ما الفرق بين (إن) و (ما) في النفي ؟
ماجد الدجاني |فلسطين
التعبير القرآني قد خالف في الاستعمال بين أداتي النفي بـ(ما)، و(إِنْ) ، فعدل في الأسلوب عن (ما) إلى (إنْ) في كثير من الآيات كثيرًا. وقد ذكر النحاة أنَّ (إنْ) (حرف نفي يدخل على الجملة الفعلية والاسمية؛ نحو قوله تعالى:﴿وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[التوبة: 107]. أي: ما أردنا إلا الحسنى. وقال مجاهد:« كل شيء في القرآن (إنْ) فهو إنكار». وقال الراغب (في (إنْ) هذه: « وأكثر ما يجيء يتعقبه (إلا)؛ نحو :﴿إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً ﴾[الجاثية: 32] . و:﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾[المدثر: 25]. و:﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّاعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾[هود: 54] ». وكذلك الحال مع حرف النفي (ما)، فهو يدخل على الجملة الفعلية والاسمية .
ويذكر النحاة أن (إنْ) بمنزلة (ما) في نفي الحال:« و(إنْ) تكاد تطابق (ما) في وظيفتها، وأكثر وقوعها قبل (إلا) للجناس بينهما ؛ نحو :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ﴾[يوسف: 40] » .
والحقيقة أن التعبير القرآني قد فرق بينهما في الاستعمال، من خلال ما نلحظه من المخالفة بينهما ، والعدول عن حرف إلى آخر منهما. الاستعمال القرآني فالنفي بـ(إن) آكد من (ما يدل على ذلك- اقترانها الكثير بـ(إلا) . وهذا ما يعطيها قوة وتأكيدًا ؛ فإن في القصر قوة ؛ وذلك نحو قوله تعالى:﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾[إبراهيم: 10]. وقوله تعالى:﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾[الإسراء: 44] .
وما ) قد تأتي مقترنة بـ(إلا) ؛ ولكن هذا ليس هو الغالب في استعمالها، في حين أن (إنْ) النافية غالب في استعمالها اقترانها بـ(إلا)، والقصر بـ(إلا) يرد للتأكيد؛ وذلك يوحي بقوتها في التأكيد أكثر من (ما).
ومن خلال السياقات القرآنية التي وردت فيها (إن) النافية ، نجد أن النفي بها آكد وأقوى . وهذا يفسر لنا دلالة المخالفة في السياقات القرآنية التي ورد فيها العدول عن (ما) إلى (إن)؛ نحو قوله تعالى على لسان النسوة :﴿مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾[يوسف: 31] . فقد جاء النفي ابتداء بـ(ما)، فقال :﴿مَا هَـذَا بَشَراً﴾، ثم عدل عنه إلى النفي بـ(إن)، فقال :﴿إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾. ولم يطرد السياق على نمط واحد من النفي فيكون ما هذا بشرًا ، ما هذا إلا ملك كريم)؛ وذلك لأن نفي البشرية عنه أهون من إثبات وصف الملائكية له، فأتى بـ(إنْ) فيما هو آكد؛ إمعانًا في تأكيد صفة الملائكية له في الحسن والهيئة، ونفي ما سواها عنه؛ إذ القصر بـ(إلا) يفيد دلالتي النفي، والإثبات معًا(37)، فقد أثبت له صفة الملائكية، ونفى عنه ما دونها .
ومنه قولـه تعالى :﴿قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ﴾[يس: 15]. فأتى بحرف النفي (ما) ابتداء، فقال:﴿مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا.. وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن ﴾، ثم عدل بعد ذلك إلى (إن)، فقال :﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ﴾. ولو جرى السياق على نسق واحد لكان وما أنتم إلا تكذبون). ويرجع هذا إلى أن « نفي الثاني أقوى، فجاء به بـ(إنْ)، فإن الأول إثبات البشرية، والثاني الكذب، وهم بشر لا شك في ذلك، فجاء به بـ(ما)، والثّاني إثبات الكذب للرسل -عليهم السلام- وإنكار أن يكونوا صادقين، وهو يحتاج إلى توكيد أكثر فجاء به بـ(إنْ).
وهذا الأمر يطرد في التعبير القرآني ، فحيثما وجد النفي بـ(إن) ، فهو آكد من النفي بـ(ما). ومن ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾[الجاثية: 24]. فقد اطرد النفي بـ(ما) في السياق كله؛ إلا قوله:﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾، فقال:﴿مَا هِيَ.. وَمَا يُهْلِكُنَا.. وَمَا لَهُم بِذَلِكَ.. إِنْ هُمْ﴾. وسبب هذا العدول إلى (إن) النافية هنا: أن هذا التعقيب هو رد من المولى عزوجل على كلامهم السابق، فناسب ذلك الإمعان في التأكيد على مرحلتين: الأولى: بالنفي بـ(ما)، في قوله :﴿وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾، بدليل مجيء (من) للتأكيد في قوله: ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾، فأفادت نفي وجود أي شيء لهم من العلم، ثم ارتقى التأكيد بالنفي- في المرحلة الثانية- إلى مستوى أعلى من سابقه، فقال:﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾، فكانت (إن) هنا أنسب في التأكيد من (ما).
وهو ما يظهر لنا جليًّا أيضًا في خطاب نبي الله شعيب- عليه السلام- لقومه بقوله: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود: 88]. فعدل في النفي عن (ما) إلى (إن) ، فقال :﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ﴾، ولم يقل وما أريد إلا الإصلاح)، فيطرد النفي بـ(ما)؛ لأن نبرة التأكيد قد ارتفعت لدى نبي الله شعيب عليه السلام، فأمعن في التأكيد لقومه المكذبين له بقوله :﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ﴾، مؤكدًا بذلك هدفه من رسالته ودعوته.
ويستوقفنا في هذا المقام قول المولى عزوجل مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ^ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾[فاطر: 22- 23] . فلم يطرد النفي بـ(ما)، فيكون وما أنت إلا نذير)؛ كما قال:﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾ ؛ وذلك لأن النفي في الأولى :﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾، أمر مسلم به، فلا يحتاج إلى مزيد تأكيد . فإسماع الموتى أمر مستحيل تصوره وحصوله، سواء أكانوا موتى القلوب، أم موتى الأجساد؛ لكنه عدل بعد ذلك إلى (إن)، فقال :﴿إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾؛ لأن المولى عزوجل أراد في هذا السياق الإمعان في التأكيد لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه نذير فحسب، ولا يملك القدرة على هداية قلوب الخلق ؛ وإنما وظيفته الإنذار .
والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه نذير، فما دلالة التأكيد بالقصر في هذا السياق ؟ والجواب :« أنهُ نزّل الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة من يعتقد أنه يملك مع صفة الإنذار القدرة على هداية الناس ؛ لأنه لما كان جاهدًا في دعوة القوم، شديد الحرص على هدايتهم، صار في حكم من يظن أنه يملك مع صفة الإنذار صفة الهداية، فجرى الأسلوب كما يجري في خطاب الشك فقيل :﴿إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾