العولمة والإبادة اللغوية
مصطفى سليمان | سوريا
من الكتب الرصینة الصادرة عن سلسلة (عالم المعرفة) الكویتیة كتاب: ھل یحتاج العلم إلى لغة عالمیة ؟ لسكوت مونتغمري رقم 419ترجمة د. فؤاد عبد المطلب.
وھو سرد تاریخي لغوي علمي لسیطرة لغات بعینھا – قدیماً -على الثقافة العالمیة لقرون، وبالأخص على لغة العلم والثقافة العامة كاللاتینیة والیونانیة والآرامیة والعربیة … فتاریخ العلم ھو تاریخ اللغات. ویرى المؤلف أن اللغة الإنجلیزیة الیوم- مجازاً- ترتكب إبادة عولمیة بسیطرتھا على لغة التقنیة والعلوم بكل فروعھا. لكنه یطرح قضیة مثیرة وھي تفتُّت اللغة الإنجلیزیة العالمیة، بحیث توجد (لغات إنجلیزیة) تتكیّف مع محیطھا الإقلیمي . فھناك اللغة الإنجلیزیة الأمریكیة والصینیة والجنوب أفریقیة والھندیة>
ویمكن للمتتبّع عبر اختیارات نوع اللغة الإنجلیزیة في قائمة اللغات في شبكة الإنترنت أن یقف على لائحة طویلة وغریبة من التكاثر اللغوي الإنجلیزي. وما یھمنا في الكتاب استعراضه للتاریخ العلمي للغة العربیة، وموقفه من حاضرھا الیوم. فھو یرى أن العربیة كانت لغة غزو – لھجة عسكریة- أبادت عبر قرون لغات قومیة محلیة . لكنھا: ” سیطرت على العلوم بشكلھا الأكثر تقدماً بحیث یمكن تسمیتھا لغة عالمیة حقیقیة للعلم ، وقد استعمل العربیة من القرن التاسع حتى الحادي عشر نسبة من الناشطین في العلوم أعلى ربما حتى من الإنجلیزیة عام 2013 .”
ویربط بین موت اللاتینیة التي سادت في أوروبا عبر قرون، و(موت) العربیة الفصحى كلغة محكیة ؛ فقد كتب ( غالیلیو) علومه بلھجته المحلیة الإیطالیة ، ولافوازییه وباستور بالفرنسیة ودانتي بلھجة مدینته فلورنسا … وھكذا ماتت اللاتینیة كلغة حیاة وثقافة وعلم ، وصارت لغة كنسیة طقوسیة جنائزیة.
والعربیة الكلاسیكیة – برأیه – أزالت لغات أخرى كونھا لغة غزو وتأثیر سیاسي وعسكري واقتصادي وثقافي ( ونسي البعد الدیني الأھم ). ویرى أیضاً: ” أن الذي دمرھا توسُّعُھا المتسامح بصفنھا لغة محكیة في كامل العالم الإسلامي ، بینما جعلھا ھذا التوسُّع لغة ھائلة للمعرفة المكتوبة عبر منطقة شاسعة. وتوصلت أعمال مترجمیھا ومؤلفیھا لملء المكتبات الكبیرة التي جُمعت من بغداد وطلیطلة، وھي أماكن یفصل بینھا أكثر من ألفي میل والكثیر من الثقافات السابقة “.
وواقع الإنجلیزیة الیوم، في تجزُّئھا إلى( لغات ) إقلیمیة ووطنیة محلیة ( استناداً إلى النموذج العربي )، كما یقول، ینذر بنشوء لغة علمیة عالمیة ، غیر الإنجلیزیة السائدة الیوم . لكنھا تبقى …(إنجلیزیة) . ھذا یجعلنا نطرح السؤال التالي : ھل تصبح اللغة العربیة مع الوقت ( لغات ) ؟
ھناك ظاھرة غریبة في خیارات اللغة العربیة عبر الإنترنت . فأنت مخیَّر بین العربیة السوریة أو السعودیة أو الأردنیة أو المغربیة أو ….
یریدون جعل لھجاتنا المحلیة لغات. وعندما تختار أيّ ( لھجة – لغة ) فإنك ستصادف الفصحى التي یعرفھا كل طفل عربي في أول مراحله التعلیمیة بالبلاد العربیة كلھا.
إن سیادة الفصحى غالبة ومتزایدة : في التعلیم( لكن لغة العلم في الكتب المدرسیة العربیة تأخذ مصطلحاً محلیاً أحیاناً )..
وهي غالبة في الصحف، والمجلات الثقافیة والعلمیة والفنیة والمؤتمرات الدولیة وعبر مكاتب الأمم المتحدة في العالم، باعتبارھا لغة رسمية معتمَدة فیھا …
إلا أن الخطر الداھم یأتي من لغة مواقع التواصل الاجتماعي . فاللھجة ( الفیسبوكیة والتویتریة والواتسأبیّة …)، كذلك لھجات الدلع التلفزي ، والمیوعة الإذاعیة المحلية، وإعادة تنشیط الدعوات إلى اعتماد اللھجات المحكیة لغةَ تعلیم وصحافة و….. كل ذلك یقرع أجراس الخطر اللغوي . فھل تبید العولمةُ لغتنا ، وتفتّتھا لتصبح ( لغات كانت لھجات ) كاللاتینیة ؟
سؤال موجّه إلى… لا أدري لمن ؟