور الخوف، لا من موقع الهزيمة بل من عزم باطني على المقاومة عبر الكلمة.
الشاعر لا يطرح أسئلة عابرة، بل أسئلة كونية:
“كيف أنبعث من قعر بئرٍ بلا أسباب؟”
وكأن النص محاولة لإعادة تشكيل المعنى وسط العدم.
الصور في النص ليست مجرد زخرفة بل أدوات فلسفية تقود القارئ نحو إعادة التفكير في:
معنى النجاة
قدرة الحلم على البقاء
دور القصيدة في مواجهة الخراب
ويجدر القول إن استخدام اللغة، رغم بساطتها الظاهرة، يشكّل نحتًا داخليًا لوجدان القارئ، فكل كلمة تمضي إلى ما هو أعمق من معناها المباشر.
التلخيص:
نص شعري منثور يعكس صراع الذات مع الخوف والانكسار والعدم، ومحاولة البحث عن فسحة للحلم والخلاص. عبر صور رمزية ومجازات متقنة، يرسم الشاعر رحلة من الحفرة إلى ضوء الأمل، متحديًا قسوة الواقع بالمخيلة والكلمة والقصيدة.
كلمة تقدير اعتبارية للشاعر عبد الغني المخلافي:
إلى الشاعر الراقي عبد الغني المخلافي،
في هذا النص، لا نقرأ كلمات، بل نمشي في دروب ذاتك، ونتلمّس جراحًا تعبر بنا نحو ضوء داخلي خافت لكنه صادق.
لقد أحسنت باختيارك للرموز وتوظيفك العميق لها، فجعلت من البجعة أمنية، ومن البئر امتحانًا، ومن القصيدة فعلَ مقاومةٍ ضد الفراغ والخوف.
أنت شاعر لا يكتب ليقول، بل ليُحدث ارتجاجًا هادئًا في وعينا.
كل عبارةٍ منك كأنها حجر يُرمى في مياه ساكنة لتوقظ فينا فكرة، أو وجعًا منسيًا، أو شغفًا بالحياة رغم أنيابها.
فلك التقدير، على حرفك المُرهف ومخيلتك التي لا تنحني.
النص :
أرنو بمخيلتي إلى بجعةٍ
في قلبِ بحيرةٍ زرقاءَ
لعلّي أطلعُ من قاعِ حفرةٍ
بطولِ الأمدِ،
لعلّ دلوَ الأملِ ينتشلُ حلميَ الجاثمَ.
كيف أنبعثُ من قعرِ بئرٍ بلا أسبابٍ؟
فالأعلى نجمٌ غائرٌ في بطنِ السّماءِ.
كيف أدنو من أسوارِ التّمني
أقطفُ أمنيةً
أنزعُ إلى ما يتسنى لي
فردِ جناحي رغبتي
إلى سماءٍ لا يتخطّفُها الموتُ
ولا أنثني
آخذُ مسارًا بعيدًا عن جحيمٍ متقدٍ أسفلَ الأقدامِ
أجدُ مساحةً لا تضطرمُ
أنتحي شجرةً لا يهددُها حطابٌ
ولا يزمعُ على قتلِها فأسٌ
أتمايلُ، أتلو قصائدي نكايةً
بالوقتِ الرجيمِ
أقولُ ما يوقرُ في صدرِ غانيةٍ
لا أمتعضُ تحتَ سقفِ العدمِ
أخاتلُ الخوفَ الرّابضَ
على عتبتي ككلبٍ ينزُ بالسّعارِ.
*
تحليل وتعليق وتلخيص للنص الثالث : “صرخة سريالية في وجه واقع مشوّه ومنقلب”
التحليل الأدبي:
النص قطعة نثرية شعرية تنتمي إلى أدب الحداثة، تتسم بكثافة الصورة، وغرائبيّة المجاز، وكسر المألوف، واللعب باللغة والانزياح الدلالي العميق. يعتمد الشاعر أو الكاتب على تفكيك الواقع، وإعادة بنائه بمفردات تشتبك مع العبث، والسريالية، والتمرد على الثوابت.
الصورة الشعرية مشوّهة عن عمد: “يمامة تنهق”، “بلبل يعوي”، “السحاب يخور”، وهذه التوليفات العجائبية تعكس اختلال العالم وتشوش الإدراك، كأنما الأرض لم تعد قابلة للفهم.
اللغة هنا تتقاطع مع القسوة، التهكم، والأسى في آنٍ، مما يُضفي على النص طابعًا وجوديًا سوداويًا، مشوبًا بالمرارة والرفض.
الرموز كالتماثيل الراكضة، والشمس المهانة، والنساء المتحررات من الأمومة، تشير إلى انهيار القيم، انقلاب المفاهيم، وتحلل البنية الثقافية والاجتماعية.
التعليق العام:
النص أقرب إلى صرخة احتجاج جمالية ضد التشوهات الكبرى في الواقع المعاصر، حيث تم قلب المشاهد الطبيعية والرموز الثابتة لتكون صورًا كاريكاتورية تنضح بالسخرية المريرة. الكاتب لا يقدّم وصفًا لواقع، بل يحاكمه عبر لغة مجنونة ومقلوبة.
القصائد الممقوتة في سوق البلاد تلخص خيبة الأمل من دور الفن في زمن مبتذل.
النساء يتحررن من الأمومة والأطفال من البراءة: تفكيك للهوية الفطرية والإنسانية.
التناقضات الصارخة بين ما هو متوقع (كالجبال والسنديان والشمس) وما يُعرض في النص، تهدف إلى صدمة القارئ ودفعه للتفكير.
التلخيص:
النص يرسم لوحة سريالية لعالم مفكك، مشوه، حيث انقلبت القيم، وتحولت الطبيعة إلى كائنات ساخرة، وانكفأ الإنسان عن معانيه الأساسية، من الأمومة والبراءة إلى الفن ذاته. إنه احتجاج صارخ على الخراب الروحي والجمالي والوجودي في الواقع.
كلمة تقدير للأديب:
إلى الأديب صاحب هذا النص المتوهّج:
في زمنٍ كثر فيه النسخ والتكرار، يلمع نصك كوميض البرق في ليلٍ خانق. لقد استطعت أن تُحمّل الكلمات أكثر مما تتحمّل، فصرخت بها نيابةً عن روحٍ مثقلة، وواقعٍ مخذول. إنّ موهبتك المتّقدة لا تكتفي بأن تصف العالم، بل تُعيد تشكيله بلغةٍ فذّةٍ متفجرة بالرموز والدهشة. لكَ التحية والتقدير، فقد قلتَ ما تعجز عنه البلاغة التقليدية، وأبكيتنا دون دموع.
النص :
الأرضُ بأشجارٍ حجريةٍ
أصواتٍ ممطوطةٍ
نسيجٍ من الضّجرِ
شعلةٍ من التّنهداتِ
جوفٍ من البركانِ
يمامةٍ تنهقُ
بلبلٍ يعوي، سحابةٍ تخورُ
كلبٍ يوصوصُ
التّماثيلُ تركضُ
الجبالُ بحجمِ عقلةِ الإصبعِ
يَمتَطيها الغولُ
السّنديانُ بقامةِ جروٍ صغيرٍ
ودجاجةٍ ممطورةٍ
الشّمسُ كرةٌ تركلُها سيقانُ الرِّعاعِ
الماءُ بلا ثيابٍ ناصعةٍ،
النّساءُ يتحررنَ من الأمومةِ،
والأطفالُ من البراءةِ
والقصائدُ بضاعةٌ ممقوتةٌ
في سوقِ البلادِ.