مقال

“تسونامي” نيويورك.. !!

الفاتح مرغني | مراسل عالم الثقافة في اليابان
أثار فوز زهران ممداني (34 عاماً) المنتمي للجناح التقدمي (اليسار) في الحزب الديموقراطي في انتخابات عمدة نيويورك ردود افعال زلزالية لم تشهدها الولايات المتحدة في العصر الحديث. فهو فنان راب، ومسلم، وآفرو-آسيوي قبل أن يكون أمريكياً، والده محمود ممداني، بروفيسور في جامعة كولومبيا العريقة، ووالدته السيدة ميرا ناير، مخرجة سينمائية وخريجة جامعة هارفارد العريقة، وقد أخرجت عدداً من الافلام، بما فيها فيلم “أميليا” الذي شارك فيه الممثل المخضرم ريتشارد جير. وما يزيد من التنوع في مسيرته العائلية أن زوجته هي راما دوجي(28 عاماً)، الفنانة والرسامة السورية -الأمريكية.


قدم ممداني رؤية تقدمية قائمة على العدالة الاقتصادية، وإنشاء متاجر بقالة مملوكة للبلدية، وخفض تكاليف المعيشة، ودعم النقل العام المجاني، والرعاية العامة للأطفال ودعم “حقوق مجتمع الميم”، وتجميد الإيجارات للوحدات الفائمة، وتوسيع الإسكان الميسور، وإصلاح الشرطة، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولارًا في الساعة بحلول عام 2030، إضافة إلى فرض ضرائب على الشركات والأفراد الذين تتجاوز دخولهم مليون دولار سنوياً، وهذا يشمل دونالد ترامب، صاحب الأبراج، وإيلون ماسك، قارون العصر. ويبلع تعداد سكان نيويورك حوالي 8 مليون نسمة، كما يبلغ الناتج الإجمالي المحلي الولائى حوالي 2.3 تريليون دولار، فضلا عن 345 الف مليونير و146 مليارديراً.
لقد كانت الحملة الانتخابية أشد شراسة حيث تم فيها استخدام كل أحابيل الحرب النفسية والسياسية، وفهلوة أساطين الاعلام وسطوة أباطرة المال أمثال، بيل آكمان و الرابر كورتيس جيمس الملقب بـ 50 سنت الذين هددوا بالهجرة من الولاية في حال فوز ممداني. كما انضم إليهم الرئيس ترامب الذي حرّض أهالي نيويورك بعدم التصويت لممداني وتوعد بعدم دعم الولاية لو انهم صوتوا له، فضلا عن جماعة الضغط “أيباك” بحكم أن الولاية تقطنها ثاني أكبر جالية يهودية خارج اسرائيل، وقد تضافر كل هؤلاء لاسقاط ممداني بل واقناع جيرك آدمز بالإنسحاب من الترشح ودعموا أندرو كومو، حاكم نيويورك السابق، رغم سجله غير الناصع وخسارته في الانتخابات التمهيدية التي جرت في يونيو الماضي، وقدموا له دعماً مالياً بحوالي 52 مليون دولار، فيما لم تتعدّ ميزانية حملة ممداني 22 مليون دولار، جاء جلها من تبرعات الكادحين ومحدودي الدخل والشباب اليهود والمسلمين والمسيحيين والدهريين. ولكن بمجرد إعلان فوز ممداني، تراجع كل هؤلاء بأسرغ من ريمونتادا مودريتش في كاس الأمم الأوروبية – ايطاليا، وأعربوا عن استعدادهم للتعاون معه.
لفد تباينت الآراء حول فوز ممداني المؤزر. فقد عزاه الرئيس ترامب، إلى حالة الإغلاق الفيدرالي (government shutdown) وعدم وضع اسمه على بطاقات الاقتراع، فيما عزاه بعض المراقبين إلى برنامجه الانتخابي الطموح. أما النجم الصاعد في سماء الاعلام الأميركي تكر كارلسون ( 27 عاماً) كان أكثر دقة حيث عزا ذلك الفوز إلى أن ممداني هو الوحيد من بين المرشحين الذي تحدث عن هموم نيويورك، بينما الآخرون تحدثوا عن هموم “اسرائيل” وزيارتها. ولكن أكثر ما أعجبني هو أن ممداني قد لخّص مسيرة فوزه الإعجازي في عبارة من ثلاث كلمات ألا وهي: ” against all odds” وتعني” رغماً للظروف والحال الحرن”(ترجمة بتصرف) وفي ظني أنه لو تم استفتاء معدّي الخطابات الرئاسية (presidential speech writers) أو رؤساء التحرير المخضرمين، لما جاءوا بابلغ من ذاك الوصف. وممداني يتمتع بدرجة من الفصاحة في اللغة ملفتة، وزاد من جمالها إنه فنان راب مقتدر وقادر على الاقناع والابداع. وحتى عندما تعمّد خصومه في المناظرات عدم نطق اسمه بالطريقة الصحيحة، حوّل ذلك إلى مقطع راب، شاهده ورقص على إثره مئات الآلاف من الشباب.
وبعد اعلان فوزه، القى ممداني خطاباً ضافياً ووافياً وشافياً، وأجمع كل من سمعه على بلاغته وحسن بيانه، واعتبره البعض لا يقل جمالاً عن الخُطب العصماء في التاريخ الأمريكي. لقد استمعت للخطاب أكثر من مرة، وقد أبهرتني عبارة ” أنا منكم واليكم” التي قالها في سياق الخطاب بالغة العربية، فقد احسست فيها طيفاً من خطاب الرئيس الراحل جوزيف كينيدي عندما زار ألمانيا وخاطب أهل برلين بقوله: أنا منكم (Ich bin ein Berliner) وبالرغم من شراسة الحملة، تمسك زهران بمواقفه المعلنة ولم يتراجع عنها قيد أنملة حيث صرح بالآتي:
• إنه مسلم وليس هناك ما يجعله يخجل من ذلك.
• سيمضي في خطة فرض الضرائب على الأثرياء بمن فيهم، دونالد ترامب، وإيلون ماسك.
• القبض على بنيامين نتنياهو، المطلوب لدى للمحكمة الجنائية، في حال أن وطئت قدماه أرض نيويورك وتسليمه للمحكمة لأن ذلك أدعى إلى تحقيق العدالة التي ينشدها الجميع (علماً بأن مقرالأمم المتحدة ومطار جي إف كينيدي يقبعان في نيويورك).
ويتصل بذلك أن هذا الفوز رغم إنه جاء على المستوى الولائي، إلا أنه سيكون له ما بعده من تداعيات، ليس فقط على الحزب الجمهوري فحسب، بل وعلى الحزب الديموقراطي نفسه، والذي أصيب في السنوات الأخيرة بشيء من التكلّس في ظل سعي قياداته المؤثرة من أمثال تشاك تشومر، زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، وحكيم جيفريز، زعيم الأقلية في مجلس النواب للحفاظ على الوضع الراهن (status quo) دونما تجديد. والغريب أن حكيم جيفريز لم يدعم ممداني الا قبل فترة قصيرة جداً من الإنتخابات، فيما لم يدعمه تشاك تشومر، وهو ما حدا ببيرني ساندرز لشن هجوم ضارِ عليهما في مؤتمر صحفي محضور. وحتى الرئيس الأسبق أوباما، والذي لم يدعم ممداني ( didn’t endorse) كما تقتضي التقاليد الحزبية، اتصل به لتهنئته على الفوز وعرض عليه خدماته كمستشار له (من الواضح أن أوباما يريد بتلك المناورة رفع ضغط ترامب بأعلى من ابراجه، فيما رأى صديق من نيويورك في مبادرة أوباما أيضاً محاولة لاحتواء ممداني حتى لا يصبح الحزب معزولاً عن قواعده في ضوء سلسلة الانتصارات التي حققها أنصار التيار التقدمي في عدد من الولايات)
ولكل ما سلف، جاء فوز ممداني في نيويورك غير عادي، فهو فوز جيل من الشباب متسلح بالوعي والاحساس العالي بالحرية والسلام والعدالة، مشكلُ بذلك تسونامياً شبابياً فتح أبواباً يصعب سدها. وقد زاد من عنفوان ذلك التسونامي، جرعات الوعي التي ما فتيء يبثها عدد من الإعلاميين المستقلين والأكاديميين الملتزمين وعلى رأسهم: بروف جون ميرشايمر وبروف ريتشارد وولف، وبروف جيفري ساكس، وتكر كارلسون وآنا كاسبريون وأماندا ماركوت وجورج غالوي إلى جانب عدد لا يحصى ويُعد من مؤثري البودكاست وصنّاع المحتوى والناشطين من الشباب.
والسؤال الذي ينبغي أن نبحث له عن اجابة: هل سيكون لهذا التسونامي ارتدادات زلزالية، بمعنى آخر: هل ستنتصر الدولة العميقة(deep state) وأباطرة المال واللوبيهات المتنفذة أم ستنتصر ثورة جيل” Z ” نيويورك؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى