سيرة الأنثى بين الاستلاب والقهر.. قراءة في قصة (غنايم) لـ” د. كاميليا عبد الفتاح”

د . محمد سعيد شحاتة | ناقد وأكاديمي مصري

تدور أحداث قصة (غنايم) للكاتبة الدكتورة كاميليا عبد الفتاح في بيئة صعيدية تحكمها التقاليد الصارمة، والقيم المتوارثة التي لا يخرج عنها أحد، وهي بذلك تقدم صورة نمطية للبيئة الصعيدية توارثتها الكتابات الأدبية عبر فترات متتالية من الزمن، فهل كانت الكاتبة تريد التنويه إلى ضرورة تغيير تلك الصورة النمطية التي تحكمها الصرامة، وتتحكم فيها الموروثات، وتسليط الضوء على معاناة الأنثى داخل هذه البيئة، واستلابها؟ أو أرادت أن تقدم قصة لحياة صعيدية ما زالت موجودة بشكل أو بآخر في بعض البيئات؟ أو أرادت أن تكشف عن التغير الذي تحاول الأنثى الصعيدية إحداثه مهما تعرضت للعقاب من سلطة المجتمع والقيم المتوارثة في إطار بيئة صارمة؟ وسوف نتوقف أمام قصة (غنايم) لفهم رؤيتها الفكرية وتضاريس النفوس الإنسانية في شموخها وانكساراتها، واستلابها للموروثات المتحكمة فيها، والقابضة على تفاصيلها.

 

مقاربةٌ أولى:

تتنازع لفظ (غنايم) لغويا دلالتان، الأولى ما يؤخذ من المحاربين في الحرب قهرًا، وهي دلالة ناشئة عن صراع بين طرفين – أو أكثر- تنتهي بانهزام أحدهما، واستيلاء الآخر على ما كان بيد المنهزم، وهذه الدلالة هي ذات الوجود الطاغي على الذهنية المجتمعية، ولذلك كان القول الشائع (رضي من الغنية بالإياب) دالا على العودة دون تحقيق الأهداف المرجوة، وقد وجدنا في المعاجم العربية أقوالا تدور حول هذا الإطار العام، ومنها (غنم الشيء فاز به، ربحه، عكس غرم – غنِم في الحرب: ظفِر بمال عدوِّه، أصاب غنيمة – الغُنْمُ :غنيمة، ما يُؤخذ من المحاربين في الحرب قهرًا أو عنوة) وقد نشأت هذه الدلالة وتبلورت وتعمقت في إطار صراع قبائلي في العصر الجاهلي، ثم بعد ذلك في إطار ديني هيمن على العلاقة بين المؤمنين والكافرين، وهو لا شك إطار يحكمه الصراع بين الحق والباطل، ومن ثم فإن هذه الدلالة تحمل في طياتها عناصر الصراع، وبالتالي يكون النصر أو الهزيمة، وإن لم تصرح بذلك، أما الدلالة الثانية فهي دلالة لغوية عامة لم يكتب لها الذيوع والانتشار كالدلالة الأولى، وهذه الدلالة العامة أنّ الغنيمة هي كل فائدة تستحصل عن طريق التجارة والكسب أو الحرب، وقد كتب القرطبي في ذيل تفسير آية الغنائم «إنّ الغنيمة في اللغة هي الخير الذي يناله الفرد أو الجماعة بالسعي والجد»ولكن هذه الدلالة العامة لم يكتب لها الشيوع والانتشار كالدلالة الأولى، ولا يمكن استبعاد الدلالة اللغوية من الذاكرة الجمعية أثناء إطلاق الأسماء على أصحابها؛ فهي حاضرة – بشكل أو بآخر – في تلك الذاكرة الجمعية؛ لأن تلك الذاكرة الجمعية هي نتاج تراكمات متتالية لمفاهيم وقيم توارثتها جيلا بعد جيل، وترسَّخت حتى صارت تشكل أنسجتها، ومن ثم تتحكم في المجتمعات، وتهيمن على منظومة القيم فيها، بحيث لا يستطيع أحد في تلك المجتمعات الخروج عن تلك المنظومة، وإذا فكَّر في الخروج يكتشف أنه أصبح منبوذا فكريا ومجتمعيا، وأحيانا دينيا. وفي هذا الإطار يمكن قراءة عنوان القصة (غنايم) للكاتبة كاميليا عبد الفتاح، فلفظ (غنايم) لفظ ذو جذور دينية وظفته الكاتبة؛ لتمزج من خلاله بين الجراحات النفسية والمجتمعية، وتراكمات الاستلاب والقهر التي تتعرض له الأنثى كما يتعرض له الذكر على السواء، كلٌّ بشكل مختلف، فالأنثى مستلبة من الذكر ومن المجتمع، ومنظومة قيمه الحاكمة له والمتحكمة في أفراده، وهي – أي الأنثى – مقهورة من خلال خضوعها القهري لهذه المنظومة من القيم، وإلا تمت تصفيتها نفسيا دائما، وجسديا أحيانا، والذكر مستلبٌ أيضا من هذه المنظومة من القيم؛ فهو لا يستطيع بحال من الأحوال الخروج عنها وإلا أصبح منبوذا مجتمعيا وأخلاقيا ودينيا، وهو أيضا مقهور من خلال خضوعه القهري لهذه المنظومة الحاكمة للمجتمع والمتحكمة في كافة رجاله، وإلا نبذته عائلته ومحيطه المجتمعي، ونسجوا حوله الحكايات، وتمت تصفيته نفسيا وأخلاقيا ودينيا. ومن ثم يدور الصراع بين هذه العناصر داخل المجتمعات، وحين يغفل أحد الأطراف يمارس الطرف الآخر محاولات الخروج عن المألوف في هذه المجتمعات، وقد رصدت القصة ذلك بوضوح تام، تقول في الحديث عن سليم أخي غنايم (كان أخوها”سليمُ” هو الوحيد في الصّعيد كله الذي لا يهنأ بنوم القيلولة – أو الليل – قلقًا عليها، وارتيابًا منها، لكنّ سلطانَ النوم كان يدهمهُ بغفوةٍ إجبارية تَسقطُ فيها رأسُه بين كتفيه كأنه قد تلقَّى طعنةً مفاجئة) فهو دائم المتابعة لأخته قلقا عليها من ناحية، وارتيابا منها من ناحية أخرى، والقلق عليها يمكن تفسيره وقبوله؛ فهي أخته والقلق عليها شيء طبيعي، أما الارتياب فإن تفسيره يدخل ضمن الخضوع لسلطة منظومة القيم المتحكمة في المجتمع، وخوفه الدائم من مخالفتها؛ لأن ذلك يمثل ضياعا له ولهيبته، وتصفيته مجتمعيا ونفسيا وأخلاقيا وقيميًّا، وقد عبَّر سليم عن ذلك في الحوار الذي دار بينه وبين والد الراوية (في المرة الأخيرة التي اختفت فيها – أي غنايم – دقّ سليمُ بابَ بيتنا بجنونٍ، نظر في عينِ أبي الذي بادلهُ نظرةً طويلةً واجمةً، فوضع كفّيه على رأسه في جزعٍ كأنه تلقّى عليها ضربة موجعة ، ضيَّقَ عينيه بقوةٍ كأنهما قبضتان يخنقُ بهما” غنايم”، قال أبي وهو يفركُ قبضتيه في قلق : يعني حتروح منّنا فين؟! زأر سليمٌ : البتّ أَّما بتكون هِبَاب وشينة بتروح يا خال، رِجْلها بتتعتَّر.. وشَّها ووشِّنا بيتعفَّر في التراب) إنه الخضوع القهري لمنظومة المجتمع الحاكمة لحركة أفراده، والمتحكمة في أحكامهم ونظرتهم للناس والأشياء، ولا يمكن الخروج عنها، ومن ثم كان سليم دائم العقاب لأخته في كل مرة تحاول الخروج عن تلك المنظومة، وقد ورد ذلك مرتين في القصة على مستويين مختلفين، ففي المرة الأولى ورد إطارا عاما (يشدّها من يدها .. يُدخلها البيتَ .. نسمع صراخها وزئيره، وهو ينهالُ عليها ضربا بعد أن يغلق البابَ بالمزلاجِ حتى لا ينقذها أحدٌ منّا : إيه اللي ودّاكي سكة التعابين يا واكلة ناسك ؟!) أما المرة الثانية فقد كانت أشد قسوة؛ إذ تأكد خروج (غنايم) عن قيم المجتمع ومنظومته الحاكمة حين ارتمت في حضن العايق (حدّقَ سليم فزعًا في عينيها، في ثوبها المعفّر بتراب الجبل، في المِزَقِ التي برزَ منها فخذاها وهي تحاولُ لملمَتها بكفّ مرتعشة .. أسرعَ إليها مُفلِتًا من ذراعيّ أبي .. انقضَّ على شعرها الذي أفلتَ من قبضته لأول مرة بعد أن فرده دهنُ الثعبان ، أمسكها من ذراعها، أوقعها على الأرضِ، سحبَها وهو يركلُها في كلّ مكانٍ، تطايرَ ترابُ الجبل من ثوبها وحطّ على جدرانِ كلِّ البيوت، كان سليم يزأر كالجنِّ مفلتًا من أذرع الرجال الذين بدوا كأنّ بيوتهم لم تعد تحتملهم، فقذفت بهم في وجه ” غنايم “. حبسَها” سليمُ ” في البيت .. ربطَها – كالكلبِ – بسلسلة وقفلٍ في الحائط جنب هِباب الفرن الذي لطَّخ به وجهَها فامتلأت به كفُّاه، وضع مفتاح القفل في جيبه، كان يخرجُ للجيران هادئًا، يبكي بين يدي أبي، يضربُ رأسه في الجدار لأنه عجزَ عن التربّص بالعايق الكلب وقتله في المكان الذي سرقَ فيه شرفَ”غنايم”) وهنا يبدو الشعور بالضياع التام من سليم لأنه لم يستطع أن يحافظ على شرف أخته، ولم يستطع أن يقتل العايق الذي سلبها شرفها، ومن ثم فهو لن ينجو من النهاية الحتمية المعروفة في هذا المجتمع، وهي التصفية النفسية، ولكن الموقف يعبر عن الخضوع القهري لمنظومة القيم في هذا المجتمع، فهو إما أن يحافظ على أخته أو يقتل من سلبها شرفها، ولكنه لم يستطع أن يحقق أيا من هذين الجانبين.

وفي المقابل نجد (غنايم) مستلبة وخاضعة لتراكمات المجتمع وقيمه؛ فهي حين تذهب إلى الجبل لمقابلة العايق/معشوقها كانت تحاول أن تخفي آثار ما تقوم به (كانت غنايمُ في كل مرة ٍ تتعثّرُ أكثر من مرةٍ رغم كلِّ محاولاتها أن تتفادى السقوط حتى لا تتعفّر ملابسُها أو تتمزق في التراب، فينكشفُ فخذاها و تُقتَضحُ أمام”سليم”وأهل الحارة) فنجد سيطرة الخوف الدائم عليها من أخيها وأهل الحارة/ الاستلاب من المجتمع المحيط بها، سواء القريب/أخوها، الذي يراقبها دائما، أوالبعيد/أهل الحارة الذين يمثلون سلطة القيم، وقد بدت محاولات غنايم التخفي عن رقابة سلطة المجتمع القريب والبعيد في أكثر من موضع في القصة، فنجد (فلم تكن – أي أمها العجوز – ترى”غنايمَ” في وقفاتها الطويلة أمام المرآة تتأملُ تفاصيلَ جسدها اليابس ..تتحسَّسُه في شوقٍ مُرهق، لم ترَهاتجرّبُ قميصَ النوم الذي كانت تدسّهُ في السّحارة الخشبية بعدما اشترته من السوق، وأسرعت –حينرآهاعمي”فضالي” – بإخفائه في الكيس مع الدجاجة التي سيتم تسمينُها ثلاثةَ أيام في حوش البيت قبل الذبح) تشتمل العبارة السابقة على جانبين من التخفي، فالجانب الأول هو التخفي عن الأم العجوز،وقد جاء نتيجة ضعف نظر الأم فلا تستطيع رؤية ابنتها وهي تمارس بعض التصرفات التي يمكن أن تستنتج منها الأم – لو كانت مبصرة – تغير ابنتها، وخروجها عن قيم المجتمع، ويمكن تأويل ذلك أن الكاتبة أرادت أن تبرز غفلة المجتمع المحيط بغنايم عنها، وأنها تفعل ما تفعل نتيجة هذه الغفلة وأن هذا المجتمع مهما حاول ممارسةقهره واستلابه لها فإنها تستطيع أن تفعل ما تريد حتى وإن كانت ستتعرض للعقاب، ويبدو الجانب الثاني من محاولات غنايم التخفي عن محيطها حين اشترت قميص النوم من السوق، وأخفته بسرعة في الكيس مع الدجاجة حين رآها عمي فضالي، وفي موضع آخر نرى غنايم تستغل غفلة من حولها لممارسة ما تريد (وارتمى على ظهرها – أي شَعْرها – فاندفعت تفتحُ باب البيت بقوة في غفوة من غفوات سليم، خرجت إلى الشارع وهي تُسوّيه بأطرافِ أصابعها في فرحٍ وزهوٍ، ركضت إلى الجبل مُنتشية تبعثر خصلاته فوق وجهها، تتواثبُ قدماها فوق الخطوط المُتعرجة التي تشكّلتْ من زحف الثعابينِ في الممرات الرملية التي تنتهي بشعلة العايق)، وفي موضع آخر ترصد الكاتبة هذا الملمح من شخصية غنايم (كان أخوها”سليمُ” هو الوحيد في الصّعيد كله الذي لا يهنأُ بنوم القيلولة – أو الليل – قلقًا عليها، وارتيابًا منها، لكنّ سلطانَ النوم كان يدهمهُ بغفوةٍ إجبارية تَسقطُ فيها رأسُه بين كتفيه كأنه قد تلقَّى طعنةً مفاجئة، فتنشطُ “غنايم” ..تخرجُ من البيتِ، تتلوى بين الأزقة المظلمة والحارات الضيقة كدودة جائعة شرهة) إن استغلالها غفلة المجتمع المحيط بها لممارسة ما تريد لا يعني أنها لا تخاف من هذا المجتمع، أو تشعر بسطوته؛ فقد بدا ذلك واضحا فيما سبق حين كانت تخرج لمقابلة العايق، فقد كانت تتفادى السقوط؛ حتى لا تتعفر ملابسها، أو تتمزق في التراب فينكشف فخذاها، وتفتضح أمام سليم وأهل الحارة.

 

الرؤية الفكرية وتشابكات الأحداث

لقد لاحظنا أن الصراع هو الحاكم لحركة الأحداث في القصة، وهذا الصراع هو الذي تحدثنا عنه في دلالة اللفظ (غنايم) حين أوضحنا أنه لفظ ذو جذور قبائلية ودينية وظفته الكاتبة؛ لتمزج من خلاله بين الجراحات النفسية والمجتمعية، وتراكمات الاستلاب والقهر التي تتعرض له الأنثى كما يتعرض له الذكر على السواء، كلٌّ بشكل مختلف في مجتمع تسوده الخرافة، وتتحكم فيه الموروثات بقبضتها الصارمة، ومنطقها القاسي.

 

منظومة الاستلاب والقهر

قد يبدو للوهلة الأولى لمن يقرأ القصة (غنايم) أنها تعرض صورة لتفاصيل حياة امرأة صعيدية/غنايم بطلة القصة باعتبارها الشخصية الرئيسة التي تحاول الخروج  على منظومة صارمة من القيم المتوارثة التي قد مارست حضورها القاسي على المجتمع بكافة أشكاله وأفراده، ولكن الحقيقة أن القصة يمكن قراءتها في إطار رؤية فكرية أوسع مدى، وأكثر شمولية متجاوزين الصورة النمطية للبيئة الصعيدية التي تعرضها القصة، والتي توارثتها الكتابات الأدبية عبر فترات متتالية من الزمن، أي أننا نحاول أن نقرأ القصة في إطارها الفكري المتخفي وراء شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية، والتي تساعد في إنتاج الدلالة، وليس معنى قولنا متجاوزين الصورة النمطية للبيئة الصعيدية أننا سوف نخرج في تحليلنا عن إطار القصة وأحداثها، ولكننا نعني أننا نقرأ القصة بعيدا عن النظرة الضيقة للأحداث، والبحث عن الرابط الفكري الذي أرادته الكاتبة، أو تحكم في أحداث القصة، وحكم منطق سيرها وتفاعلاتها.

 

1 – السلطة الذكورية

تتمثل هذه السلطة في سليم أخي غنايم وخاله والعايق وعمي فضالي ورجال الحارة، ويتنوع حضور عناصر هذه السلطة ما بين حضور رئيس ومتوسط وهامشي، أما الحضور الرئيس فهو للأخ سليم باعتباره العنصر الأقرب لغنايم التي تستحوذ على مساحة أكبر من فضاء القصة، ثم يأتي بعده العايق من حيث التأثير الفعلي في الأحداث، وهو يقابل  (سليم) من حيث سلطة الفعل، أي أنه الفعل المعاكس للسلطة الذكورية السائدة في المجتمع، ولكنه في الوقت نفسه يمثل سلطة قهر من حيث الاستغلال والبحث عن المصلحة الشخصية فهو الوجه الآخر للسلطة الذكورية؛ فللسلطة الذكوريةفي القصة وجهان، وجه قاهر ووجه مستغل، وفي الحالتين هي سلطة استلاب وقهر، أما الخال/والد الراوية فإن حضوره متوسط يقتصر على مسايرة سليم في رؤيتهوالتماهي معه ومع سلطة المجتمع، وكذلك عمي فضالي؛ إذ يمثل ذاكرة المجتمع بكل عناصره وتفاصيله، ولكنها ذاكرة غير مؤثرة في تطور هذا المجتمع أو الأحداث، وتكتفي بالتباهي برصد الأحداث وحفظ تفاصيلها بهدف استدعائها السلبي وقت الحاجة، وهي كذلك تمثل الوجه الاستغلالي للسلطة الذكورية، وأما رجال الحارة فإنهم يمثلون عناصر التنفيذ لإملاءات منظومة القيم المتوارثة دون مناقشتها أو الاعتراض عليها، فهم وقود هذه السلطة وآلياتها في الوقت نفسه، وسوف نتوقف أمام عناصر تلك السلطة الذكورية محاولين – قدر الطاقة – استكشاف ملامحها، ودورها في المنظومة القيمية من خلال أحداث القصة، ولن نهتدي إلا بأحداث القصة؛ فهي الوحيدة القادرة على تفسير الرؤية الفكرية المتخفية، والبوح بعناصرها، فقد انتهت علاقة الكاتبة بالنص بمجرد أن ألقت القلم وطوت الصحيفة، ومن ثم فإن أحداث القصة هي الهادي في دروب التحليل، وسبر أغوار الأحداث، والبحث عن المنطق الذي يربط بين تفاصيلها المختلفة.

(سليم): يمثل سليم رأس السلطة الذكورية الفعلية باعتباره القائم على التحكم والتنفيذ بحكم سلطته على أخته غنايم وعلى أسرته؛ فهو ولي أمر هذه الأسرة، والمتحكم فيها، وفي رسم ملامحها وخطوط حياتها، وما ينبغي فعله أو تركه استنادا إلى منظومة القيم المجتمعية في البيئة الصعيدية/بيئة القصة، وما منحته له من صلاحيات داخل إطار هذه البيئة تمثلت في كونه سلطة رقابة، وسلطة عقاب.

سلطة الرقابة:

 تمارس السلطة الذكورية رقابة صارمة على المجتمع، وارتيابا دائما في أفراده، وتعتبر الشك أساسا في التعامل مع أفراد المجتمع، وبخاصة العناصر الضعيفة في هذا المجتمع/المرأة؛ حيث تعتبر المهدد الحقيقي لمنظومة المجتمع، وهي نظرة تتصل بوشائج ما مع النظرة الجاهلية التي كانت سائدة في المجتمع القبلي الذي كان يلجأ أحيانا إلى وأد المرأة.

  • (“سليمُ” هو الوحيد في الصّعيد كله الذي لا يهنأُ بنوم القيلولة – أو الليل – قلقًا عليها– أي غنايم –وارتيابًا منها، لكنّ سلطانَ النوم كان يدهمهُ بغفوةٍ إجبارية تَسقطُ فيها رأسُه بين كتفيه كأنه قد تلقَّى طعنةً مفاجئة–كان سليمُ لا ينامُ الليلَ أو القيلولة خوفًا من تسلل الباصق إلى بيته، وقلقًا على”غنايم “التي لم يكن يراها حين يصحو من غفوته إلَّا بالقرب من دربِ الثعابين) تشير الفقرة السابقة إلىالمتابعة الصارمة من سليم للأسرة رقابة لها وحماية لأفرادها، وبخاصة أخته التي تمثل نقطة الضعف في هذه الأسرة، ومن ثم الارتياب الدائم في تصرفاتها، فالسلطة الذكورية لا تعرف الثقة في أفراد الأسرة، وبخاصة النساء، فلابد من الارتياب الدائم في تصرفاتهن بدافع الحماية لهن؛ لأنهن– من وجهة نظر السلطة الذكورية –العنصر الأضعف في نسيج المجتمع القابل للاختراق، والمهدِّد دائما بانهيار السلطة الذكورية للأسرة، وهو ما عبَّر عنه سليم في حديثه مع الخال/والد الراوية بقوله: (البتّ أَّما بتكون هِبَاب وشينة بتروح يا خال، رِجْلها بتتعتَّر .. وشَّها ووشِّنا بيتعفَّر في التراب)
  • (كان يفيقُ من غفوته بعد رحيلها، يتفقّدُها كالمجنون في أرجاء البيت كله، حتى إنه كان يُفتشُ (زيرَ) الماء الفخاريّ و الفرنَ القابع بسواده في حوش البيت، و حين لا يجدُ لها أثرا، يدقُّ بابَ بيتنا على استحياء معتمدًا على علاقته القوية بأبي، يسأله إنْ كانت أمام الفرن تساعد في (الخبيز)، وحين يرى في عينِ أبي النّفيَ والشفقةَ والوجومَ، تنكسرُ عينُه، يتوهج وجهه الأسمر كالفخار في نار القمائن ، يُطأطئُ ..لا يرفعُ رأسَهُ حتى تظهر “غنايم ” في أول الشارع تمشي بتأوّدٍ وشرودٍ) ويبدو من النص السابق عجز السلطة الذكورية عن حماية الواقعين تحت سلطتها،أو ردعهم عن المخالفة رغم صرامتها ورقابتها القاسية، وارتيابها الشديد، ورغم علم سليم بما عليه أخته، وأنها تذهب إلى العايق فإنه يغالط نفسه، فيذهب للبحث عنها عند والد الراوية الذي لا يملك غير الشفقة عليه، وكأنه يحاول أن يجد مبررا؛ كي يقنع نفسه بعدم خروجها عن سلطته، وهنا تبدو السلطة الذكورية/سليم سلطة ضعيفة رغم قسوتها الظاهرة، ولكنها قسوة لا تمنع غنايم من تنفيذ ما تريد، وقد بدا ذلك الضعف في القول (تنكسر عينه، يتوهج وجهه الأسمركالفخار في نار القمائن ، يُطأطئُ ..لا يرفعُ رأسَهُ حتى تظهر “غنايم ” في أول الشارع تمشي بتأوّدٍ وشرودٍ) وهنا تبدو المفارقة بين سليم/السلطة الذكورية القاهرة وغنايم/العناصر المقهورة، فرغم قوة السلطة الذكورية وبطشها وقسوتها في العقاب لم يمنع ذلك غنايم من التباهي بفعلها (تظهر “غنايم ” في أول الشارع تمشي بتأوّدٍ وشرودٍ) وعدم اهتمامها، وقبولها للعقاب الذي أصبح شيئا مألوفا ومعتادا ومتوقعا في كل خروج على سلطة المجتمع، والألفة والاعتياد تُفْقِد الفعلَ أثره المطلوب، وإذا كان سليم/السلطة الذكورية قد عجز عن حماية عناصر الأسرة/غنايم فإنه عجز أيضا عن حماية ممتلكات تلك الأسرة، وقد بدا ذلك في الموقف من الباصق عند مهاجمته للفروجة (يعرفُ سليم أنَّ الثعابين تتسللُ إلى البيوتِ من بطنِ الجبل والخرائب.. تفتكُ بالدجاج وزغاليل الحمام .. كثيرًا ما يصحو على صراخ إحدى الجارات تولولُ على (فرُّوجتها(التي اختطفها الثعبانُ (الباصق)، أيقظته صرخةُ غنايم ذات مرة، فُوجئ بالباصق أمامه ينظرُ إليه بعينيه الواسعتين وقد التفَّ بجسده الناعم مُطبقًا على فرُّوجةٍ صغيرةٍ .. بدت ثنياتُ جسده كأنها فخذان كبيران يعصرانها لحما وريشًا ..فتح فمه الذي تراقص في نهايته لسانُه الصغيرُ.. أدارَ رأسه ..دسَّها في الموضع الذي احتجز فيه الفرُّوجة بين ثنياتِه المتفخِّذة .. بدا كأنه يُقبِّلُها قبلةً طويلةً .. حين أبرز رأسه كان قد أطبق على رقبتها بأنيابِه، صاحتْ، تلَّوت في محاولة الفكاك منه، سحبها داخل فمه وهو يُقلّبُها، استقرّتْ على ظهرها، ارتفع ساقاها في الهواء، فسحبها من صدرها، سكت صوتُها، تدلّتْ ساقاها من فمه الذي كان يزداد اتِّساعا كأنه سيبتلع “سليم “ذاته .. زحفَ بها ببطءٍ كأنه يتحدّى سليم أن يستطيعَ منعَه من اقتيادها علانيةً إلى بطن الجبل) وقد بدا في النص السابق التحدي الصارخ لسلطة سليم من الباصق، وهو في الحقيقة المعادل الموضوعي لتحدي غنايم للسلطة الذكورية، وكأن الكاتبة أتت بالمشهد السابق ليبوح بما لم تستطع غنايم البوح به من عجز السلطة الذكورية رغم قسوتها وبطشها؛ فهي سلطة ضعيفة هشة غير قادرة على الحماية وإن كانت قادرة على البطش والعقاب، كما أنها لا تعرف الثقة ولا الحوار مع العناصر الواقعين تحت قبضتها، وإقناعهم بضرورة الالتزام بمنظومة المجتمع القيمية الصارمة، فهي/السلطة الذكورية واقعة هي الأخرى في دائرة الاستلاب لهذه المنظومة المتوارثة الحاكمة للمجتمع وقيمه وعناصره. وقد بدا التطابق بين عناصر تحدي الباصق وتحدي غنايم لسلطة سليم/السلطة الذكورية في إشارات متعددة في القصة، منها (يعرف سليم أن الثعابين تتسلل إلى البيوت من بطن الجبل والخرائب –سليمُ هو الوحيد في الصّعيد كله الذي لا يهنأُ بنوم القيلولة – أو الليل – قلقًا عليها وارتيابا منها –تظهر “غنايم ” في أول الشارع تمشي بتأوّدٍ وشرودٍ) إن موقف الباصق يتطابق تماما مع موقف غنايم في تحدي سلطة سليم/السلطة الذكورية، وفعل ما تراه مناسبا.

 

سلطة العقاب

تحاول القصة إبراز الوجه القاسي للسلطة الذكورية من خلال القهر الشديد، وعدم الإشارة من قريب أو بعيد إلى أية محاولة لتفهُّم هذه السلطة لتموجات النفس البشرية التي تحكم تصرفاتها، ورغبات تلك النفس وأشواقها المشروعة، وهذا ما أشار إليه عمي فضالي في قوله (عمي”فضَاَلي ” أقسمَ للشارع كله أنه أولُ من سمعَ شهقة غنايم حين رأت وسامة “العايق”–أشهرمطاريدالجبل–في عُرسسليم) وعبَّر عم ضاحي عنه صراحة كذلك فيما ورد في القصة (ارتفع صوت عم ضَاحيوهو يُلقي اللومَ كلَّه على”سليم” الذي لم ينتبه إلى أنّ أخته التي بلغت مبلغ النساء منذ سنواتٍ طويلة ليس لها رجلٌ كما يجب أن يكون للنساء، لم يتقدم أحدٌ لخطبتها لدمامتها التي زادها شعرها الأكرتُ تعقيدا) فغنايم امرأة يموج في نفسها ما يموج في نفس كل امرأة من رغبة في الزواج وتكوين أسرة، ولكنها لم تكن مرغوبة، ولا تقدم أحد لخطبتها بسبب دمامتها، وتمر الأيام وهي ترى النساء تتزوجن، وتعشن حياتهن وهي لا تجد من يرغب فيها، أو يرتبط بها، وكان الأولى بأخيها أن ينتبه إلى ما تعانيه أخته، وهو ما عبَّر عنه عمي ضاحي في قوله السابق، واكتفت السلطة الذكورية/سليم بالعقاب متخلية بذلك عن مسؤوليتها في فهم الحالة النفسية التي دفعت غنايم لارتكاب ما ارتكبت، ولكنها في كل مرة ترتكب الخطأ نفسه دون محاولة البحث عن أسباب الخروج عن منظومة القيم ومعالجة الخلل، ولم يكن أحد يستطيع الخروج عن سلطة العقاب، أو يملك تنحيته جانبا، وهو ما عبَّرت عنه القصة صراحة: (لم يستطع أحدٌ إنقاذ”غنايم”من مصيرها)، وقد جاء العقاب على مستويين كما أشرنا سابقا:

  • (يشدّها من يدها .. يُدخلها البيتَ .. نسمعَ صراخها وزئيره وهو ينهالُ عليها ضربا بعد أن يغلق البابَ بالمزلاجِ حتى لا ينقذُها أحدٌ منّا : إيه اللي ودّاكي سكة التعابين يا واكلة ناسك ؟) بدا العقاب هنا عقابا عاديا من وجهة النظر المجتمعية، وإن كان قاسيا، تمثل في الضرب/العقاب البدني، ومنع أي أحد من التدخل للحيلولة دون وقوع العقاب، ثم اللوم والتأنيبوالاتهام بتضييع الأسرة وسمعتها (يا واكلة ناسك).
  • (أمسكها من ذراعها، أوقعها على الأرضِ، سحبَها وهو يركلُها في كلّ مكانٍ، تطايرَ ترابُ الجبل من ثوبها وحطّ على جدرانِ كلِّ البيوت، كان سليم يزأر كالجنِّ مفلتًا من أذرع الرجال الذين بدوا كأنّ بيوتهم لم تعد تحتملهم، فقذفت بهم في وجه ” غنايم “. حبسَها” سليمُ ” في البيت .. ربطَها – كالكلبِ – بسلسلة وقفلٍ في الحائط جنب هِباب الفرن الذي لطَّخ به وجهَها فامتلأت به كفُّاه، وضع مفتاح القفل في جيبه، كان يخرجُ للجيران هادئًا، يبكي بين يدي أبي، يضربُ رأسه في الجدار لأنه عجزَ عن التربّص بالعايق الكلب وقتله في المكان الذي سرقَ فيه شرفَ”غنايم”: بطن الجبل) يأخذ العقاب هنا شكلا مختلفا عن الشكل السابق، فقد قام بثلاثة أمور إلى جانب العقاب المتعارف عليه في البيئة الصعيدية وهو الضرب الذي مارسه في الشكل الأول من العقاب: الأمر الأول حسبها، وهو يمثل تقييدالحركتها فلا تستطيع ممارسة ما تريد، الأمر الثاني ربطها بسلسلة وقفل، وفيه إهانة لها، وقد بدت الإهانة في تشبيهها بالكلب (ربطها كالكلب بسلسلة وقفل في الحائط)، أما الأمر الثالث فهو تلطيخ وجهها بهباب الفرن، وهي إشارة واضحة لما قامت به في حق الأسرة من تلطيخ سمعتها أمام المجتمع الذي لن ينسى لها ولا لسليم/السلطة الذكورية الفعلية الخروجَ عن منظومة المجتمع. ولكننا نلاحظ أن القصة لا تفتأ تذكرنا دائما بعجز تلك السلطة الذكورية؛ ففي أشد صورة من صور قسوتها وعقابها يبدو ضعفها، فسليم رغم قسوته فيما فعل بأخته غنايم من صور العقاب السابقة نجده (يبكي بين يدي أبي، يضربُ رأسه في الجدار لأنه عجزَ عن التربّص بالعايق الكلب وقتله في المكان الذي سرقَ فيه شرفَ”غنايم”: بطن الجبل) وقد ذكرت القصة لفظ العجز صراحة في الجملة السابقة بعد أن عبَّرت عنه من خلال مواقف كثيرة ومتنوعة.

العايق: يمثل العايق الوجه الآخر للسلطة الذكورية، وهو الوجه المستغلّ؛ فللسلطة الذكورية – كما أشرنا سابقا –وجهان: وجه قاهر ووجه مستغلّ، ولكن كلا الوجهين يمثلان السلطة الذكورية؛ فهي ليست سلطة عادلة كما قد يتبدَّى للبعض من الوهلة الأولى حين تبدو محافظة على موروثات التقاليد بصرامة، ولذلك قلنا إن الرجل أيضا مُسْتَلَبٌ ومقهور من منظومة القيم المجتمعية المتوارثة، وفي هذا الإطار يمكن قراءة شخصية العايق الذي خرج على سلطة المجتمع في شكلين مختلفين من الخروج، الشكل الأول خروج إلى الجبل ضمن المطاريد بما تحمله هذه الكلمة من دلالة في البيئة الصعيدية، والشكل الثاني من الخروج تمثل في انتهاك شرف غنايم التي تمثل الحلقة الأضعف في المجتمع والتي يحاول المجتمع الذكوري الحفاظ عليها بعيدا عن الانتهاك، وقد كان الأولى بالعايق وهو أحد أبناء السلطة الذكورية أن يحافظ على غنايم باعتبارها نقطة الضعف في سلطة المجتمع الذكورية والحفاظ عليها هو حفاظ على قيم المجتمع وموروثاته، ولكننا وجدناه/العايق ينتهك شرف هذه الحلقة الأضعف في تدمير صارخ لقيم المجتمع وموروثاته، ولقد كان العايق هو المبادر بإغراء غنايم لتخرج عن سلطة المجتمع (عمي”فضَاَلي ” أقسمَ للشارع كله أنه أولُ من سمعَ شهقة غنايم حين رأت وسامة “العايق”–أشهرمطاريدالجبل–في عُرس”سليم”، وأنّهُ أولُ من رأى ابتسامة “العايق” الساخرة وهو يغمز لها بعينيه الواسعتين ويعابِثُها بترقيص لسانه، فانتفضت من فورها ترقصُ ….رقصت كالجنِّ .. اقتربت من صدر”العايق ” وهي تغني :”اللون يا لون … لون القمري لونه”)لم تكن غنايم لتفعل ما فعلت لولا إغراء العايق لها، ثم يستمر إغراؤه لها بانتهاك موروثات المجتمع من خلال استقبالها في الجبل ليمارس معها الرذيلة، ولم يفكر لحظة أنه بذلك يدمر هيبة سليم وسلطته التي هي تمثل سلطة الرجل في المجتمع الصعيدي (أقسم عم “فضالي ” أنه أول من رأى”غنايم”تتسللُ من البيت بعد أن دخل سليم بعروسه وأطفأ مصباح غرفته، تُهرعُ إلى الجبل على ضوء النار التي لا تنطفئ ، تتعثّر في المدق الترابي ..تنقلب على ظهرها .. ترتفع ساقاها في الهواء .. تتسحَّبُ في الطريق الأفعواني .. تتعفّرُ في حضن العايق الذي التفَّ حول جسدها في بطن الجبل)، ولما انكشف أمر غنايم مع العايق لم يجد العايق بدا من الهرب؛ لينجو من القتل على يد سليم انتقاما لشرف أخته (هربَ العايق مستخفيا في الخرائب ووعورة الجبال بعد أن فضح “غنايم” و (ناسهَا) حين بصق في الأرض، وهو يقولُ لرجل من الجيران : جاتني برجليها .. لازمتني كِيف الكلب ..تشتري لي عَرَق البلح والبيرة ..تشرب معاي لغاية ما تعمى و تنسى خوفها من”سليم” .. وأنسى خِلقِتْها الشِّينة وشعرها اللي حيفضل طول عمره في عيني أكرت .. أنا اتصدَّقتْ عليها باللي حصل بيني وبينها .. تحمد ربنا إنها شمِّتْ عَرَق راجل) لم يكن العايق نادما على ما فعل، ولكنه كان خائفا من العقاب والقتل على يد سليم، وحاول هو الآخر تبرير خروجه عن منظومة القيم المتوارثة التي تقتضي من الرجل الحفاظ على المرأة داخل هذا المجتمع تبريرا يخرج به من دائرة الاتهام؛ فغنايم هي التي جاءت إليه برجليها على حد تعبيره، وهو قد تصدق عليها حين منحها نفسه؛ لأنها لم تجد من يرغب فيها من الرجال، بل إنه كان يحاول أن ينسى وجهها الدميم وهو يمارس معها الرذيلة، ومن هنا نجد أن الحفاظ على المرأة داخل هذه السلطة الذكورية وهم؛ لأنه ليس حفاظا إلا على ما يخص الرجل فقط داخل دائرته الضيقة، أما ما يخص غيره من الرجال داخل هذا المجتمع فهو عرضة للانتهاك كما حدث من العايق لغنايم، وأما عم فضالي الذي هو أيضا جزء من السلطة الذكورية والذي يحفظ أسرار المطاريد، ويتباهى بأنه يتجسس عليهم ويحكي لزوجته أسرارهم وخباياهم فإنه هو الآخر لا يقل عن العايق في الجانب الاستغلالي؛ فهو لم يكن يتجسس على المطاريد بهدف معرفة أسرارهم، ولكنه كان هو الآخر يبحث عن فرصة مع الغازية محاسن(عمي”فضالي “يحكي لزوجته أسرار مطاريد الجبل، وشجاعته في التجسس عليهم .. لكنه لم يكن ليجرؤَ أن يقولَ لها –مايعرفهأهلالحارة- إنّ سببَ رحلته اليومية عبر الطريق الأفعواني للجبل هو عشقه للبنت الغازيّة”محاسن” التي ترقص هناك كل ليلة تحت المشاعل الحارقة، تتلوَّى وهي تحلم بالزواج من”العايق”الذي زهد فيها بعد ما (دَاق عَسَلْهَا) –كماقالنسوةُالحارة وهنّ ينتفن ريش الدجاج المذبوح وينزعن أحشاءه). إن الرؤية الفكرية للقصة تكشف أن السلطة الذكورية في المجتمع هي سلطة ضعيفة جدا رغم قسوتها في العقاب، وهي سلطة متصارعة بين عناصرها، فلا أحد يحفظ حقوق الآخر داخل هذه السلطة.

 

2 – المقهور جزء من سلطة القهر            

هنا ينبغي التوقف أمام هذه الزاوية من الرؤية الفكرية التي تطرحها القصة، وتتمثل في جانبين، الأول عدم مبالاة المجتمع/السلطة الصارمة بما يمكن أن تتعرض له غنايم/الخارجة عن سلطة المجتع السائدة من عقاب نتيجة خروجها، والثاني دخول الواقعين تحت قهر تلك السلطة ضمن أنسجة السلطة؛ ليمثلوا بذلك جزءا لا يتجزأ منها، تقول القصة (رفض (زوج نحمدو) النزول من البيت لإنقاذ غنايم مُتعلّلًا بأنها حطّت العارَ على رأس رجال الشارع ومرّغت شواربهم في التراب بعد أن مشَتْ (على حلِّ شعرها)، عاد إلى كركرة”الجوز “، طلب منها (زوجته) أن تحضرَ له”بَصَّاية” فحم مشتعلة ليضع عليها المعسِّل، وأن تأخذ حماما دافئًا لأنها أوحشته) فنجد سلطة المجتمع لا تهتم بأرواح من يذهبون ضحية الخروج عن السلطة المجتمعية ومنظومة القيم، بل يمارسون حياتهم/أفراد المجتمع/سلطة المجتمع في عدم مبالاة شديدة بالأرواح الشاردة عن السلطة المجتمعية، وقد تجلى ذلك في الحديث السابق لزوج نحمدو مع زوجته التي توسلت إليه أن يذهب لإنقاذ غنايم من يد أخيها سليم الذي يمكن أن يقتلها، ولكن زوج نحمدو قام بشيئين، الأول رفض طلب زوجته متعللا بأن غنايم قد خرجت عن المنظومة المجتمعية السائدة (مشت على حلِّ شعرها) ومن ثم فإن عقابها حتمي، ولا يمكن المماطلة فيه، أو التوسط لعدم إنفاذ العقوبة؛ لأن ذلك سوف يساعد على انهيار السلطة السائدة، ومن ثم ضياع المجتمع من وجهة نظره، أما الشيء الثاني الذي مارسه زوج نحمدو فهو أن طلب من زوجته أن تأخذ حماما دافئًا؛ لأنها أوحشته، وهو تصرف يعبر عن عدم المبالاة بما ينتظر غنايم من مصير على يد أخيها، وأن الحياة لابد أن تستمر في صورتها العادية، على أن الزوجة لم تكن تهتم مطلقا بغنايم ومصيرها، ولا بسلطة المجتمع وما يمكن أن يصيبها من انهيار نتيجة الخروج عليها، بل كانت هي الأخرى تريد التخلص من هذا الزوج بخروجه من البيت؛ لأنها لا تطيقه، ولم تستطع أن ترفض الزواج منه، أي أنها هي الأخرى ضحية هذه المنظومة من القيم، ولكنها لا تتعاطف مع من يقعون ضحايا أيضا، وهذا هو الجانب الثاني من زاوية الرؤية، وهي دخول الواقعين تحت قهر السلطة ضمن أنسجة تلك السلطة، وهي قضية ينبغي التوقف عندها؛ فضحايا السلطة المجتمعية القاسية لم يكونوا يرحمون بعضهم بعضا أو يتعاطفون مع بعضهم البعض، ولكنهم يساعدون بطريق غير مباشر على تثبيت منظومة القيم الصارمة تجاههم، وقد تجلى ذلك في موقف نحمدو التي كانت تريد من زوجها الخروج لإنقاذ غنايم ولكنها في الحقيقة لم تكن تهتم بغنايم أو مصيرها، بل كانت فقط تريد التخلص من زوجها لساعات قليلة، وهي نظرة ضيقة جدا ستعود بعدها نحمدو إلى الوقوع تحت السلطة المجتمعية القاسية والصارمة، كما تجلى عدم الاهتمام من الواقعين/المرأة تحت سلطة القيم الصارمة، وتصرفاتهم المساعدة في تثبيت القهر عليهم تجلى ذلك في موقف النساء في الحارة مما يفعله سليم أخي غنايم بأخته، وقد بدا ذلك على أكثر من مستوى، الأول جاء في إطار عام من الحديث، أي أن القصة تحدثت بصورة عامة، وقد بدا ذلك في (لم يستطع أحدٌ إنقاذ”غنايم”من مصيرها، فقد ظلت همهماتُ الحارة تترنّحُ مع أصحابها وراء دُرَفِ الشبابيك المُوارَبَة) هكذا دون الإشارة من قريب أو بعيد إلى مضمون الكلام الذي تردده النساء وراء درف الشبابيك المواربة، أما المستوى الثاني فهو تشويه غنايم، وتصفيتها نفسيا وأخلاقيا، وكان الأولى منهم التعاطف معها؛ فهي مثلهن واقعة تحت قبضة سلطة صارمة (قالنسوةُالحارة وهنّ ينتفن ريش الدجاج المذبوح وينزعن أحشاءه – لكن” العايق” يستبقيها في قبضته، يحميها .. يغمزُ لها بعينيه الواسعتين .. يطويها بكلامه المعسول .. حتى إذا أفرطتْ في شرب عَرق البلح وانتفضت تصرخ ..تبكي .. تهذي بما فعل بها .. أطبقَ على عنقها بذراعه، شدَّها إليه .. أحكم الخناق على رقبتها .. سحبها إلى الداخل حيثُ تُسمعُ صيحتُها مرة واحدة..تسكتُ بعدَها..تخرج مُترنّحةً في بذلة الرقص..يغمز لها”العايق”بعينيه الواسعتين ..تتلوى .. تنزلقُ بنعومةٍ حتى تقترب من صدره العاري .. تبتسمُ بعينين مُعذَّبتين .. تواصلُ الرقصَ حتى الصباح كأسيرةٍ تثقُ في أغلالها) هنا تتجلى تفاصيل التصفية النفسية والأخلاقية لغنايم التي تقوم بها نساء الحارة اللاتي هن أيضا واقعات تحت تلك السلطة الصارمة التي تمارس قهرها لغنايم، ورقابتها القاسية للجميع، فيتتحول النساء أيضا إلى جزء من تلك السلطة التي تقهرهن، وكأن الكاتبة تريد أن تقول إن السلطة المجتمعية ومنظومة القيم السائدة جمعت تحت سلطتها الظالم والمظلوم على حد سواء، فتحول الطرفان إلى جناحين تحلق بهما ، وهنا تتجلى المفارقة التي تجعل الحل مستحيلا، والخروج من هذه الدائرة أمرا بعيد المنال.

 

3 – غنايم بؤرة الأحداث:

إن النظر إلى شخصية غنايم يسير على مستويين: المستوى الأول من الناحية الشكلية، وقد عبَّرت القصة عن ذلك في مقطع طويل (لم يتقدم أحدٌ لخطبتها لدمامتها التي زادها شعرها الأكرتُ تعقيدا . شعر غنايم لم يستجب للحناء، لم يلَنِ ْ رغم كل ما بذلتْ من الطير المذبوح وهي تتطوَّحُ في ضراعة وتوسُّل لأسياد الجن تحت عويل دفوف الزار، لكنّ زيت الأعشاب الممزوج بدهن الثعابين الذي اشترته من صاحب الأجزاخانة أذلّ خشونته وقهر تجعيدته، فأذعن للمشط، وارتمى على ظهرها، فاندفعت تفتحُ باب البيت بقوة في غفوة من غفوات سليم، خرجت إلى الشارع وهي تُسوّيه بأطرافِ أصابعها في فرحٍ وزهوٍ، ركضت إلى الجبل مُنتشية تبعثر خصلاته فوق وجهها، تتواثبُ قدماها فوق الخطوط المُتعرجة التي تشكّلتْ من زحف الثعابينِ في الممرات الرملية التي تنتهي بشعلة العايق)فهي امرأة دميمة، ليس لها من الجمال نصيب، وهي إلى جانب دمامة الوجه اتصفت بالشعر الأكرت الذي لم يستجب للحناء، فراحت تستنجد بالخرافة التي تتحكم في المجتمع؛ إذ لجأت لجلسات الزار والاستنجاد بالجن فلم يجدِ ذلك نفعا (زادها شعرها الأكرتُ تعقيدا . شعر غنايم لم يستجب للحناء، لم يلَنِ ْ رغم كل ما بذلتْ من الطير المذبوح وهي تتطوَّحُ في ضراعة وتوسُّل لأسياد الجن تحت عويل دفوف الزار) وفي النهاية استطاعت أن تُلينه/الشعر باستخدام زيت الأعشاب الممزوج بدهن الثعابين الذي اشترته من صاحب الأجزخانة، لقد استطاعت أخيرا أن تقهر تجاعيد الشعر وتلين خشونته فأذعن للمشط، وفي هذه الحالة بدأت غنايم تشعر بأنوثتها فكانت أولى خطواتها أن انطلقت إلى الجبل ليكون العايق/معشوقها أول من يعاين هذا الجمال، فخرجت متباهية بشعرها مظهر الجمال الوحيد الذي ظنت أنها تمتلكه (اندفعت تفتحُ باب البيت بقوة في غفوة من غفوات سليم، خرجت إلى الشارع وهي تُسوّيه بأطرافِ أصابعها في فرحٍ وزهوٍ، ركضت إلى الجبل مُنتشية تبعثر خصلاته فوق وجهها، تتواثبُ قدماها فوق الخطوط المُتعرجة التي تشكّلتْ من زحف الثعابينِ في الممرات الرملية التي تنتهي بشعلة العايق) لقد عشقت العايق الذي امتلك وجها جميلا إلى جانب قوته، وفي هذا المستوى من شخصية غنايم تتجلى مجموعة من المفاهيم التي ترشدنا إليها القصة منها سيطرة الخرافة على المجتمع في معالجة أبسط الأمور؛ فعند معالجة دمامة غنايم لجأت إلى جلسات الزار، وذبح الطيور لعلها بذلك تحقق رغبتها في إلانة شعرها، وهذه الفكرة نفسها هي التي لجأ إليها سليم حين أراد أن يمنع الباصق من مهاجمة الفراريج (أدرك سليم خطر الباصق بعد أن ابتلعَ فروجَته، فلم يتوقف عن التفكير في كيفية التربص به وقتله، لم يتوقف عن حرق شعر الماعز والشيح حتى لا يجرؤ صاحبُ هاتين العينين الواسعتين أن يتسللَ إلى بيته في غفلة منه) وفي كل مرة يثبت عجز الخرافة في معالجة الأمور، ورغم ذلك لا يترددون في استخدامها في كل مرة يتعرضون فيها لطارئ ما.

المستوى الثاني في شخصية غنايم هو الجانب النفسي والإنساني، فغنايم كانت تعشق العايق، ولم تكن تتردد في تحمل العقاب الشديد من السلطة الذكورية المتحكمة/سليم في سبيل شعورها بتحققها كأنثى بصرف النظر عن كون هذه العلاقة في إطارها المشروع أو لا، فهي لم تكن تهتم إلا بكونها تحب العايق، وتظن أنه يحبها، وحين ربطها سليم في السلسلة لم تكن تهتم بعقابه، ولكن الذي كسرها حين بلغتها كلمات العايق (أقسمت العجوز التي كنا نطحنُ في رَحَاها الغَلَّة، ونجلس حولها نحدقُ في انكسار الحبوب بين أضراس الرَّحى، أنَّ غنايم لم تبكِ حين ضربها سليمُ بقسوة، لم تبكِ حين سمعتِ النساءَ يتضاحكن عابثات، وهنّ يتخيّلن وجهَ “العايق” المليح فوق وجهها الدميم، لكنها حين تناهت إليها كلمات العايق عنها (فرفرت) كالفرُّوجة الذبيحة .. صرخت صرخةً واحدةً .. وقعت على الأرض، ولم تتوقف بعدها عن العويل .. كانت تئنُّ وتبكي بصوتٍ مسموعٍ، تحوّل بعد ثلاثة أيامٍ إلى صوتٍ مشروخ مبحوح، أدمته قيودُ السلسلة التي تعلّقَ فيها .. وحين صار صوتُها شبيها بنباح الكلب فكّ سليمُ قفلَ السلسلة .. لكنَّ”غنايم” لم تبرح مكانها ..ولم تكف عن النباح) في هذه الحالة شعرت غنايم أن خروجها على السلطة الذكورية، وطوحها في الزواج من العايق، أو الحب كان مجرد وهم، وأنها وقعت أسيرة استغلال السلطة الذكورية بجانبيها القاهر/سليم والمستغل/العايق، فهي لم تكن سوى ضحية من ضحايا تلك السلطة التي لم ترحم أحدا حتى من ينتمون إليها، ويدخلون ضمن دائرتها، في هذه اللحظة اقتنعت غنايم بأنه لم تعد شيئا مذكورا فأسلمت نفسها لهذه السلطة ولم تعد راغبة في مبارحة مكانها، وفي هذه اللحظة أيضا لم يعد سليم راغبا في حبسها فقد رضخت لسلطة المجتمع، وقد بدا ذلك واضحا في القصة (وحين صار صوتُها شبيها بنباح الكلب فكّ سليمُ قفلَ السلسلة .. لكنَّ”غنايم” لم تبرح مكانها ..ولم تكف عن النباح) لقد كانت لحظة التنوير في القصة كاشفة جدا فغنايم قد رضخت واستكانت وهنا فكَّ سليم القيد ولم يعد بحاجة إلى استخدامه، ومن ثم فإن القصة ترى أن السلطة الذكورية في المجتمع الصعيدي لا تستقر ولا تهدأ إلا بعد أن يرضخ الجميع لها، ورغم كونها سلطة ضعيفة حين تحليل مواقفها فإنها تستخدم البطش والقهر في إرضاخ الجميع، وفي النهاية يرضخ الجميع إما من خلال العقاب البدني الشديد (ما فعله سليم) أو من خلال الاستغلال والقهر النفسي، وكسر الإرادة (ما فعله العايق) فكما أشرنا سابقا أن للسلطة الذكورية وجهان: وجه قاهر، ووجه مستغلّ، وفي الحالتين تؤول الأمور في النهاية إلى رضوخ الخارجين على السلطة الذكورية.

لقد كانت شخصية غنايم بكل تفاعلاتها داخل القصة كاشفة عن ملامح الرؤية الفكرية المتخفية وراء الأحداث وتشابكاتها، وقد استطاعت الكاتبة نسج تلك الرؤية بحرفية شديدة، فظهرت الأحداث على مستويين: مستوى بسيط يمكن لأي قارئ أن يتابعه من خلال أحداث نمطية عن بيئة صعيدية تحكمها التقاليد المتوارثة، وتتحكم فيها الخرافة والأساطير، ومستوى معقد يقبع خلف الأحداث ويحكم منطقها، ويتحكم في تشابكات العلاقات بين عناصرها، ومن ثم تبدو هذه إجابة مشروعة على السؤال: لماذا اختارت الكاتبة اسم (غنايم) عنوانا لقصتها؟

 

قصة (غنايم) – د. كاميليا عبد الفتاح

تتسللَ خارجَ البيت أثناء غفوته، إذ كان أخوها”سليمُ” هو الوحيد في الصّعيد كله الذي لا يهنأُ بنوم القيلولةَ – أو الليل – قلقًا عليها، وارتيابًا منها، لكنّ سلطانَ النوم كان يدهمهُ بغفوةٍ إجبارية تَسقطُ فيها رأسُه بين كتفيه كأنه قد تلقَّى طعنةً مفاجئة، فتنشطُ “غنايم” ..تخرجُ من البيتِ، تتلوى بين الأزقة المظلمة والحارات الضيقة كدودة جائعة شرهة حتى تصلَ إلى أطراف بلدتها الغافية، تتطلع بعينين مُبتهلتين إلى أضواء الشعلِ الناريَّة الرابضة فوق رأس الجبل حيثُ يعيشُ، العايق”، ويربضُ بجوار شعلةٍ بعينها، تهرولُ غنايمُ إليها وهي تستشرفُ لهيبها كأنها تبتهلُ للنار. كان الطريقُ المؤدي إلى الجبلِ أفعوانيًّا مرهقًا، مليئًا بالحجارة، كان في الحقيقة مدّقًا ترابيًّا قاصمًا للظهر باعوجاجه، مثيرًا للذعر بما ينتشرُ فيه من الثعابين، كانت غنايمُ في كل مرة ٍ تتعثّرُ أكثر من مرةٍ رغم كلِّ محاولاتها أن تتفادى السقوط حتى لا تتعفّر ملابسُها أو تتمزق في التراب، فينكشفُ فخذاها و تُقتَضحُ أمام”سليم”وأهل الحارة . لم تكن تعلم أنّه كان يفيقُ من غفوته بعد رحيلها، يتفقّدُها كالمجنون في أرجاء البيت كله، حتى إنه كان يُفتشُ (زيرَ) الماء الفخاريّ و الفرنَ القابع بسواده في حوش البيت، و حين لا يجدُ لها أثرا، يدقُّ بابَ بيتنا على استحياء معتمدًا على علاقته القوية بأبي، يسأله إنْ كانت أمام الفرن تساعد في (الخبيز)، وحين يرى في عينِ أبي النّفيَ والشفقةَ والوجومَ، تنكسرُ عينُه، يتوهج وجهه الأسمر كالفخار في نار القمائن ، يُطأطئُ ..لا يرفعُ رأسَهُ حتى تظهر “غنايم ” في أول الشارع تمشي بتأوّدٍ وشرودٍ .. يشدّها من يدها .. يُدخلها البيتَ .. نسمعَ صراخها وزئيره وهو ينهالُ عليها ضربا بعد أن يغلق البابَ بالمزلاجِ حتى لا ينقذُها أحدٌ منّا : إيه اللي ودّاكي سكة التعابين يا واكلة ناسك ؟! يعرفُ سليم أنَّ الثعابين تتسللُ إلى البيوتِ من بطنِ الجبل والخرائب.. تفتكُ بالدجاج وزغاليل الحمام .. كثيرًا ما يصحو على صراخ إحدى الجارات تولولُ على (فرُّوجتها) التي اختطفها الثعبانُ (الباصق)، أيقظته صرخةُ غنايم ذات مرة، فُوجئ بالباصق أمامه ينظرُ إليه بعينيه الواسعتين وقد التفَّ بجسده الناعم مُطبقًا على فرُّوجةٍ صغيرةٍ .. بدت ثنياتُ جسده كأنها فخذان كبيران يعصرانها لحما وريشًا ..فتح فمه الذي تراقص في نهايته لسانُه الصغيرُ.. أدارَ رأسه ..دسَّها في الموضع الذي احتجز فيه الفرُّوجة بين ثنياتِه المتفخِّذة .. بدا كأنه يُقبِّلُها قبلةً طويلةً .. حين أبرز رأسه كان قد أطبق على رقبتها بأنيابِه، صاحتْ، تلَّوت في محاولة الفكاك منه، سحبها داخل فمه وهو يُقلّبُها، استقرّتْ على ظهرها، ارتفع ساقاها في الهواء، فسحبها من صدرها، سكت صوتُها، تدلّتْ ساقاها من فمه الذي كان يزداد اتِّساعا كأنه سيبتلع “سليم “ذاته .. زحفَ بها ببطءٍ كأنه يتحدّى سليم أن يستطيعَ منعَه من اقتيادها علانيةً إلى بطن الجبل . أدرك سليم خطر الباصق بعد أن ابتلعَ فروجَته، فلم يتوقف عن التفكير في كيفية التربص به وقتله، لم يتوقف عن حرق شعر الماعز والشيح حتى لا يجرؤ صاحبُ هاتين العينين الواسعتين أن يتسللَ إلى بيته في غفلة منه . كان يشعر أنه كَمنْ أخذ ثأره كلّما سمع صياحَ الصبية في الشارع وهم يقبضون بأيديهم على باصقٍ مُتسلل، يضربون رأسه في الحائط ، ينزعون أنيابه، يهرعون بسُمّه إلى صاحب (الأجزخانة) الذي يشتريه منهم بقروش قليلة ليبيعه ترياقا للملدوغين، يهرولون بقروشهم، يشترون زجاجات عَرَق البلح و البوظة، يهرعون بها إلى الجبل، يحتسونها مع العايق في سهراته الصاخبة .. كان سليمُ لا ينامُ الليلَ أو القيلولة خوفًا من تسلل الباصق إلى بيته، و قلقًا على”غنايم “التي لم يكن يراها حين يصحو من غفوته إلَّا بالقرب من دربِ الثعابين .. في المرة الأخيرة التي اختفت فيها، دقّ سليمُ بابَ بيتنا بجنونٍ، نظر في عينِ أبي الذي بادلهُ نظرةً طويلةً واجمةً، فوضع كفّيه على رأسه في جزعٍ كأنه تلقّى عليها ضربة موجعة ، ضيَّقَ عينيه بقوةٍ كأنهما قبضتان يخنقُ بهما” غنايم”، قال أبي وهو يفركُ قبضتيه في قلق : يعني حتروح منّنا فين؟! زأر سليمٌ : البتّ أَّما بتكون هِبَاب وشينة بتروح يا خال، رِجْلها بتتعتَّر .. وشَّها ووشِّنا بيتعفَّر في التراب . وقفا معا في منتصف الشارع حاسري الرأس بعد أن خلعَ كلّا منهما”العمَّة”واللّاسة”، تبادلا السجائر المشتعلة في توتّر وصمتٍ وكلاهما يعبثُ في شاربه في ترقُّبٍ مهمومٍ . كانت الظهيرةُ خانقة قاتلة، والشمسُ واضحةً صفيقةً تتهجّمُ على رأسِ من يقفُ في مواجهتها . التصقت عيونُ الجيران ببِصاصِ الشبابيك والبلكونات .. حبس الجميعُ أنفاسَهم في ترقّبٍ وذعر ..كانت كلماتُ الجيران تتصاعدُ حروفُها وتتسلّلُ من الدُّرَف في غفلة من أصحابها .. كانت”نحمدو” تتوسّلُ إلى زوجها كالعادة أن يخرج إلى الشارع ليهدّئَ سليمَ قبل أن يقتلَ أخته .. والحقيقةُ أنها لا تبالي بسليم أو بأخته، لكنها كانت تترقَّبُ مصائبَ الحيّ ومآتِمَه بفرحة، لتتخلصَ من هذا الزوج بعد أن فشلت في التخلّص من الزواج به، لكنه رفض النزول من البيت لإنقاذ غنايم مُتعلّلًا بأنها حطّت العارَ على رأس رجال الشارع ومرّغت شواربهم في التراب بعد أن مشَتْ (على حلِّ شعرها)، عاد إلى كركرة”الجوزة “، طلب منها أن تحضرَ له”بَصَّاية” فحم مشتعلة ليضع عليها المعسِّل، وأن تأخذ حماما دافئًا لأنها أوحشته، أقسمتْ له أنَّ (نِفْسَها مكسورة) من الخوف على غنايم، وظهرها مكسور من التعب ، هُرعت إلى سريرها –كماحكتلنافياليومالتالي – شاردةًفينصيبهاالأسود الشبيه بسواد الفرن الذي زوّجَها من هذا الرجل الذي تبُغضه وتفضّلُ النومَ في حضن (الباصق) على النوم في (فراشه(ارتفع صوت عم” ضَاحي “وهو يُلقي اللومَ كلَّه على” سليم” الذي لم ينتبه إلى أنّ أخته التي بلغت مبلغ النساء منذ سنواتٍ طويلة ليس لها رجلٌ كما يجب أن يكون للنساء، لم يتقدم أحدٌ لخطبتها لدمامتها التي زادها شعرها الأكرتُ تعقيدا . شعر غنايم لم يستجب للحناء، لم يلَنِ ْ رغم كل ما بذلتْ من الطير المذبوح وهي تتطوَّحُ في ضراعة وتوسُّل لأسياد الجن تحت عويل دفوف الزار، لكنّ زيت الأعشاب الممزوج بدهن الثعابين الذي اشترته من صاحب الأجزاخانة أذلّ خشونته وقهر تجعيدته، فأذعن للمشط، وارتمى على ظهرها، فاندفعت تفتحُ باب البيت بقوة في غفوة من غفوات سليم، خرجت إلى الشارع وهي تُسوّيه بأطرافِ أصابعها في فرحٍ وزهوٍ، ركضت إلى الجبل مُنتشية تبعثر خصلاته فوق وجهها، تتواثبُ قدماها فوق الخطوط المُتعرجة التي تشكّلتْ من زحف الثعابينِ في الممرات الرملية التي تنتهي بشعلة العايق . ارتفعَ عويلُ أمها العجوز، ترجو سليم أن يرأفَ بأخته المسكينة التي عضَّها بختُها الأسودُ المعوج، ولدغها كالثعبان، لم تكن المأساةُ واضحة لدى العجوز التي كلَّ نظرُها، فلم تكن ترى”غنايمَ” في وقفاتها الطويلة أمام المرآة تتأملُ تفاصيلَ جسدها اليابس ..تتحسُّسه في شوقٍ مُرهق، لم ترَها تجرّبُ قميصَ النوم الذي كانت تدسّهُ في السّحارة الخشبية بعدما اشترته من السوق، وأسرعت –حينرآهاعمي”فضالي” – بإخفائه في الكيس مع الدجاجة التي سيتم تسمينُها ثلاثةَ أيام في حوش البيت قبل الذبح . لم تتنتبِه العجوز لاختلاقِ غنايم أسباب الخروج من البيت كل يوم، لم تسمعْ تهامسَ الجيرانِ وهمهماتِهم حولَ تأوُّد مشيتها وتثني جسدِها الأعجف الذي تحاولُ عبثا أن تجعله شبيهًا بجسدِ النساء .. عمي”فضَاَلي ” أقسمَ للشارع كله أنه أولُ من سمعَ شهقة غنايم حين رأت وسامة “العايق”–أشهرمطاريدالجبل–في عُرس”سليم”، وأنّهُ أولُ من رأى ابتسامة “العايق” الساخرة وهو يغمز لها بعينيه الواسعتين ويعابِثُها بترقيص لسانه، فانتفضت من فورها ترقصُ ..رقصتْ وهي تدقُّ الدفَّ المصنوع من جلد الحملان المكشوط بالحجرِ ( الخَفَّاف) الذي دعكت به كعبَيها ، وحين دُقَّت الطبول بجوار أذنيها .. الطبولُ التي شُدّ عليها جلدُ ذئبٍ من ذئاب الجبل ..رقصت كالجنِّ .. اقتربت من صدر”العايق ” وهي تغني :”اللون يا لون … لون القمري لونه”. أقسم عم “فضالي ” أنه أول من رأى”غنايم”تتسللُ من البيت بعد أن دخل سليم بعروسه وأطفأ مصباح غرفته، تُهرعُ إلى الجبل على ضوء النار التي لا تنطفئ ، تتعثّر في المدق الترابي ..تنقلب على ظهرها .. ترتفع ساقاها في الهواء .. تتسحَّبُ في الطريق الأفعواني .. تتعفّرُ في حضن العايق الذي التفَّ حول جسدها في بطن الجبل . عمي”فضالي “يحكي لزوجته أسرار مطاريد الجبل، وشجاعته في التجسس عليهم .. لكنه لم يكن ليجرؤَ أن يقولَ لها –مايعرفهأهلالحارة- إنّ سببَ رحلته اليومية عبر الطريق الأفعواني للجبل هو عشقه للبنت الغازيّة”محاسن” التي ترقص هناك كل ليلة تحت المشاعل الحارقة، تتلوَّى وهي تحلم بالزواج من”العايق”الذي زهد فيها بعد ما (دَاق عَسَلْهَا) –كماقالنسوةُالحارة وهنّ ينتفن ريش الدجاج المذبوح وينزعن أحشاءه – لكن” العايق” يستبقيها في قبضته، يحميها .. يغمزُ لها بعينيه الواسعتين .. يطويها بكلامه المعسول .. حتى إذا أفرطتْ في شرب عَرق البلح وانتفضت تصرخ ..تبكي .. تهذي بما فعل بها .. أطبقَ على عنقها بذراعه، شدَّها إليه .. أحكم الخناق على رقبتها .. سحبها إلى الداخل حيثُ تُسمعُ صيحتُها مرة واحدة ..تسكتُ بعدَها .. تخرج مُترنّحةً في بذلة الرقص .. يغمز لها”العايق”بعينيه الواسعتين ..تتلوى .. تنزلقُ بنعومةٍ حتى تقترب من صدره العاري .. تبتسمُ بعينين مُعذَّبتين .. تواصلُ الرقصَ حتى الصباح كأسيرةٍ تثقُ في أغلالها . لم يستطع أحدٌ إنقاذ” غنايم “من مصيرها، فقد ظلت همهماتُ الحارة تترنّحُ مع أصحابها وراء دُرَفِ الشبابيك المُوارَبَة . ظهرتْ”غنايم” أوّلَ الشارعِ تمشي في تؤدةٍ مريبة .. وفي عينيها ووجهها اعترافٌ أرهقهُ الخوف .. حدّقَ سليم فزعًا في عينيها، في ثوبها المعفّر بتراب الجبل، في المِزَقِ التي برزَ منها فخذاها وهي تحاولُ لملمَتها بكفّ مرتعشة .. أسرعَ إليها مُفلِتًا من ذراعيّ أبي .. انقضَّ على شعرها الذي أفلتَ من قبضته لأول مرة بعد أن فرده دهنُ الثعبان ، أمسكها من ذراعها، أوقعها على الأرضِ، سحبَها وهو يركلُها في كلّ مكانٍ، تطايرَ ترابُ الجبل من ثوبها وحطّ على جدرانِ كلِّ البيوت، كان سليم يزأر كالجنِّ مفلتًا من أذرع الرجال الذين بدوا كأنّ بيوتهم لم تعد تحتملهم، فقذفت بهم في وجه ” غنايم “. حبسَها” سليمُ ” في البيت .. ربطَها – كالكلبِ – بسلسلة وقفلٍ في الحائط جنب هِباب الفرن الذي لطَّخ به وجهَها فامتلأت به كفُّاه، وضع مفتاح القفل في جيبه، كان يخرجُ للجيران هادئًا، يبكي بين يدي أبي، يضربُ رأسه في الجدار لأنه عجزَ عن التربّص بالعايق الكلب وقتله في المكان الذي سرقَ فيه شرفَ”غنايم”: بطن الجبل . هربَ العايق مستخفيا في الخرائب ووعورة الجبال بعد أن فضح “غنايم” و (ناسهَا) حين بصق في الأرض، وهو يقولُ لرجل من الجيران : جاتني برجليها .. لازمتني كِيف الكلب ..تشتري لي عَرَق البلح والبيرة ..تشرب معاي لغاية ما تعمى و تنسى خوفها من”سليم” .. وأنسى خِلقِتْها الشِّينة وشعرها اللي حيفضل طول عمره في عيني أكرت .. أنا اتصدَّقتْ عليها باللي حصل بيني وبينها .. تحمد ربنا إنها شمِّتْ عَرَق راجل . أقسمت العجوز التي كنا نطحنُ في رَحَاها الغَلَّة، ونجلس حولها نحدقُ في انكسار الحبوب بين أضراس الرَّحى، أنَّ غنايم لم تبكِ حين ضربها سليمُ بقسوة، لم تبكِ حين سمعتِ النساءَ يتضاحكن عابثات، وهنّ يتخيّلن وجهَ “العايق” المليح فوق وجهها الدميم، لكنها حين تناهت إليها كلمات العايق عنها (فرفرت) كالفرُّوجة الذبيحة .. صرخت صرخةً واحدةً .. وقعت على الأرض، ولم تتوقف بعدها عن العويل .. كانت تئنُّ وتبكي بصوتٍ مسموعٍ، تحوّل بعد ثلاثة أيامٍ إلى صوتٍ مشروخ مبحوح، أدمته قيودُ السلسلة التي تعلّقَ فيها .. وحين صار صوتُها شبيها بنباح الكلب فكّ سليمُ قفلَ السلسلة .. لكنَّ”غنايم” لم تبرح مكانها ..ولم تكف عن النباح …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى