أدب

حوار ودراسة نقدية لرواية “سميدرا” للدكتور عبدالرحمن الكواري الحاصلة على جائزة كتارا 2023.

بقلم: صالحة خليفة

     وزير الصحة القطري السابق حصول الدكتور/ عبدالرحمن الكواري من هو ضيفنا اليوم ، صاحب مؤلف “سيمدرا “:
ضيفنا اليوم في ضفاف الأدب والفكر والثقافة، سعادة الدكتور/ عبدالرحمن بن سالم الكواري، طبيبًا قطريًا مزج بين حبه للغته الأم وتذوقه لأدبها،وبين مهنته التي أحبها وتفوق بها ليصبح وزيرًا للصحة (1996-1999)، حضنت ولادته قريته فويرط وهي تقع شمال شرق من دولة قطر، سنة 1953م، ثم نشأ وترعرع في قرية عين سنان وهي تقع شمال الغشامية وكانت بيوتها من الطين، علم والده أن الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني لديه خطة للتعليم في قطر، فأخذ قراره الحاسم بالانتقال إليها كي يكون هناك فرصة لأبنائه في التعليم، ليسكنوا في منطقة تسمى أم غويلينة، ليلتحق في مدرسة صلاح الدين الأيوبي وكانت أول مدرسة في قطر ،وكان أصغر الطلاب سنًا، وكان طالبا متفوقا، عندما وصل المرحلة الثانوية اتخذ قرارا صعبا في دراسة الأول الثانوي في إجازة الصيف ليجتازه وينجح ويتحول للصف الثاني ثانوي، ويقتصر سنة دراسية كاملة عليه.
     كان لديه صراع دائم بين القسم العلمي والأدبي، حيث كان عاشقا للأدب وفنونه، وفي نفس الوقت متفوقًا في درجاته العلمية، فنصحه أخاه الأكبر في اختيار القسم العلمي، وكان ترتيبه الخامس على القطريين في الثانوية العامة عام 1971م، ليطلب منه وزير التربية والتعليم أنذاك سعادة عبدالله تركي بأن يختار الطب في مصر لأن قطر بحاجة لأطباء قطريين، فحصل على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة القاهرة، 1979م. لم يقف طموحه عند هنا بل حصل على ماجستير في طب الأسرة 1988م، جامعة جلاسجو، المملكة المتحدة، ليكمل مسيرته العلمية ليحصل على الدكتوراه في الرعاية الصحية الأولية من جامعة الأسكندرية،2006م.ليصبح بعد ذلك مديرا لإدارة الرعاية الصحية الأولية (1990-1995م)، وزيرًا للصحة العامة (1996-1999م).

     وعمل على تأسيس البرنامج المدرسي لصحةالفم والأسنان،1991م. وكذلك أسس مركز التدريب المستمر لمراكز الرعاية الصحية الأولية1991م.وبرنامج ضمان الجودة الصحية في المراكز الصحية،1992م. وبرنامج الصحة النفسية لطلبة المدارس 1992م.

وأسس الجمعية القطرية للسكري1995م. وقد حول استراتيجية الصحة في قطر إلى خطط وبرامج وحدد مشاكلها الصحية ذات الأولوية وقسم البلاد إلى مناطق صحية وحدد اختصاصاتها وأنشأ لها جهاز فني وإداري. هوأول من شكل هيئة استشارية للتمريض في قطرعام 1998م.

     وأنشأ أول مركز للتدريب في القطاع الصحي الخاص. وله العديد من البحوث والدراسات في مجال السكري والسمنة وارتفاع الضغط والكولسترول، كما أشرف على العديد من الرسائل والبحوث الطبية.

لِمَ ” سميدرا ” كان عنوان روايته؟
سميدرا، اسم لافت يشد الانتباه، هو مختلف، وغريب، ذكاء من الكاتب لاختياره هذا الاسم، ،فتلك هي سميدرا، الشخصية المحورية في الرواية، ربما قد يستغرب القارئ عند قراءة اسم الرواية ، وعندما يكتشف أن هذا الاسم ما هو إلا اسم بطلة الرواية، وإن دل فإنه يدل على ذكاء كاتب الرواية، وحنكته، وإدراكه إلى أن أهم ما يشد القارئ هو عنوان الرواية والشخصية المحورية، ولم يكن اختياره مصادفة، بل دراسة منه، وعمق في التفكير، وإتقان، ليشد القارئ بشغف لقراءة الرواية السردية، ليجوب في دروبها، وأحيائها، باحثًا عن ما تحمله روايته السردية هذه، يأخذنا إلى عمقه الواعي، والمضمون الجاد، والرمزية المدروسة والمتأنية، اختياره لهذا العنوان، ترك القارئ في المتخيل، ولم يفرض عليه ما يريد، بل جعله يعيش تلك المساحة لاستقراء معنى الاسم، والسر وراء اختياره له، والبحث عن رمزية العنوان، فيحلل ويفسر ويفكك ويركب الاسم ليصل أن سميدرا هي مجموعة من الدلالات والمعاني بشخصية إمرأة .
وسميدرا تعني “وردة كرم العنب” وأن كرمة العنب تنبت غالبًا أزهارًا ونادرًا ما تعطي وردًا، وهي رمز التفرد، وكانت تستخدم قديمًا في بلاد الشام والعراق، وهي كلمة سريانية .
على أبواب الرواية
سؤال يطرح نفسه،لِمَ بدأ الرواية بتلك الحادثة للشخصية المحورية للرواية؟
سميدرا تقف في ساحة ببلد النور باريس، ترفع لافتة كتب عليها(منظمة أحرار بلا قيود) تشارك في مظاهرة لإحياء الثورة الفرنسية، يصدح صوت من حولها عندما اخترقت الرصاصة جسدها:(خونة، خونة، لن تسقط الحرية )، ليلتحم مع الأصوات الفرنسية ولربما مع آخرين لا صلة لهم ببلد النور، وإنما يتشاركون بحلم الحرية، والتحرر من القيود التي فرضت عليهم في بلادهم، لم تكن تلك الافتتاحية مصادفة، بل حرص عليها ليبدأ بها روايته، لايصال رسالته إلى القارئ، أن الحرية وأن أصيبت برصاصة فلن يضيرها شيء وسوف تعيش وتكافح لتبقى .
في تلك الحادثة أراد أن يجسد لنا تاريخ عائلة سميدرا بتاريخ أسرتها المقاوم، والتي كان لها الأثر الأكبر في شخصيتها، وسمات المقاومة والتحدي التي عرفت بها، ونهجها في الحياة الذي رسمه لنا الكواري أثناء دراستها في اسطنبول، ذلك النهج العلمي، والنهج الآخر الوطني، لندرك من خلال الأحداث سبب اختيار الطلبة لها لتكون ممثلة في جمعية حقوق الإنسان، واستقطاب أحرار العالم .
الكواري وأزمنته:
يأخذنا الكواري بإنسياب هادئ إلى أزمنته، من خلال سميدرا من بلدتها البيضاء إلى إسطنبول مرورًا بباريس مدينة النور إلى الدوحة لتستقر بعد ذلك في كندا .
لندرك من خلال تلاحم الأزمنة في الرواية الإستثنائية لكاتب استثنائي، أنه لمْ يختارها بشكل عشوائي أوأتت مصادفة، إنما كان باختيار متقن، ومقصود، لتلك الرسالة أو لنقل الرسالات التي تحملها روايته منذ البداية، ليجسد لنا كم من الوقت يأخذنا لنصل إلى التحرر والانفكاك من القيود التي تفرط علينا، وما يبذل من مجهود كبير ولربما يفوق احتمالنا كي نصل إلى هذا التحرر.
الأزمنة هنا كان لها الكثير من الرمزية المحببة، والتي هي واقع وحاصل ، فعندما نشاهد التلفاز ونشاهد معاناة اللجوء في كل أنحاء الكرة الأرضية، نعود إلى سميدرا التي جسدت هذه الحالة التي نشاهدها كل يوم ونسمع بها، من خلال الإعلام، فالزمن وما تخلله من أحداث وتنقل من زمنٍ لآخر كان واقعًا معاش.
الأمكنة وما تحملها من رمزية:
    ما زال الكواري يصر على رمزيته التي تحمل رسالات عدة لتصل إلينا بهدوء وتروي، فالأمكنة التي تتمحور بها أحداث روايته تنقل لنا ما خلف الرمزية التي يقصدها، فالوطن بات أرضًا لمعارك ضروس، واقتتال مستعر، وحروب متأسدة مجنونة، لا أحد يفهمها، كيف حدثت ؟ ولِمَ حدثت في الأصل؟ والموت يحاصر أناس لا دخل لهم بكل ما يحدث، ذنبهم الوحيد أنهم ينتمون إلى هذه الأرض.
    ثم ينتقل بنا إلى بداية النهاية، والاختيار الصعب، هربًا من الموت إلى الموت ، لتبدأ الرحلة ، في البحث عن حياة آمنة، ولكي يصل إليها هؤلاء عليهم أن يواجهون أهوال وجنون أمواج الحياة العاتية، وفُكُوك الحيتان التي تتأهب لمعركتها مع هؤلاء الفارين من الموت إلى الموت ، لكن لا خيار هي الأقدار التي تنقذ هؤلاء من الأمواج المجنونة أوالحيتان الجائعة.
لنجد أنفسنا نقف عند المحطة الثانية، هي اسطنبول، والتي رمز إليها بالتنوع الثقافي، وتلك السمة المشتركة بينها وبين المدن العربية، وبوابة الانطلاق للعالم الآخر للبحث عن الذات، والأمان والحرية ،إلى بلد النور باريس، ثم الدوحة التي تدعم وتساند لكل من يتطلع للعدالة والحرية .
وأخيرًا تورنتو في كندا، لتجد سميدرا فيها الأمان، والذات والطموح، والانفتاح الثقافي الواسع، لعالم كبير مختلط من جميع أجناس العالم، ونظرية التعايش وتقبل الآخر تحت مظلة القانون ، الذي يدعم رؤيا تلك البلد.
لقد وفق الكاتب في اختياراته للأمكنة، وكان واقعيًا فيها، مما جعل القارئ يتوافق معها، ويتقبلها، ولربما تعايش مع فكرتها، لأنها تمثل الواقع والحقيقة لكل لاجئ في الزمن الحاضر.
شخصيات الرواية :
الشخصية المحورية:سميدرا، هي كفاح إمرأة، فتاة تبحث عن حرية تكفل لها ذاتها، وأحلامها وطموحاتها، تلك المرأة التي تبحث عن دورٍ فاعل ومؤثر في هذا العالم، سميدرا هي الوطن ، والحرية، والإغتراب ، واللجوء ، والبحث عن مرافئ أمان، والنأي بنفسها عن حروب لا طاقة لها بها، ولن تحصد منها سوى الموت الجسدي ، أو موت النفس والروح.
      إذًا نجد أن الكاتب ما زال يحمل لنا رمزية قلمه، وبعمق فكره، وتأنيه في اختياراته لتلك الرمزية، وبعدًا عن العشوائية، والتقريرية المباشرة، هي شخصية مدروسة بإتقان، جامعة لرموز عدة كي تصل إلينا ما يريده منها ، مما يدفع بنا إلى البحث في عمق هذه الشخصية، وفك رموزها، ثم إعادة جمعها بشكل متكامل ، لتصل لنا صورتها الجامعة والمانحة لكثير من المعاني والدلالات، لتكون نموذجًا حيًّا لتصوراتنا، وما نصبو إليه في زمنٍ بات ينشر جنونه في كل مكان.
     تواجه البطلة سيمدرا كثيرًا من منعرجات مصيرية، والتي تعكس لنا تطور شخصيتها، من فتاة بسيطة في بلدتها ، تنتقل من مكان لمكان، وهذا الانتقال يترك بصماته عليها ، ويؤثر في بناء شخصيتها، وتطورها، ونموها الفكري الذي بالتالي ينعكس عليها، حتى يصل بها المطاف في كندا لتكتمل تلك الشخصية وتنضج بوعي وتجارب عميقة ومتنوعة، تحدد من خلالها الحب والحياة والانتماء .
العم محمود: شقيق والد سميدرا، خريج كلية الأداب الفنون، وقد تطوع في العمل الوطني، هو من ربى سميدرا وزوجته بعد وفاة أمها أثناء ولاداته، وترك والدها لقريتهم لأجل العمل الوطني، وقد تشربت سميدرا الكثير من أفكاره القومية التحررية،وإن كانت قد اكتسبت الجرأة والحدة والصرامة من والدها، في كثير من المواقف، واتخاذ القرارات، عكس العم محمود الذي اتسمت شخصيته بالكثير من التردد وعدم قدرته على اتخاذ قراراته .
القرار الحازم الوحيد الذي اتخذه في حياته، وقد أصاب به، هو إخراج سميدار من البلاد لإتمام دراستها الجامعية، ولكي تمثل بلادها في المطالبة في الحرية .
علا : زوجة عمة سميدرا، وكانت لها أم بعد وفاة أمها، وقد اعتنت بها كأبنة لها، وكانت قريبة عليها .
هدية: صديقة سميدرا منذ الصغر، شاركتها طفولتها وصباها وكذلك أحلامها وأسرارها، وكذلك الأفكار التي تتمحور حول الحرية، وهي شقيقة رامي التي أحبته سميدرا، وقد سجنت بسبب مساعدة رجال قريتها المطالبين بالعدالة والحرية .
رامي: شقيق هدية، ومنذ الطفولة كان يشارك سميدرا لعبها وطفولتها وصباها ، وقد أحبها وبقي على عهده لها ، وقد عمل في الجيش إلا أنه كان يمد الثوار بالمعلومات التي تساعدهم ، وسجن ثم هُربَ من السجن ليلتقي مع سميدرا في كندا.
أحمد ابن العطار: عُرف عنه بالقناص، كان يُوقع بنات الجامعة في حباله ثم يتركهن، شخصية مريضة غير سوية، كان يعاني من خلل في السلوك وحب الانتقام من النساء والمجتمع ، بسبب معاقبة المجتمع منه، ومنع أولادهم من اللعب معهم، قامت أمه بالانتحار، نشأ حزين معدوم المشاعر، لا يشعر بالانتماء لأي شيء، بل تولد لديه البغض والكراهية تجاه مجتمعه خاصة البنات،وقد إلتقى بسميدرا في الجامعة وحاول أن يوقعها في حبه، إلا أنها كانت واعية لما يدور في خاطرة، وقد قالت له حقيقة ما هو عليه، وأنه لا بد وأن بداخله بذرة طيبة صالحة، ومن هنا بدأ يتغير ويصبح شخص آخر،وعند عودته لبلده عمل في وظيفة مهمة وساعد الثوار ومدهم في كثير من المعلومات .
الأستاذ جاكوب ماتر: مغربي الأصل اسمه الحقيقي يعقوب مطر، تغرب عن بلده المغرب وعاش في باريس، تفوق وتميز بعلمه ، ليحصل على الأستاذية في الكيمياء ، وكان مشرفا على دراسة وأبحاث سميدرا، وكأن الكاتب أراد من خلاله أن نستقرأ مستقبل سميدرا وما سوف تصل إليه من مستقبل باهر وشأنًا عظيمًا .
طارق: الأب الروحي لسميدرا في بلد اللجوء، وهو صديق لوالدها، كان الداعم لها والسند .
زينة: فتاة لبنانية تدرس الفنون، وهي من شاركت سميدرا في السكن في فرنسا، ومن لفتت انتباهها من أحمد ابن العطار، وأن تتجنبه وتكون حذرة منه، وقد أحبت عاطف القبرصي، الذي ارتبط بها بعد أن حقق لها شرطها في الحصول على الأجاص الحامض أواجاص الثلج من غابات فرنسا .
مريم: فتاة تونسية من أب تونسي وأم فرنسية، إلتقت بسميدرا في فرنسا وأصبحتا أصدقاء، شخصية هادئة متزنة، رافقت سميدرا في مخيمات اللجوء، وساندتها في ظروفها ، ودعمتها في العمل بشركة والدها كمدققة حسابات، للخروج من الضائقة المالية التي كانت تواجهها .
خالد المقدسي: مهندس برمجيات، من فلسطين مقدسي النشأة والهوية، قدم مسرحية تتحدث عن عذابات الشتات وقهر الداخل والفقر والفتات .
معن: طالب يمني، جسد حالة الاغتراب والشتات ، استقر أهله في تركيا .
جاسم: شاب قطري، وطالب دكتوراه في جامعة السربون،الذي إلتقى هو وعائلته بفرنسا بسميدرا، وتكونت معهم علاقة صداقة، دعاها لحضور مؤتمر عن الحريات في الدوحة، وكانا يحملان الكثير من الأفكار المتشابه عن الحرية والعدالة والمساواة .
الأمير عماد الدين: رجل يختزل التاريخ لعائلة سميدرا، السياسي والاجتماعي ،والمساجد والقلاغ والقصور التي تميزت أيام العائلة، تستهويه الأعمال الخيرية، وآخر أمراء عائلة آل شاكر، ويرجع له الجميع في ما يتعلق بشؤون الأسرة .
شاكر: والد سميدرا، لم يكن له حضورا قوي كغيره من الشخصيات في الرواية، بسبب وجوده مع الثوار خارج بلدته، إلا أنه كان له الأثر الكبير في شخصية ابنته، وقد أخذت عنه الكثير من الصفات التي تميزت بها مثل: قوة الشخصية ، الحزم ، سرعة اتخاذ القرار .
كل هذه الشخصيات التي أحاطت بسميدرا، كان لها أثر قوي على رسم ملامح شخصيتها ، وبلورة أفكارها ونضجها ، وكأن بالكاتب يقول لنا: أن الوطن لن يكون وطنًا إلا بكل ما يحيط به من شخوص تدرك أهمية أن يكون حرًا طليقًا لا سياج تخنقه .

ما تحمله ” سميدرا ” من قيم:
يؤمن الكاتب بأهمية أن يكون صاحب أي عمل أدبي يمتلك قيمًا يحملها للقارئ ويجسدها في شخوص عمله،حاول من خلال شخصية سميدرا أن يجسد تلك القيم المساواة والعدالة اللتان تكفلان تنفس نسائم الحرية، كما قدم لنا صورة عائلة آل شاكر التي عرف تاريخها بالنضال، ليقول لنا أنه متوارث ومستمر لا يموت وإن تكالبت عليه الذئاب، وأن المؤمن بقضيته لا يعرف اليأس ويبقى حاملًا لشعلتها حتى النهاية، كما قدم لنا صورة مقابلة للظلم في معاقبة المجتمع لطفل صغير لا ذنب له سوى أن والدته أخطأت ثم تكفر عما إرتكبته بالانتحار ، فنشأ بداخل هذا الطفل حتى كبر حب الانتقام من المجتمع من خلال تصيد الفتيات والايقاع بهن ليشبع رغبته في الانتقام، وكأن به ينادي بأهمية الصحة النفسية لمجتمعاتنا، والتحرر من الموروث الاجتماعي الذي يؤثر سلبًا على مجتمعاتنا، ولا يقف في تجسيد هذه القيم من خلال شخوص روايته سميدرا ، بل يمتلك نفسًا عميقًا وطويلًا تقديمها والتي تنصب جلّها في العدالة والمساواة والحق والخير والجمال وحق الشعوب في العيش بأمن وآمان .
الإبداع والتحدي:
كل كاتب يحمل في داخله الكثير من التحدي، فأن يمسك قلمه ويبدأ بكتابة فكرة جديدة تجسدها رواية تحمل الكثير من الفكر، هي التحدي بذاته، فكيف برواية “سميدرا” والتي حصلت في 13 أكتوبر 2023، أي منذ عدة أيام على جائزة “كتارا” للرواية في قطر، في دورتها التاسعة، فالجائزة ذات بُعد عربي وعالمي تهدف إلى ترسيخ حضور الروايات العربية المتميزة عربيًا وعالميًا .
التحدي والإبداع أن يكتب الكات عن بلدة لم يعش الكاتب بها، ينتقل بنا في أورقتها، يجلس مع أهلها، ويأخذنا من مكان إلى مكان، من قصر آل شاكر إلى محل العطارة لصاحبها ماهر العطار، وكأنه ابن هذه البلدة ومن أهلها، وعاش عمره كله بها، حتى نبرة الصوت نكاد نسمعها منه وكأنه يتحدث لهجة تلك المنطقة، وتعابير وجوههم اعتاد عليها لأنه منهم، أحلامهم وأفكارهم وطموحاتهم كلها يحملها بقلمه وكأنه واحدًا منهم، المعاناة التي حملتها سميدرا معها في كل ترحالها أوصلها لنا وكأنه هو صاحب هذه المعاناة، الظروف الصحية الصعبة التي حلت بسميدرا، والظروف النفسية التي عاشها أحمد ابن العطار جسدها بعقله الواعي الناضج، والتي تحمل أي مجتمع المسؤولية بالصحة النفسية لأبنائها، ظروف الشباب العربي وهجرة عقوله للعالم الآخر أو لنقل المقابل لعالمنا نجسدها بين سطور روايته وكأنه واحد منهم، وهو الكاتب الطبيب الدكتور الوزير السابق يلمس جراحهم ويصورها لنا بصدق المشاعر، وإن لم يواجه مثل تلك الظروف، إلا أن الكاتب صاحب القلم الصادق هو قادر على لمس مشاعر كل من يعاني، يسمع أصواتهم المتأرجحة ما بين ضيم وألم وأمل، فالطبيب يكشف عن جراح مرضاه ويشخص أسباب ويقدم العلاج الشافي لهم، وكاتبنا الكواري هنا يكشف لنا عن معاناة شخوصه في روايته، ويقدم لنا العلاج والدواء لأجل الشفاء ، وقد برع في ذلك، كما أنه لم يترك الباب مغلقًا كغيره من بعض الكتاب، بل حمل لنا الأمل وأن الباب وإن غلق فسوف تفتح أبواب أخرى . كما لديه أسلوب استشراف المستقبل والتنبؤ به، عند موضع صورة الدكتور جاكوب عالم الكيمياء أمام سيمدرا ليقول لنا أنها يوما ستكون مثل هذا العالم في مكانته ورتبته العلمية .

قضايا مهمة في ” سميدرا ” :
من خلال روايته طرح عدة قضايا مهمة وهي :
* أهمية الفن والأدب في التعبير عن قضايا الشعوب، فالثقافة السلاح الناعم للشعوب لمحاربة الأفكار المضللة وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وتعزيز الانتماء والهوية .
* أهمية تمكين المرأة العربية بالعلم والفكر والثقافة .
* دور المرأة العربية عبر التاريخ في كفاحها لنيل حريتها والدفاع عن الوطن ووقوفها في خندق واحد مع الرجل .
* التأكيد على أن القضية المفصلية للأمة العربية هي القضية الفلسطينية من خلال (مجسم المسجد الأقصى) .
* أهمية الوحدة العربية ، والتي جسدها من خلال شخوصه التي تنوعت جنسياتهم وما يحملونه من فكر وعلم وثقافة .
* هجرة العقول العربية للدول الغربية، وسبل العودة بهم لأوطانهم .
– حالة اللجوء بين الأمس واليوم ، وإلقاء الضوء على وضع مخيمات اللجوء اليوم وكأن بها سجن اختياري زين بألوان الأزرق والأخضر والأحمر،و التي وضعت حسب الحالة المرضية والنفسية التي يعاني منها من اكتئاب شديد إلى حالات حرجة وعدوانية .

بصمات مهنة الطب لدى الكاتب في روايته :
من الطبيعي أن تترك مهنة أي كاتب بصمتها على قلمه، وهذا ما نجده في رواية “سميدرا” من خلال اختيار الكواري لدراسة سميدرا العلمية، وحديثه عن الدكتورة جاكوب وعن مختبره في كلية العلوم ، وحديثه عن خطورة الفيروسات على الكائنات وخاصة الإنسان .
كما أننا نلاحظ استخدامه للألفاظ العلمية والمخبرية من الجيتون والانزيمات ، والخليات وغيرها من المصطلحات الطبية .
كما أنه لم يقف عند ذكر المصطلحات بل كان هناك شرح تفصيلي لها مثل خصائص الفيروسات ومضادتها، وكذلك شرح تفصيلي للتركيبات الطبية للمواد العطرية التي يبيعها العطار ماهر.وصف للحالة المرضية لسميدرا (التصلب المتعدد) .

حوار مع الدكتور/ عبدالرحمن الكواري، الفائز بجائزة “كتارا” للرواية في قطر الدورة التاسعة في : 13أكتوبر 2023
– في لحظة إعلان نتائج جائزة”كتارا” للرواية وفوزك بجائزة الرواية القطرية برواية سميدرا، ما هو الشعور الذي عشته في تلك اللحظة؟
شعور جميل مفعم بالغبطة والإرتياح، وأنه قد تحقق ما كان يخالجني من شعور أن هذا العمل سيكون له صدى كبير لأنه عمل جاد، وإشادة بدور المرأة في الدفاع عن الحرية .وكذلك تنبيهها بما يحاك لها في وسائل التواصل الاجتماعي من دسائس ومحاولة تغييب دورها كإمرأة تعمل جنبًا إلى جنب مع الرجل لرفعة الوطن وصيانته .
– ما أثر تلك الجوائز في دعم الكاتب العربي، والإرتقاء بالرواية العربية؟
مثل تلك الجوائز الصادرة عن جهات تتبنى الرقي بالرواية العربية كجائزة كتارا للرواية العربية، تدفع بالنص الروائي إلى الأمام وتخرج روايات جادة ترفع من ذائقة القارئ العربي وتنير فكره، ولا شك أن جائزة كتارا تكمل جوانب عديدة من المشهد الروائي كالترجمة والنشر والدراما.

-عرف أن هناك خطًا فاصلًا بين العلم الأدب، كيف تفسر لنا أن طبيبًا حاصلًا على الدكتوراه في الطب ثم وزيرًا سابقًا، يقدم لنا أدبًا روائيًا مميزًا …
– منذ نعومة أظافري وأنا أكتب ، إلا أنها كتابات خاصة به، لم أفكر يومًا في نشرها، هي منبع فطري لدي من المشاعر والأحاسيس، كنت أحب القراءة والمعرفة منذ صغري، فتولد لدي مخزون من الثقافة والمعرفة ، كما كان لها أثر في أن أمتلك الكثير من تنمية مشاعري وامتلاك ملكة الكتابة ، كما أن الطبيب يشخص أمراض الناس ويقدم لهم العلاج ، تماما الكاتب يشخص أوجاع الناس ويقدم لهم الحلول، فأنا أرى أن هناك الكثير من التقابل والتشابه بين الطبيب والكاتب لا تنافر بينهما .
– كيف كانت بداياتك في الكتابة؟
– لن أنسى ذلك اليوم عندما كنت صغيرًا في الثانية عشر من عمري، كان والدي محمولًا على أكتاف العمال المتظاهرين وهم يطالبون بتحسين أوضاعهم المعيشية، هذا الحدث أنطق بداخلي شعورًا يحمل الكثير من التساؤلات ، كيف لأبي وهو لايعرف القراءة والكتابة يتظاهر لأجل حقوقه وحقوق العمال ، فكتبت: (كان أبي لا يعرف القراءة والكتابه ولكنه كان يسحق بجسده الخشبي المسحوق كل من يتطاول على حقه في أن يعيش حرًا)، هذا الموقف أخرج مكنونات نفسي وأثر بها حتى يومنا هذا .
– ما أول ما كتبت ؟
– ما زلت أذكر تلك القصة، عندما انتقلنا من بيتنا القديم، احتشد الأطفال في الحوش أي ساحة البيت وأخذوا يلعبون ويتراشقون، كانت امي تتخطاهم بهدوء خشية إيذاءهم، فكتبت قصة قصيرة اسميتها “بيتنا العتيق” أذكر منها هذا المقطع: (وكانت أمي تمشي بخفة وحذر وكأنها تخشى علي حاجيات ثمينة من الكسر)، كما كنت أكتب بعض الخواطر في جريدة الحائط بنادي التحرير الرياضي (العربي حاليا) .
– ما هي أكثر التجارب تأثيرها عليك ؟
– هي تجربة الغربة والحنين إلى الوطن أثناء دراستي في القاهرة، فصقلت مشاعري وفكير ، وكنت من مؤسسي نادي الطلبة القطريين هناك، وكنت أكتب في جريدة الحائط الخاصة بالنادي، فبرغم من طبيعة دراسة الطب الجافة إلا أني كنت مهتمًا بالجانب الأدبي وكتبت قصيدة حُزت فيها على جائزة الحصاد الثقافي للشعر في .. مطلعها :
يا سجينة الدار يا رافضة كل عار
يا نسخة مني
لو سألوكِ عني .
– اختيارك لعنوان روايتك الأولي والفائزة بجائزة كتارا للرواية القطرية، من أين أتيت بالاسم ؟
– عادة أرسم في مخيلتي ملخص الرواية، واختار لها عنوان قبل أن أكتبها، ثم أبدأ في تفاصيل الشخوص والأزمنة والفضاءات والحبكات والسرد القصصي،وكنت أطلقت على البطلة اسم “وردة كرم العنب” تلك الكرمة التي ضربت جذورها وسط حوش عائلة البطلة، ثم بحثت عنها لاجد هذا الاسم الجميل الذي يرمز إليها في اللغة السريانية .
– ما مدى قدرة الكاتب على خلق نمط جديد للكتابة السردية أو لنقل مدرسة جديدة في الأدب الخليجي خاصة والادب العربي عامة ؟
– نفسي تواقة للتفكير خارج الصندوق وقد دفعتني لخوض غمار كتابة الرواية الخيالية وهي روايتي القادمة، وقد وجدت بعضًا من نفسي حينما استخدمت أسلوب الخيال التأميل، وشعرت بقدرتي على العطاء والتفكير بإسلوب غير نمطي ، لا أدري هل هذا سيدفعني إلى استنباط نمط مختلف في الكتابة السردية أم لا ! ما أشعر به أنه قد يدفعني إلى أمر مثل هذا ! وحصولي على جائزة ” كتارا ” للرواية القطرية لهذا العام ، حافزًا كبيرًا لي لكي أفكر خارج الصندوق .
– نلمس من خلال روايتك الحائزة على جائزة كتارا 2023، خروجًا من تحت عباءة المجتمع الثقافي الذكوري ؟
– علاقتي بأمي المتفردة، كانت مصدر دعمي ومساندتي في تربيتي واهتمامها بنا بالعلم والتعلم رغم أميتها .وكذلك صداقتي بأختي التي تصغرني الدكتورة/ كلثم أستاذة العلوم الحيوية في جامعة قطر ، حيث ترعرعنا سويًا وتثقفنا معًا، هو ما دفعني للإهتمام بقضية المرأة مبكرًا خاصة دورها الكبير في الحضارة الإسلامية إلى يومنا هذا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى