الصراع الخفي على قصيدة النثر

فراس حج محمد | شاعر وناقد فلسطيني

ينبغي أن يكون هذا الموضوع، صراع الأجناس الشعرية، قد تجاوزه النقد، فلم تعد هناك نقاشات ذو بال حوله، تجاوزه النقد منذ السبعينيات، وإن حمى وطيسه مع شعراء قصيدة النثر، وخاصة أنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال وأشياعهم، في الخمسينيات والستينيات. لقد استقرّ الشعر اليوم على حالاته الثلاث، ومن شاء أن يكتب كتب في أيّة طريقة كانت، وأظنّ أنّ الشكل لا يحمل في الغالب أيّة إشارة إلى أيّ مضمون أيديولوجي مهما كان هذا المضمون. قصيدة النثر

أنسي الحاج زعيم مدرسة في الشعر العربي، ورائد قصيدة النثر، لم يكتب أي قصيدة موزونة، ذلك الوزن الخليلي المعروف بشكليه المشطّر والتفعيلة. كان يقال إنّه لا يستطيع ذلك وهذا لا يعيبه. المهم أنّ النصّ جيد بصرف النظر عن وعائه الشكلي. في حين كتب، على سبيل المثال، محمود درويش في الأشكال الشعرية الثلاثة جنبا إلى جنب في كتاب “أثر الفراشة”. وكثير من شعراء الحداثة زاوجوا بين الشكلين الشعريين (الكلاسيكي، وشعر التفعيلة) دون النظر إلى صراع الأجناس، بل أصبح الموضوع “نكتة” لا تثير الضحك، وإنّما تثير الاشمئزاز.

الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ من أوائل الشعراء الفلسطينيين والعرب الذين كتبوا قصيدة النثر، ولم يكتب بأيّ شكل شعري آخر حسب علمي. توفي في عام 1971 ونشر قصائده ودواوينه مبكرا: ثلاثون قصيدة 1954، القصيدة ك 1960، معلقة توفيق صايغ 1963. ولجبرا إبراهيم جبرا كذلك إسهامات في هذا النوع من الشعر، وغيره كثيرون من الشعراء العرب الذين جرّبوا الخروج عن قوالب الشّعر التقليدية، وقد سبقت محاولات بعضهم بكتابة قصيدة النثر شعراء التفعيلة ذاتها، أي قبل محاولات نازك الملائكة والسيّاب.

لقد وجد لقصيدة النثر منظرون وشعراء كثيرون، تصالحوا مع شعراء الكلاسيكية الجديدة وشعر التفعيلة، بل إنّ بعض هؤلاء الشعراء كتب القصيدة في أشكالها الثلاثة. وغدا لقصيدة النثر مجلات وصحف وازنة ومرموقة تحملها، وتحتفي بها، ولكنها بقيت قصيدة تدور في فلك مغلق، ولم تخرج منه لتكتسب شرعية موازية لشرعية شعر الشطرتين، (شعر الكلاسيكية الجديدة)، ولا شعر التفعيلة الذي انتشر انتشاراً كبيراً بين الشعراء، وخاصة الشعراء الذين هربوا إليه؛ إذ واجهوا صعوبات حقيقية وبنيوية تتصل بضعف الموهبة، فلم يستقم بين أيديهم بحر شعري، وعذبتهم القافية، وقد أحبوا أن يصبحوا “شعراء” فوجدوا في القصيدة الحرّة من الشعر نفسه متنفساً، فولدت نماذج “لا شعرية” يصرّ أصحابها على تسميتها “شعراً”، وهكذا أنتجوا “كلاما تافهاً”، تحت ذرائع الحداثة والخروج عن المألوف، وغلّفوه بغلاف الثورة على التراث وتجاوزه، وافتعلوا معركة ليس فيها محاربون غيرهم، ومما زاد الأمر سوءاً، وجود فئة إعلامية سطحية جاهلة بموروث الشهر بكل أطيافه، استضافت هؤلاء “الشعراء”، فأخذوا يتحدثون عن أوهامهم كأنها تجارب شعرية، وأخذوا يتحدثون عن قصيدة النثر والشعر الحر والشعر العمودي، ويتبيّن للمشاهد جهل هؤلاء المتحدثين بالمفاهيم الشعرية، ولكنهم مقتنعون أنهم أصبحوا أنبياء شعر، وقديسين يقولون وقولهم هو باطل الأباطيل.

لم يعد هناك صراع بين الأشكال الشعرية إلا عند أدعياء الشعر، ولذلك صارت القصائد كلها تواجه أزمات حقيقية، أزمة في الإنشاء ابتداء، وأزمة في التلقي ثانياً، وأزمة في النقد ثالثاً، وها هو يرمّ الجرح على فسادٍ حقيقي في دوائر الشعر التي غدت مفتوحة كأنها “بارات” يمارس فيها الداعرون غوايتهم مع الشعر، فيقذفون نشوتهم على عجل في قصائد داعرة ليس لها حق الانتساب للشرف الشعري، ولا حتى من باب الشفقة والرعاية والأخذ بيدها حتى تشفى من مرض مزمن أصابها. إذ إنّ تلك النماذج من حقها الإعدام حرقاً، وليس التبني والاهتمام، فهي الضرر عينه، وهي تلطّخ وتفسد الشعر والذائقة وتشوه تاريخ الشعر العربي برمته، لتعيش النماذج الشعرية الجيدة في اغتراب لا يلتفت إليها إلا القليل، هذا القليل الذي يعاني من شبه عزلة، فيتحرّك في نطاق ضيق.

ولقصيدة النثر معاناتها الخاصة المعقدة المركبة، فهي تعاني مما يعاني منه الشكلان الشعريان الآخران، الجيدان بطبيعة الحال، معاناة تختصّ ببعد قصيدة النثر عن أن تكون موضوعاً تعليمياً في المناهج الدراسية، إذ تخلو الكتب المدرسية في فلسطين مثلاً، وربما في كتب كثير من الدول العربية، من الإشارة إلى هذا النوع من الشعر، ولا يوجد أي مثال على قصيدة النثر لشاعر عربي واحد على الأقل في جميع الصفوف الدراسية، فقد اقتصرت النماذج الشعرية في تلك الكتب على الشعر القديم وشعر الكلاسيكية الجديدة، وشعر التفعيلة فقط لا غير، على الرغم من أنّ شعراء قصيدة النثر هم الأكثر حضوراً في السياق الثقافي العام العربي والعالمي. إضافة إلى ما تعانيه تلك النماذج من سطحية بادية، ولا تتمتع بتلك الجودة المطلوبة لصقل عقلية الطلاب.

ومن حق المرء أن يسأل: لماذا هذا التغييب للنماذج الجيدة ولنماذج من قصيدة النثر، وأن يضع علامة استفهام كبيرة على هذا الفعل؟ أعتقد أنّ السبب الجوهري في هذا الجريمة الثقافية التعليمية تعود إلى أنّ من قام على تأليف هذه الكتب إما لا يستسيغ هذا الشعر وتعاني ذائقته من أمراض مستعصية، وإما أنّه “جاهل” جهلاً تاماً بهذا النوع من الشعر، ويكفي أن يعرف القارئ أنّه لا يوجد ضمن أعضاء فرق التأليف المدرسي لكتب اللغة العربية في فلسطين أي ناقد أكاديمي أو ناقد حرّ متذوّق. إذاً، فليس لهؤلاء القدرة على أن يتفرّسوا في القصائد عامة، وقصائد النثر عالية المستوى خاصّة، فاختياراتهم الشعرية إجمالا بائسة وركيكة، وحتّى إن وجدت نصوص جيدة فإنّهم لا يستطيعون أن يضعوا عليها أسئلة سابرة وعميقة خلال المناقشة والشرح، لأن تلك النماذج، لو تم اختيارها، وأعني هنا نماذج قصيدة النثر، ليست ميسورة الفهم، وتقوم على تعدد الرؤى، وتدفع إلى التفكير، ما يعني أنّها غير صالحة لآليات التلقين المدرسي.

لعلّ عملية تلقين المعلمين الطلاب شرح الأبيات والأسطر الشعرية، هي التي تدفعونهم لكتابة الشرح في دفاترهم توحيداً للإجابة من أجل استظهارها، ليتم تقيئها مرة أخرى عند الإجابة عن الأسئلة في الامتحانات التي لا تقوم على التحليل والأسئلة المفتوحة، فهذا هو ما يهمّ تلك الهيكليات التعليمية؛ شرح موحد من المعلم، وإجابات موحدة من الطلاب، لتكون هناك إجابات نموذجية معتمدة من أعلى هيأة تربوية في الدولة يقاس عليها عند التقويم، وصولاً في نهاية رحلة التعليم إلى ترتيب الطلاب في سلم رقمي من التقويم، الأول فالثاني فالثالث، وهكذا.

إنّ قصيدة النثر باستعاراتها العصيّة وتراكيبها المكثّفة ورؤاها البعيدة، نصّ غير خاضع لتلك العملية، ولذا فهو نص صعب في التأطير والشرح على المعلم ثم الطالب، وقد شهدنا في فلسطين مثالاً من ذلك عندما ضمّن المؤلفون بعضاً من مقاطع قصيدة “الأرض اليباب” للشاعر ت. س. إليوت، فجاء الشرح كارثياً، والأسئلة وإجاباتها مدعاة للسخرية، عدا أنّ هذه القصيدة صعبة وهي كاملة وغامضة، وزادت غموضاً عندما اقتطع منها المؤلفون مقاطع معينة، فبدا النص وكأنه في أحسن أحواله “مهزلة” تربوية وتعليمية؛ لا يصلح للشرح ولا للمناقشة؛ لكثرة ما دخله من إرباك وارتباك وعدم تماسك. وبدا لي أنّ المؤلفين لم يكونوا مطلعين على القصيدة ولا على ترجماتها المتعددة أو ما قيل فيها من آراء نقدية عربية وغربية، وبدت القصيدة في الكتاب نافرة، غير متناسقة مع بنية الكتاب المعرفية، لقد دفعت كل هذه الأسباب المعلمين للمطالبة بحذفها في الطبعات القادمة من الكتاب الذي حُشِرت فيه.

لعل قصيدة النثر لن تنجح في اقتحام الغرف الدراسية ما دامت “العقلية النحوية” الجامدة هي المسيطرة على إنتاج المعرفة والتخطيط لها، ولذلك سيظل هذا الصراع مخفياً يوجه ضد قصيدة النثر، ليس لأنّها لا شرعية لها، بل لأنّ شرعيتها لو نقلت إلى الغرف الصفية بآليات التفكير النقدي الفاعل ستفضي إلى ثورة حقيقية في التعليم، وهذا ما لا تريده المنظومة التعليمية العربية برمتها. فصار من الأنسب والأسلم ربط الطلاب بنماذج شعرية رديئة من شعر الشطرين وشعر التفعيلة، وبذلك تتعمّق التفاهة وتتأصّل الجهالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى