بِلادٌ مُنهكَةٌ فِي مَجازَات حَرب

د. أيهاب بسيسو | فلسطين
وبَعدَ أن امتَزَجَ الخَرِيفُ
بِبَقَايَا الضُّوءِ
السَّائِلِ مِن قُبَّةِ الكَونِ عِندَ المَغِيب
لَم أعُد أعرِفُ إِن كَانَت العُزلَةُ أمراً
يَجِبُ تَصدِيقُه كَالحَربِ …
أم هِي اختِرَاعٌ مِثَالِيٌّ
لِتَجَنُّبِ الكَآبَةِ
والدَّهشَة …
لَم يَعُد لَديَّ رَغبَةٌ فِي تَأمُّلِ الطَّرِيق …
النَّافِذَةُ امتِدَادُ ضَبَابٍ
تَشكَّلَ فِي الخَارِجُ مِن بَقَايَا وُجوهٍ …
تَناثَرَت فِي حَرَكَةِ رِيحٍ
لَم تَستَقِر فَوقَ الجُثَث …
أُحدِّقُ فِي الزُّجَاجُ المُهشَّمٌ
كَرَأسِ قِطٍّ فِي شَارِعٍ مُزدَحِمٍ بالسَّيارَاتِ
والغُبَار …
وأجلِسُ فِي عُزلَةِ الغُربَاءِ
أصنَعُ مِن قَمِيصٍ عَتيقٍ
وبِنطَالِ جِينز أزرَق
جَسَداً …
أحشُوُه بِحِكَايَاتِ مَقَاهٍ عَتِيقَةٍ
وبَحرٍ بَعِيدٍ …
وهَوَاء …
الهَوَاءُ مَبتُورٌ كَنَصٍّ عَن المَدِينَةِ
رَاكِدٌ كَمُستَنقَع …
خَانِقٌ كَقُنبُلةِ غَازٍ مُسِيلَةٍ للدُّمُوع …
وأنَا حَيثُ يَتَشَكَّلُ التَّعَبُ غُرفَةً شِبهً مُعتِمَةٍ
أوَاصِلُ صِنَاعَةَ أَجسَادٍ هَشَّةٍ
بَعِيداً عَن النَّافِذَة …
كَأَنَّه الخَوفُ مِن اهتِرَاءِ الذَّاكِرَة …
قَلَقٌ مِن نِهَايَاتٍ غَامِضَة …
ووَقتٍ مُرَاوِغ …
يَظهَرُ فِي العَتمَةِ
كَأشبَاحٍ تَختَطِفُ الأَجسَادَ مِن الحِكَايَات
وتَترُكُنِي وَحِيداً
أمَامَ جَسَدٍ بِلا مَلامِحَ فِي المِرآة …
ΠΠΠ
لَم يَعُد لِلوَقتِ مَلامِحَ مُطمَئِنَّة …
وَلَو كَانَ عَكسَ ذَلِك …
لَمَا قَبِلَ أَن يَتَسوَّلَ مَدِيحَاً مِن غُربَاءٍ عَابِرِين
فِي العُزلَةِ المُتخَمَةِ بالحُرُوبِ …
والمَقَابِر …
الوَقتُ جُندِيٌّ مَهزُومٌ
فِي حَربٍ خَاسِرَة …
يَجلِسُ قُبَالَةِ نَافِذَتِي كُلَّ يَومٍ
فِي انتِظَارِ أن تَمُدَّهُ عَربَةُ العَتمَةِ بِرَغيفِ خُبزٍ
عِندَ المَغِيبِ …
فَيَرحَلُ مُتعَثِّراً
بِوُرُودٍ مَيِّتَة …
ثُمَّ يَعودُ ثَانِيَةً فِي اليَومِ التَّالِي …
كَأَنَّ شَيئاً لَم يَحدُث …
وحِينَ غَابَ فِي سِيرَةِ اللاَّجِئِينَ
والغَرقَى …
تَركتُ بِدَايَةَ الصُّبحِ
لِبَقَايَا أَرقٍ …
ما زَالَ يُدَاهِمُنِي كَدَوِيِّ رَصَاصٍ
مُختَلِطاً بالصُّرَاخِ
وصَدَى ذِئَابٍ مُتوَحشَة …
ΠΠΠ
لَم تَعُد فِكرَةُ الضُّوءِ مَجَازاً مُقنِعاً
لِنَهارٍ يُوحِي بِجَدِيد …
أُحَاوِلُ التَّخَلُّصَ مِن أوهَامٍ التَصَقَت بِذَاكِرَتِي
كَبَرقٍ غَامِض …
ثُمَّ صَارَت مُدناً لَزِجَةً مِن سَرَابٍ
تُصَارِعُ عُزلتَها فِي حَيِّزٍ ضَيِّق …
أنَا الآنَ بِلَا وَقتٍ …
أجلِسُ وَحِيداً
في انتِظَارِ أن تَفرُغَ أُمِّي مِن إِعدَادِ العَشَاءِ
ثُمَّ أنَامُ مُشبَعاً بِرَائِحَةِ الطَّعَامِ
ومَذَاقِ الخُبز …
وَوَجهِ أُمِّي الذَّي يَضحَكُ مِن جُوعٍ طُفولِيٍّ
وشَبَع …
أنَامُ …
وأصحُو مُشبَعاً بِاللاَّ شَيء …
وقَد أُعِيدُ تِكرَارَ المَشهَدِ
بِإِصرَارٍ مُتَعَمَّدٍ …
علَّنِي أخرُجُ مِن بَينِ أصَابِعَ مُفتَّتَةِ …
نَحوَ جَسَدِي البَعِيد …
قَد لا يَبدُو الأَمرُ مُسَلِّياً
غَيرَ أنَّنِي أوَاصِلُ الانشِغَالَ بِمُسَمَّياتِ العُزلَة
فِي صَبَاحَاتٍ
لَم تَعُد صَالِحَةً لابتِكَارِ الدِّفءِ
فِي شُحوبِ خَريفٍ
تَهَاوَى عَلَى مقعَدِ الضَّجَرِ
كَقِطٍّ عَجُوز …
ليُصبِحَ جَسَداً يَابِساً
أشبَهَ بِتِمثَالٍ رَدِئٍ فِي مَتَاجِرِ بَيعِ التُّحَف …
ΠΠΠ
فِي العُزلَةِ يَتَوَهَّجُ الوَهمُ
كَضُوءٍ مُنبَعثٍ مِن لَمبَةٍ مُتَأرجِحَةٍ
فِي سَقفِ الغُرفَة …
يَخفتُ كَصَدَى حَربٍ …
يَلمَعُ كَأنيَابِ بَرقٍ
يَفرِدُ جَنَاحَيهِ كَغُرَابٍ عِملَاق …
يَعوِي كَذِئبٍ …
قَبلَ أَن يَفِرَّ إلى دَاخِلِ الجُدرَانِ
مَهزُوماً باللاَّ مُبَالاة …
أو مُنتَصِراً بِمزَاجِ حَربٍ
يُدَاهِمُنِي كَخَريفٍ بَارِد …
فَأفقِدُنِي كَجُثَّةٍ مَجهُولَةٍ فِي الصَّخَب
وقَد أجِدُنِي بِلا قَذَائِفٍ
أو دَوِي …
أتكَوَّرُ …
أفرِدُ قَامَتِي كَشَجَرَةِ سَروٍ فِي الذَّاكِرَة …
أدفَعُنِي نَحوَ البَحرِ
أقذِفُنِي كَحجَرِ نَردٍ
أترُكُنِي للمَاءِ …
أصنَعُ مِن تَعدُّدِي المُرتَبِك
فِي الحَيِّزِ الضَّيِّق …
يَابِسَةً
ومَنفَى …
وأنزف مَسَافَاتٍ مِن قَلَق …
كُلَّمَا دَقَّت سَاعَةُ المُنَبِّهِ فِي الصَّبَاحِ
كصُرَاخٌ مُلتَبِسٌ
يَشِي بِجَنَازَةٍ مُبكِّرَة …
أُحدِّقُ فِي اللاَّ شَيء …
المُمتَدِّ بَينَ الوَهمِ وانهِيَارِ الأمكِنَة
الصَّاخِبِ كَرَعدٍ
القَاتِمُ كَسَوَادِ لَيلٍ فِي المَقَابِر …
الصُّوَرُ مُفَكَّكَةٌ
كَمَا اللاَّ وَقت …
عَائِمَةٌ فِي فَرَاغٍ دَاكِن …
وكُلَّمَا حَاولتُ جَمعَ مَا تَبَقَّى مِن ذَاكِرَةٍ
فِي بَوحٍ خَفِيٍّ
يَختَفِي كُلُّ شَيءٍ فِي المِرآَة …
أَو …
يُصبِحُ رَماداً …
ΠΠΠ
بالأَمسِ رَأيتُ وَجهَ جُندِيٍّ
يَخرجُ من الجِدَارِ
بِلا مَلامِح …
يَطلُبُ مِنِّي التَّوَقُفَ أمَامَ الحَاجِزِ
وإبرَازَ بِطَاقَةِ الهُوِيَّة …
وفِيمَا كان مُنشَغِلاً باستِعرَاضِ رِيشِهِ المَعدَنِيِّ
كَطَاوُوسٍ مِن فُولَاذ …
كُنتُ أُنقِّبُ عَن صُوَرٍ مُمَاثِلَةٍ فِي ذَاكِرَتِي
مُطَوَّقَةً بِأسلَاكٍ شَائِكَةٍ
وجُنُود …
يُطفِئُون ضُوءَ نَهَارَاتٍ بَعِيدَةٍ
فِي الضَّبَاب …
العُزلَةُ تَصنَعُ حُروبَها فِي الكَوَابِيس …
وفِي وَقتٍ سَائِلٍ مِن الجُدرَانِ
كَبَقايَا جَسَد …
لا مَعنَى للفَوضَى
والضَّجِيج …
الشُّحُوبُ قِنَاعُ صَمتٍ …
مُدَجَّجٍ بِالغِيَاب …
وحَيثُ الخَرِيفُ
يَمتَزِجُ بِبَقَايَا أمكِنَةٍ نَاجِيَةٍ مِن الخَرَاب …
تَبدُو العُزلَةُ بِلاداً مُنهَكَةً
فِي مَجَازَاتِ حَرب …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى