البرفسور علي ثويني و ناصر أبو عون (وجها لوجه)
د. م. علي ثويني يقول:
المؤامرة على العمارة والثقافة الإسلامية نجدها في تيار ما بعد البنيوية
الماضي يعيش فينا باللاوعي وهو جزء من كياننا الوراثي، ولا يمكن نفيه إلا من طرف جاحد
تخطيط مسقط معماريا يقتضي الحفاظ على معطيات الطبيعية وشخصيا أفضل شق الأنفاق على إزالة الجبال
البروفسور د. علي ثويني باحث وأكاديمي عراقي مقيم في السويد، وخبير معماري في الترميم بمنظمة اليونسكو، وتابع دروسه في جامعات (بوخارست ،بودابست،وباريس،وستوكهولم)، ويعمل مستشارًا معماريًا، وعمرانيًا في مجموعة(أوبن بروجيكت) الإيطالية بمدينة بولونيا و(ACP) لندن، ومتواجد حاليا في المملكة العربية السعودية بصفته خبيرا لأستراتيجيا العمران والمحافظة على التراث العمراني في امانة الرياض ومشرف أكاديمي في جامعة الملك سعود.حصل على ماجستير الهندسة المعمارية وتخطيط المدن من جامعة بوخارست، ودرجة الدكتوراه في العمارة بأطروحة عن العمارة الإسلامية. ومن أهم إصداراته: (معجم عمارة الشعوب الإسلامية) بغداد 2006. وصدر له في بيروت كتاب (العمارة الإسلامية..سجالات في الحداثة2009). ومن بيروت أصدر كتابه (مبادئ التصميم المعماري2010)، ومن بغدادعام 2013أصدر كتابه المثير للجدل(الألسنة العراقية)، واعد كتاب (علي الوردي والمشروع العراقي) وصدر في بغداد بطبعتين 2008-2009. ثم أنجز كتابه (المعماري محمد صالح مكية..تحليل للسيرة والفكر والمنجز) بغداد 2012. وله تحت الطبع في بيت الحكمة ببغداد كتاب (المدينة والعمران..الإنشاء والارتقاء)، وهو من الأصدقاء المداومين على زيارة مدينة مسقط مما حدا بصديقنا المشترك الشاعر عبد الرزاق الربيعي أن يلخِّص عشقه لسلطنة عُمان بجملة واحدة: (علي ثويني قلبه في عُمان ورزقه في أماكن أخرى).. فإلى الحوار….
بعض خبراء التخطيط العمراني يرى في عمارة ما بعد الحداثة إساءةفي استخدام المفردات التراثية وتشويهها وجرأة غير معهودة من المعماريين الحداثويين في تغيير المقاييس والنسب..كيف تنظر للقضية من وجهة نظر خبير معماري وعمراني؟
لقد حلّت ما بعد الحداثة ضمن سياقات إبداعية متشعبة، فحواها الحنين للثقافات المحلية التي ألغتها الحداثة بصفاقة، وقد عمدها الغرب معمارياً ابتداء من العام 1960، ونسبها للمعمار الأمريكي ذو الجذور الإيطالية روبرت فنتوري(م: 1925)، بالرغم من أن ثمة دعوات في العودة للتراث في الثقافة العربية سبق ذلك ولاسيما معماريا، حينما دعا لها المصري حسن فتحي (1899-1989) والعراقي محمد صالح مكية (م: 1914)،منذ أربعينيات القرن المنصرم. وعلى العموم اشتهر بتيار مابعد الحداثة رهط عربي مثل العراقي رفعت الجادرجي والفلسطيني راسم بدران، والمصري عبدالباقي إبراهيم. وهكذا تصاعد تيار ما بعد الحداثة وأثمر في الثمانينات، وتشظَّى حينها الى خمسة ممارسات، نجد أن اثنين منها قد أسس وتصاعد وعاصر المشروع النهضوي العماني، لذا يمكن أن تصنف العمارة في مسقط والسلطنة عموما بأنها ما بعد حداثية، فهي لم تتعمق بالتراث ومعطياته وأدواته وعناصره البيئية، ومارست نوع من المعالجة الفنية والتقليد الشكلي للأشكال التراثية، فلو سبرنا كنه الحبكة التصميمية في تلك العمائر نجدها حداثية محضة تعتمد الفضاء المتضام وهيكل الأطر الخرساني، وبذلك لم تشطح بعيدا عن الحداثة المؤسسة، إلا من خلال ستارة منمقة ومرسومة بعناية أسدلت على الواجهات. وبالرغم من ذلك فإنه حل توفيقي وسطي، تسنى له كسب رضى الفريقين الحداثويين والتراثيين، وأعلن عن ذاتوية ولو أنها شكلية، لكنها مقبولة مقارنة بالمسخ للذاتية الثقافية الذي أعلنته الحداثة. بيد أنّ المؤامرة على العمارة والثقافة الإسلامية نجدها في تيار ما بعد البنيوية التي يدعى (التفكيكية Deconstruction) التي فيها من المثالب الشيء الكثير والشطح النائي عن الاسترسال التصاعدي، والنمو العضوي للثقافة، التي تحتاج الى إدراك عميق وصنع من حاجة ومخاض طبيعي لمولود حداثي، لذا فهي لم تضع بحسبانها مفردة التراث، وغايتها تقويض كل ما بني سابقا من أجل إبدالها بأشكال مبهرة وفنطازيه، لاتمت في كثير من شطحاتها للعقل.
هناك معارضة شديدة من المهتمين بالتراث العربي لموضوع (إعادة ترميم وتأهيل المدن العربية القديمة)، بينما هناك فريق آخر ينادي بضرورة (إعادة التأهيل والترميم)، ننجح في التوفيق بين وجهتي النظروالمحافظة عليها كإرث ثقافي وترميمها بشكل يلائم بين مكوناتها ومستجدات التطوير العمراني الحديثة؟
لا يمكن القيام بعملية ترميم حضري إلا على مبدأ موروث نجد مثاله عند النساجين الفطريين، حينما يروموا رفاء سجادة، فإنهم يربطون خيوطها القديمة مع الجديدة ويكون عملهم منسجم مع لحمة وسدة القديم واستمرار له،وخلافها فإن النسيج المرمم يقبع في عزلة وينحسر عن التداول، ويصبح رمز نصبي أكثر منه سياق معيشي. إن المبدأ العضوي بربط القديم والحديث، جدير أن يكون منهج لترميم المدن القديمة التي تجعلها جزء منسجم ومتماه مع التوسعات والتمدد الحضري،وليس متحفًا في جزيرة منعزلة، ولابد من توظيفها بما يضمن لها الديمومة في العيش من خلال إعطائها إطارًا وظيفيًا، عادة ما ينسجم مع النشاط السياحي والثقافي وكذا التراثي الحرفي، على أن لايكون ورش صناعية كما هو حاصل في مدن عتيدة مثل القاهرة ودمشق وبغداد. إن الماضي يعيش فينا باللاوعي، وهو جزء من كياننا الوراثي، ولا يمكن نفيه إلا من جاحد أو حاقد. لذا فإن المدن القديمة التي لا تشكل إلا منطقة محدودة المساحة مقارنة مع التوسع الذي شهدته المدن خلال الأزمنة الحديثة، مثل بغداد القديمة التي لا تشكل إلا 1\300 من مساحة المدينة اليوم ومساحتها لا تتعدى ثلاثة كيلومترات مربعة، وبذلك فإن ترميمها منهجيا، وتأهيلها مع انسيابية التوسعات موهبة و مهارة تحسب لصالح المخطط الحضري. ونجد أمثلة عالمية على ذلك، مثلما مدينة ستوكهولم التي أعيش بها منذ 24 عام، حيث إن المدينة القديمة (كاملا ستان) التي تقبع في جزيرة صغيرة، و تشكل بؤرة مفصلية وفاعلة في حراك التواصل بين شمال وجنوب المدينة، فالمدينة جرمية الطابع (satellite city) تنساب مع المعطيات التضاريسية والطبيعية (البحيرات والبحر والجبال) مثلما هي مدينة مسقط، التي تأخذ منحى انسيابي شريطي، يحتاج إلى المحافظة على معطيات الطبيعية فيها وعدم تعنيفها أو إلغائها، لصالح حركة السيارات، التي يمكن أن نجد لها حلولأ مثالية أخرى، وشخصيا أفضل شق الأنفاق على إزالة الجبال.
لقد حاول المصريون اقتفاء التجربة الفرعونية القديمة في تنفيذ مشاريع سياحية حديثة لكن التجربة فشلت بسبب ارتفاع التكلفة فهل ممكن أن تنجح هذه التجربة في سلطنة عمان؟ من خلال الاستفادة من معطيات العمارة المحلية القديمة في تنفيذ مشروعات سياحية تساهم في الحفاظ على الطابع العمراني المتنوع..
السياحة صناعة وتجارة وثقافة، ولا يمكن أن نخضع لسطوتها من أجل تكريس ذاتيتنا الثقافية، فحينما نجسد ذلك، يعني أننا اجتذبنا الآخر بسبب خصوصيتنا ،ليزور ويطلع ويتمتع، وليس تحضير لما يعجبه، والسير على هدى ذوقه من أجل أن يرضى ويأتي. والسياحة أنواع وليست واحدة، فثمة ما يناسبنا في السلطنة مثل السياحة البيئية والثقافية والطبيعية، أكثر من الأنواع الأخرى كالتأريخية والترفيهية والدينية مثلا. وهذا يحتاج الى تخطيط استقرائي، أي على المستوى الوطني والولائي، ثم المناطقي، يرافقها تسهيلات وخدمات وترويج. وهذا يعني أن بيت الطين في بهلة، لو أحسن تهيئته وتهذيبه، لهو أحسن للسائح من أن يجد فندق فئة “خمسة نجوم” بخدمات معيارية عالمية. وساحل نظيف وهادئ وماء أزرق صاف ودافئ،أهم من مسبح داخل باحة فندق باذخ. وهكذا، لابد من التمييز بين الرغبات وتصنيفها ودراسة الجدوى لها. وأجزم في ذلك ان السلطنة يمكن أن تكون من أكثر الدول جذباً للسياح، بما حباها الله من تنوع بيئي وجمال طبيعي وموقع مفصلي وأرض بكر، والأهم من كل ذلك شعب وديع ومسالم وأخلاقي وكفء ومدرك لمكامن الجمال بفطرة الخزين التراثي، وسيكون سبباً حقيقياً في جذب الجموع، سواء من الأجانب أو المسلمين أو العرب.
أما بصدد إحياء أشكال معمارية بعينها من أجل جذب سياحي كما في العمارة الفرعونية أو النوبية في مصر، فهو امر يتعلق بطبيعة السياحة والسائح، وليس هو الجوهر، كونه شكل وليس محتوى، يتعلق بعملية متراكبة لجذب السائح، الذي عادة ما يبحث عن الأمان والجمال والدرس والذكرى، وممارسة الهوايات. وفي الجانب المعماري فإن إحياء عمائر قديمة بحذافيرها لا يجدي في تطوير ملكات العمارة، وهو مكوث في التاريخ، كونها لغة زمانها، ولكل زمان لغة وعقلية وحلول بحسب المعطيات والوسائل المتاحة. وهكذا كان حمى إحياء الطرز الكلاسيكية في الغرب في القرن التاسع عشر كاليوناني والروماني والقوطي وحتى الفرعوني والبابلي، نزوة وتجريب سرعان ما أفل، كونه لم يستجد جديد، بل قلد ومكث رهين التأريخ. وشخصيا أحبذ ان نطور المفاهيم من مضامينها المعمارية وليس محاكاة لأشكالها.
ما جدوى عرضنا للتجارب العالمية في الحفاظ على التراث المعماري حيث هناك قناعة لدى بعض المعماريين تؤكد أن المدن المصطنعة تنقصها بعض المكونات الأساسية في مقارنتها بالمدن القديمة ويرى البعض أن محاولات خلق المدن بطريقة اصطناعية من وجهة نظرإنسانيةغير ناجحةعلى الإطلاق..
يمكن أن يكون التنظير المعماري من المستجدات التدوينية في ثقافات العالم، ولدينا بعض المساهمات في التراث العربي وحتى قبله،والذي لم تسبر أغواره، بعد أن ملئ مخازن المتاحف الشرقية والغربية منذ قرن ونصف أي بعد ما دعي (حقبة الأنوار)،بالرغم من أن(المركزية الغربية) تدعي أن ريادته تعود إلى الروماني ماركو فيتروفيوس (80/70 ق.م – 23 م). ضمن سياقات الانحياز المفضوح. لذا فإن التنظير عموماً يشكل ذاكرة ومنهج للتجارب التطبيقية، وإذا لم يجد طريقه للتجسيد فإنه عقيم ، حتى أن الخبرة نفسها تتراكب بين التجربة النظرية والعملية،وهكذا فإن الاطلاع على التجارب العالمية يمكن أن يخدم مشروع الارتقاء بالخبرة العملية والوعي بقيمة التراث ، علما أن العالم كله اليوم مهتم بالأمر، ولاسيما منظمة اليونسكو التي بدأت تسبغ عليه الحماية وتدعوا إليه وتصنفه إلى مادي ولامادي لتشعب حيثياته. فالتراث المعماري يقع في صلبه كونه يشكل المنتج المادي للثقافة العاكس للبيئات الروحية والإجتماعية و الطبيعية،والشاخص الشاهد الماكث من السلف للخلف. و لا يزال التراث ماضي الأثر في مسلكنا ومعتقداتنا وأسلوب معيشتنا ونظرتنا إلى الحياة، بما يجعل سبر أغواره ودراسته وتصنيفه وتحليله وتوثيقه والاستعانة به وتنميته وتبنيه والبناء على سام معطياته، هي من سمات الوعي لما يبرزه من ملامح وخصائص الأصالة والديمومة، كونه الوعاء الحافظ لقيم كل أمة، وما يميزها عن سواها ويجسد عراقتها، ويسطر تاريخها، ويحفظ هويتها.
لذا فإن تأطير حركة التنظير للتراث من خلال نقل التجارب العالمية وتمحيصها يصب في صالح مشروع الارتقاء الذاتي المرتجى، على أن يعاضده وعي وحركة نقديه تبين نقاط الهزال وتستطلع مفاصل القوة من أجل إنضاج التجربة الذاتية دون تكرار أخطاء الآخرين، والأهم اقتباس أحسنها وموائمتها مع ذاتيتنا الثقافية،فلايمكن أن تكون مسقط مثل بانكوك مثلا، رغم الإهتمام المشترك بالسياحة . وذلك الحراك و النقلة المرهفة يحتاج الى وعي وإطلاع مقارن وحس عال وحمية وثقة بالنفس، هي صلب ما نتمناه، فبئس دراستنا لتجارب الآخرين إذا كنا مقلدين لها وناقلين لحذافيرها، فعمق اطلاعنا ووعينا يستدل عليه من خلال نجاح موائمتنا شطط التجارب مع ذاتيتنا الثقافية.