“مجلس” ولُد ميّتا، وأيّام حيّة في الذاكرة! 

عبد الرزّاق الربيعي| شاعر ومسرحي وكاتب صحفي

من بين عشرات اللقاءات، التي شاركتُ بها، أستحضر لقاء، يحتلّ مكانة في نفسي، أقيم في العاصمة الأردنية في مايو عام ٢٠٠٧، جمعني بنخبة من الشعراء، والمثقّفين العراقيين قدموا من مختلف بقاع الأرض!

وقبل الدخول في التفاصيل، لابدّ من الحديث عن علاقتي باللقاء، ففي أواخر أبريل ٢٠٠٧ دعاني الصديق إياد الزاملي رئيس تحرير صحيفة (كتابات) الألكترونية للمشاركة في مؤتمر تأسيس الـ(المجلس العراقي للثقافة) الذي تحتضنه العاصمة الأردنيّة عمّان، وحين سألته عن المناسبة، أجاب: تأسيس مجلس للثقافة العراقيّة، يلمّ شتاتها، فرحّبت بالفكرة،  التي أوضحها الإعلامي إبراهيم الزبيدي الناطق باسم اللجنة التحضيرية للمؤتمر حين قال لوسائل الإعلام”  إنّ الهدف الأول لتأسيس المجلس هو حشد جهود المثقفين العراقيين لكي يستعيد المثقف العراقي دوره الفاعل في إنهاء الاحتلال الأجنبي، وتخليص شعب العراق من جميع مخلّفاته، وآثاره السيئة، والتمسّك باستقلال العراق الكامل، ووحدته، أرضاً، وشعباً وهوية، وأن المجلس سيعمل على نشر ثقافة التسامح، والتآزر، والحوار، وإدانة العنف، والإرهاب بكلّ أشكاله، ومصادره”، وما إلى ذلك من كلام يثلج الصدر في مرحلة ساخنة،  مفصليّة في تاريخ العراق! وجبت على الجميع فتح قنوات الحوار، والمشاركة، والبحث عن حلول، وطرحت يومها العديد من التساؤلات حول المقرّ، فكان الجواب أنه “سيتخذ مقرا له خارج العراق في مكان لم يحدد بعد، على أن ينتقل إلى بغداد عندما تسمح الظروف بذلك، كما سيتم فتح فروع له في كل من بريطانيا وهولندا والولايات المتحدة، والأردن، ومصر، والإمارات”، كما صرّح الزبيدي.

ومما زاد من حماسي لقبول الدعوة أنّ المشاركين يمثّلون نخبة من المثقفين العراقيين الذين  يأتون من كلّ فجّ عميق، من الداخل، والخارج، ويتجاوز عددهم  أكثر من 200 مثقف عراقي، كما قال الزاملي، موضّحا “سيجتمعون لإقرار النظام الداخلي، وانتخاب رئيس المجلس”، وكانت بين أسماء الأعضاء المرشحين لعضوية الهيئة التأسيسية الروائي، والكاتب عبد الستار ناصر، والمخرج فيصل الياسري، ووزير العدل السابق هاشم الشبلي، والإعلامي هاشم حسن، ود. مهدي الحافظ الذي جرى انتخابه أمينا للمجلس.

في هذا المؤتمر التقيت للمرّة الأخيرة بعدد من القامات الثقافيّة، والفنيّة التي غادرت عالمنا كالشاعر زهير الدجيلي، والفنان يوسف العاني، والكاتب عبدالستار ناصر، والنحات محمد غني حكمت، والشاعر والكاتب حميد العقابي، رحمهم الله، وضاعت عليّ فرصة اللقاء بالناقد الموسيقي عادل الهاشمي الذي وصل مطار عالية مع العراقيين القادمين من بغداد، لكن لخطأ في جواز سفره لم يُسمح له بالدخول، وبقي في المطار، ثمّ أعيد إلى بغداد بطائرة أخرى، بعد ساعات من وصوله عمّان، ولم يستطع أحد أن يفعل شيئا له، وكان الفنان يوسف العاني يسأل عنه، بين ساعة، وأخرى، وحين علم أنه أعيد إلى بغداد، صاح وسط الفندق بصوت مرتفع” كان علينا اتّخاذ موقف، وإلّا نغادر المطار حتى يتمّ حسم أمره”، وحين سألته” ولماذا لم تطرأ هذه الفكرة هناك؟ أجاب” أخبرونا أنّ الإشكال بسيط، وستجري معالجته، بعد التأكّد من صحّة البيانات المثبّتة بالجواز من المصدر، ثمّ يلتحق بكم”!

وكان ذلك من المنغّصات التي كان من بينها قيام الشاعر سعدي يوسف يوم١٣ مايو بنشر بيان يهاجم به بعض المشاركين بالأسماء، متّهما إياهم بالتواطؤ مع الاحتلال، والعمالة، فأثارت، تلك الاتّهامات بعض من طالتهم أوصافه النابية، فعبّروا عن انزعاجهم، فيما اكتفى البعض الآخر بالابتسام!

لكن ذلك التجمع لم يخلُ من مفاجآت جميلة، إذ التقيت بأدباء لم أجتمع بهم وجها لوجه من قبل، وأصدقاء، لم ألتقِ بهم من سنوات من بينهم، : عدنان الصائغ، علي الشلاه، أياد الزاملي، فوزي كريم،  يحيى السماوي، خالد الحلي، د.ماجد السامرائي، فوزي ترزي، جاسم المطير، إبراهيم أحمد، د.مالك المطلبي، فاضل ثامر، د.رشيد خيون، سليم مطر، هاشم حسن، رشا فاضل، علي بدر، سيف الخياط، علي الفواز، د.سيار الجميل، فيصل الياسري، هند كامل، هدية حسين، علي الفواز، شوقي عبدالأمير، وارد بدر السالم، حمزة مصطفى، حميد المختار،، د.إخلاص الطيّار، غادة بطي التي كانت من اللجنة المنظمة تعمل بالتنسيق مع الزبيدي، والزاملي.

 ومن المقيمين في الأردن يومها التقيت أصدقاء كانوا يزوروننا في الفندق، ومن بينهم : شاكر حامد، د.مجيد السامرائي، د.هاني عاشور، د.حيدر سعيد، علي السوداني، عبود الجابري. 

ومع حضور عدد من الشعراء، والشعر عنوان بارز من عناوين الثقافة العراقيّة، كما هو معروف،  كان لابدّ  لإدارة المؤتمر أن تقيم أمسية شعرية ضمّت شعراء من  أجيال مختلفة في الشعر العراقي، ويكفي أنّ قامتين نقديّتين بوزن الدكتور مالك المطلبي، وفاضل ثامر، قدّمتها للجمهور، وذلك في اليوم الأخير من المؤتمر،  وشارك فيها: الفريد سمعان، الذي  ينتمي إلى جيل الستينيات، وشوقي عبدالأمير، وخالد الحلي، ويحيى السماوي وحميد الخاقاني وهم ينتمون إلى جيل السبعينيات، وعلي الشلاه، وفوزي ترزي،  وكاتب السطور من جيل الثمانينيات، إذن ثلاثة أجيال شعرية اجتمعت في أمسية شارك فيها شعراء قدموا من أماكن مختلفة: فالشاعران فوزي ترزي، والفريد سمعان قدما من العراق، وخالد الحلّي، ويحيى السماوي من استراليا، وحميد الخاقاني من الدنمارك وشوقي عبد الامير من بيروت، وعلى الشلاه من زيورخ، وكاتب السطور من مسقط،  وكل شاعر حمل معه أوجاعه..أوجاع الوطن،  وآلام المنفى فكانت خلطة جميلة من الحنين والعاطفة والتطلع لغد أبهى وسط شظايا المفخخات التي تحصد يومها عشرات الأرواح في العراق، القى المشاركون قصائد نثر، وأخرى عمودية؟، وما بينهما قصائد تفعيلة، كلها وقفت جنبا إلى جنب في هذه الأمسية التي ابتدأت بمشهد مسرحي قدّمه الفنان الكبير يوسف العاني الذي وقف على امتداد قامته ليؤدي هذا المشهد متقمّصا شخصية أعادتنا الى الشخصيات التي مثّلها على المسرح العراقي، وظلت محفورة في الذاكرة، وكانت شخصية “عبود” التي اشتهر بتجسيدها في سهرة تلفزيونية حملت عنوان “عبود يغني” هي الأقرب للشخصية التي تحدّثت عن أوجاع البطل بسخرية مريرة جعلت الحاضرين يضحكون، ويتوجّعون، وكنت مندهشا من القدرة التي يتمتع بها هذا الرجل الثمانيني، يومها، على التلوين في الأداء، وكان يرفع صوته، ويتحرّك على الخشبة، كأيّ شاب في مقتبل العمر، وهذا جعل الحضور يصفّق له وقوفا بعد انتهاء المشهد، وكان للموسيقى حضورمن خلال فاصل جميل على العود أمتع الحضور، وتعاقب الشعراء على المنصّة، وسط جمهور عراقي كبير من المشاركين، والمقيمين، فيما خلت القاعة من الأخوة الأردنيين، ربّما لأنّ الحدث كان عراقيّا بحتا، ولم تنشر أخباره وسائل الإعلام الأردنيّة، لذا كانت صحيفة” كتابات” الالكترونيّة تنقل وقاىع المؤتمر أوّلا بأوّل!!،  وحين حان دوري نهضتُ من مكاني، وقبل وصولي المنصة أدرك المطلبي أنّ خطأ جرى في ترتيب الأسماء، فنادى على الفريد سمعان، فلم أستدر عائدا إلى مكاني، لحراجة الموقف، وبقيت أفكّر، وأنا أواصل سيري، بالطريقة المناسبة التي سأعالج بها الموقف، وكان الفريد سمعان قد وصل المنصّة المخصّصة للقراءات الشعريّة قبلي، وهنا أشار الناقد فاضل ثامر لي بالجلوس إلى جواره حيث الطاولة المستطيلة التي وضعت على المسرح على يسار منصّة الشعراء، ريثما يحين دوري، لانتقل إلى  منصّة الشعر !!

وحين انتهى الفريد سمعان من قراءاته، قدّمني المطلبي للجمهور، وبدلا من أن أنتقل إلى منصة الشعر بقيت متسمّرا في مكاني، وبدلا من تعكير الجوّ، قلت حينها ” الخطأ الذي حصل في وضع ترتيب الأسماء أتاح لي فرصة الجلوس إلى جانب قامتين نقديّتين، لم أكن أحلم يوما بالجلوس إلى جوارهما، والآن لن أتخلى عن مكان أجلسني الله به سهوا”، فضحك الجمهور، وصفّق، بينما كنت أقرأ نصوصي جلوسا مستمتعا باسترخاء عجيب، ربما بسبب ردّة فعل الجمهور لطريقتي في التعاطي مع الخطأ !!

  هذه الأمسية أتاحت لي فرصة سماع شعراء لم أسمعهم من قبل على المنصة كالفريد سمعان وشوقي عبد الأمير، ويحيى السماوي، وخالد الحلي، وفوزي الترزي، وكيف أسمعهم، وكل واحد منا يقيم تحت نجمة؟، وكنت أتمنى أن أسمع الشاعرين فوزي كريم، وعدنان الصائغ اللذين اكتفيا بالجلوس مع الحضور معتذرين عن المشاركة في الأمسية،  فكان لابدّ لي أن أهدي نصي (عندما تعود الى الوطن ) إلى الصائغ ليصعد اسمه المنصة، وذلك أضعف الإيمان !!

لقد كانت أمسية متنوعة جمعت المسرح بالشعر بالموسيقى في لقاء عراقي جمع نخبة من المثقفين العراقيين المتناثرين تحت نجوم سماء الله الواسعة !!

وكان أجمل ما في اللقاء جلساتنا الليلية التي تستمرّ إلى وقت متأخّر من الليل، ومن المفارقات التي حصلت أنّنا كنا ذات ليلة نواصل جلسة من الجلسات، فيما صعد معظم المشاركين إلى غرفهم، وفجاة رنّ جرس الإنذار منذرا بنشوب حريق، وكان لزاما في مثل هذه الحالات على جميع المقيمين النزول إلى اللستقبال على وجه السرعة، وخلال دقيقتين امتلأت قاعة الاستقبال بمشاركين، قاموا من النوم مذعورين، مسرعين حتى أنّ نزل بعضهم بملابس النوم، أو بما يستر، وذلك بعد سماعهم صوت الجرس المزعج العالي، وحين تفقّدنا الجميع لاحظنا أن الأستاذ فاضل ثامر لم يكن موجودا، قلنا : لعله ظل مستغرقا بالنوم، فاتّصلنا بهاتف غرفته، ولم يرد !،  وبقينا ننتظر، وإذا به يأتي يتهادى في سيره، بكامل أناقته، مرتديا البدلة، والقميص وربطة العنق، والحذاء، وكأنّه يتوجّه لحفلة، أو جلسة!! 

ثم اتّضح أنّ الأمر عاديّ، وعاد كلّ إلى غرفته، فيما واصلنا سهرتنا في المكان نفسه.  

وبعد عدّة جلسات انتهى المؤتمر، فيما ظلّت التوصيات حبرا على ورق، وخرجنا بفرصة لقاء العديد من الاصدقاء الموزّعين على مناطق مختلفة من الكرة الأرضية، ولم يتكرّر الاجتماع ، وجاء على لسان الزبيدي معزيا سبب إلغاء المجلس أنّ الأحزاب شنّت عليه “حربا لا رحمة فيها” كما يقول، أجبرته على التراجع، وغلق المجلس، الذي وُلد ميّتا، فيما سيظلُّ ذلك اللقاء النادر حيّة في الذاكرة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى