العتاب لمسات ورصاصات

دكتور | عادل المراغي أكاديمي وأديب مصري
العتاب والصفاء باب من أبواب الود ولا يكون إلا مع من نحب.
قال الشاعر:
‏أُعاتب من يحلو بقلبي عتابه
وأترك من لا أشتهي أن أعاتبه
وليس عتاب المرء للمرء نافعا
إذا لم يكن للمرء قلب يعاتبه

والمعاتبة الرقيقة تفتح آفاقا وتغرس أشجارا للحب وتبني جسورا للتواصل، قال علي رضي الله عنه:( لا أصرم أخاً قبل أن أعاتبه). أي لا أقطع ولا أهجر.
فالعتاب والمعاتبة من أبرز الوسائل التي تبقي المودة، وتشعر بالرحمة وبالقرب وبالألفة، لذلك نجد في القرآن الكريم وهو الكلام المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نجد عتاباً لطيفاً رقيقاً من الله جل جلاله لقمم خلقه، وهم الأنبياء والمرسلون، قال تعالى:
﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾
(سورة التوبة: 43)
وقال جل جلاله﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾
(سورة التحريم: 1)
وقال جلت قدرته﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (*)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (*)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾
فانظر إلى العتاب الرقيق فى قوله تبارك وتعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) بضمير الغيبة، تعظيمًا وإجلالاً له صلى الله عليه وسلم ولم يقل: عبست وتوليت بلفظ المخاطب، لإيهام أن من صدر عنه هذا الفعل ليس هو صلى الله عليه وسلم ، والسامع لهذه الآيات للمرة الأولى لا يعلم من هو المقصود بها، وإن علم فليس في الأسلوب شدة أو نقمة إنما توجيه للأحسن والأصوب، كما أن في التعبير بضمير المخاطب فى قوله تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) الإيناس بعد الإيحاش، والإقبال بعد توهم الإعراض.
وهكذا يكون العتاب الرقيق باستخدم الألفاظ الرقيقة التى لا تؤثر سلبًا على نفس سامعها بحيث ينسى أنه عتاب ويتحول إلى مُدافعٍ ومجادلٍ عن موقفه لِيُثْبِتُ أنه على صواب، ولا يؤتي العتاب -في تلك الحالة- ثمرته المرجوة.
وقد أسس الإسلام لتماسك المجتمع وشيوع المودة والألفة ودوامها، ومن أبرزها العتاب الرقيق الحاني، والمعاتبة اللطيفة.
وهناك فرق بين العتاب الرقيق واللوم والتقريع ،وقد ذكر الثعالبي كلام العلماء فمنهم من ذم العتاب مطلقاً لأنه لا يجدي إلا إذا صادف أهله، ومنهم من مدحه لأنه يفتح آفاقا للحب.
قال بعض البلغاء: (العتاب حدائق المتحابين، وثمار المتوادين).
وقيل: (ظاهر العتاب خير من باطن الحقد، ومن لم يعاتب على الزَّلَّة، فليس بحافظ للخُلَّة).
وقال ابن المعتز: (العتاب حياة المودة)، وقيل: (من كثر حقده، قَلَّ عتابه).
وقال أحد الشعراء:
ترك العتاب إذا استحق أخ
منك العتاب ذريعة الهجر
وقال آخر:
أعاتب ذا المودة من صديق
إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ود
ويبقى الود ما بقي العتاب
وقال ثالث:
أبلغ أبا جعفر مني معاتبة
وفي العتاب حياة بين أقوام
وقال عباس بن الأحنف
لولا محبتكم لما عاتبتكم
ولكنتم عندي كبعض الناس
وفي ذم العتاب ورد عن بعضهم قوله: (كثرة العتاب تُورِث الضغينة، وتولد البغضاء)
وقال بعض الحكماء البلغاء: (مثل العتاب مثل الدواء، يشفى بمكانه مرضُ الصدور؛ فإذا استعمل لغير علة عارضة، وبلا حاجة ظاهرة، تحوَّل داء المحبة دويًّا، وصار موتًا بيد القطيعة).
قال أحد الشعراء:
إن بعض العتاب يدعو إلى حقد
ويؤذي به المحب الحبيبا
فإذا ما القلوب لم تضمر الود
فلن يعطف العتاب القلوبا

وقيل:(كثرة العتاب داعية الاجتناب مشردة للأصحاب)
وقال ابن المعتز:( لا تعاتب صديقك لأدنى سبب وأخفى شيء يتعلق الظن، فإن ذلك يدل على ضعف ثقتك به، ووهن مودتك له.)
وكفى بما قاله بشار بن برد واعظًا من العتاب:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا
صديقك لم تلق الذي لم تعاتبه
فعش واحدا أو صل أخاك
فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا كنت لم تشرب مرارًا على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وقال آخر:
إذا ما كنت منكرًا كل ذنب
ولم تجلل أخاك عن العتاب
تباعد من تعاتب بعد قرب
وصار به الزمان إلى اجتناب

فكثرة العتاب تورث الشقاق
وشدة الغيرة مفتاح الطلاق ،أما الاعتدال في العتاب فهو باب من أبواب الصفاء والود ولا يكون إلا مع من نحب،وماعاتب المحب حبيه بمثل قوله تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم..) فقد أبلغه بالعفو قبل أن يبلغه بسبب العتاب.
لعل عتبك محمود عواقبه
وربما صحت الأجسام بالعلل

أما كثرة العتاب فدليل علي التتبع والتحقيق والتدقيق وعدم التغافل ،والكمال لله وحده،ومن رام الكمال طلب المحال، كما قال بعض الحكماء: (نحن ما رضينا عن أنفسنا فكيف نرضي عن غيرنا؟!)
وقال الشاعر
تريد مهذبا لا عيب فيه
وهل نار تفوح بلا دخان؟

ومما يدل علي أن كثرة العتاب تجلب البغضاء والكراهية قول الله تعالى :(وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل)
فليس هناك متسع في الوقت أن نعاتب علي كل صغيره وكبيره ونحقق وندقق ،قال علي رضي الله عنه (الصفح الجميل هو الرضا بغير عتاب)
وطبيعة الناس جبلت علي كره من يوبخها ويلومها وجبلت علي حب من أحسن إليها وأثني عليها.
ومن أجمل ما ورد في ذم العتاب من عيون الشعر قول بهاء زهير:

تعالوا نخلّ العتبَ عنا ونصطلحْ وعودوا بنا للوصلِ والعودُ أحمدُ
ولا تخدشوا بالعتبِ وجه محبة ٍ لهُ بهجة ٌ أنوارها تتوقدُ
إذا ما تَعاتَبنا وَعُدْنَا إلى الرّضَى فذلكَ ودٌ بيننا يتجددُ
عَتَبْتُمْ عَلَيْنَا وَاعتَذَرْنَا إليكُمُ وَقُلتُمْ وقُلنا وَالهَوَى يَتَأكّدُ
عَتَبتُمْ فلَم نَعلَمْ لطيبِ حديثِكمْ أذلِكَ عَتْبٌ أمْ رِضًى وَتَوَدّدُ
وقد كانَ ذاكَ العَتبُ عن فَرْطِ غَيرَة ٍ
ويا طيبَ عَتبٍ بالمَحَبّة ِ يَشْهَدُ

ومن أدب العتاب أن تبدأ بالثناء علي من تعاتبه وتذكر حسناته وإيجابياته أولا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن عمر ،فعن سالمِ بنِ عبدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه عَن أَبِيِه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ اللَّهِ لَو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ قالَ سالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بعْدَ ذلكَ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلًا. متفقٌ عَلَيْهِ
ومن أدب العتاب أن تعاتب مرة واحدة لأن بعض الطباع لا يجدي معها العتاب ،وفيهم قال الشاعر:
ولو كان العتاب يفيد شيئا
ملأت مسامع الدنيا عتابا
ومثل الذي يعاتب شخصاً لا يجدي معه العتاب كمثل من ببني في الهواء أسقفا أو من يخط علي الماء أحرفا،
قال الشاعر:
ومكلف الأشياء ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
ولو كان العتاب يفيد إخوة يوسف الذين جبلوا علي المكر والخداع لعاتبهم ولكنه عفا عنهم دون عتاب،فلا تجهد نفسك في العتاب مع بعض الناس فمن التعذيب تهذيب الذيب،
كل إمرئ عائد يوماً لشيمته
وإن تخلق أخلاقا إلي حين
فعاتب مرة ثم انصرف كما قال البحتري:
‏أُعاتبُ المرء فِيما جاءَ واحدةً
ثُم السلامُ عليْهِ لا أُعاتِبُهُ
ومن أدب العتاب ألا توجه واللوم المباشر فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل يومًا أحد صحابته عاملاً على الصدقة فجاء حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله هذا لكم وهذا أهدي لي، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن صعد المنبر عشية بعد الصلاة وقال: «أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَهَلَّا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا….»رواه البخاري
ورأى رجلاً آخر يغتسل فى مكان فسيح بلا إزار، ولا يستتر عن أعين الناس فصعد صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ؛ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ»رواه الترمذي
وغيرها من المواقف التى تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعَرِّضُ باسم أحد من صحابته بل يقول: (ما بال أقوم يفعلون كذا)، (إذا فعل أحدكم كذا) يعاتبهم بأسلوب مهذب رقيق ليس فيه تجريح للمشاعر ولا غض من قيمة الشخص الذي اقترف خطأ، فكان صلى الله عليه وسلم مثلا حيًا للصحابة فى فقه التعامل مع الناس؛ حتى قال أنس بن مالك: «َكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُوَاجِهُ رَجُلًا فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ»رواه أحمد
بل كان يتعامل مع أهله –أعني زوجاته- بهذا الفقه فمن ذلك ما قصه ربنا تبارك وتعالى فى سورة التحريم حيث قال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}[التحريم3]
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتم حفصة سرًا بتحريم العسل على نفسه، فذكرته حفصة لعائشة فأظهره الله عليه، فعرف بعضه وأعرض عن بعض.
أي: قال لها: إن الله أوحى إليَّ ما أفْشَيْتِ من السر فى تحريم العسل، وأنك أخبرت عائشة بذلك، وأعرض عن بعض
وهذا التغاضي عن كثير من أخطاء الأحبة والمقربين من شيم الكرام الأخيار الذين لا يلومون أحبابهم على كل ما يفعلون أو يأتون من أخطاء ولكن يكفي التعريض ببعضها والكف عن البعض الآخر.
ويُعَدُّ هذا من قمة فقه العتاب وفنه بمكان، لا يصل إليه إلا من تأدب بآداب القرآن وتعلم من النبي العدنان صلى الله عليه وسلم .
قال الحسن: (ما استقصى كريم قط.)
وقال سفيان‏ الثوري:‏( مازال التغافل من فعل الكرام‏)
وأخيرا كن لطيفاً رقيقاً في عتابك وإياك ورصاصات العتاب القاتلة،فانها تمزق أوصال المحبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى