حديث الغريب.. أصداء الرحلة (8)

سوسن صالحة أحمد | سورية – كندا

أخبرتك أني كنتُ أسكن في منطقة تُدعى جديدة عرطوز الجديدة منطقة مشطورة بشارع رئيسي عريض، هو شارع سفر بين دمشق وجنوبها، من دمشق تصادفك منطقة المزة وبعدها السومرية ثم المعضمية ثم الجديدة المقسومة بالشارع إلى جديدة الفضل وقد كانت إلى يمين الطريق وجديدة عرطوز وكانت على يساره، ومن ثم منطقة عرطوز وخان الشيح والدروشة فمدينة قطنا ثم القنيطرة ( المحررة).
كل هذه المناطق كان لها نصيب من الوجع بشكل من أشكاله، لكن سأحدثك عن بعض ما حصل في جديدة عرطوز والفضل.
البدايات في جديدة عرطوز حين تكرر خروج بعض سكانها في مظاهرات تطالب بإسقاط النظام كما حصل في درعا وحمص من قبل، هي أيام فقط ليأتي الجيش ويقضي عليها قضاء تاماً، عمَّ السواد والحزن المنطقة بعد مقتل حوالي مائة وخمسين رجلاً بطرق مختلفة من بينها الحرق لمن لم يستجب ويخرج من بيته إلى حتفه برجليه.
بعدها أحكم الجيش قبضته على جديدة عرطوز ولم تعد تتكرر فيها المظاهرات.
كان هذا بعد أن فجر عناصر من الجيش الحر مخفر جديدة عرطوز وموت أغلب عناصره، الناس في بيوتها وأصوات الرصاص في الشارع، الرصاص الذي كنا نلم فوارغه في حديقة بيتنا، حال من الريبة كان يستمر مع كل عاصفة جنون لأخوة يتقاتلون ويذبحون بعضهم دون أدنى بادرة لتعقل تحفظ ماء الوجه لمعنى إنسان أو توفر الدم للحياة لا للموت، يوم تفجير المخفر، كانت جثث عناصره قد طارت في الهواء وتمددت على الرصيف، وشاهدها ابني وابنتي، مشهدا زاد من تعبهما الذي ابتدأ منذ أول يوم مُنِعَ فيه التجوال وصار عنصر الأمن تدور في طرقات بلدتنا الصغيرة، منذ أول دبابة وُضِعّت في طريق عام وحاجز أمني وقف في شارع، منذ أول طريق فرعية سُدَّت وأطالت الوصول، منذ أول عنصر جيش أو أمن حمل بندقية وصار حاكم الشارع والزقاق والحارة، منذ أول مشهد لعسكرة البلد، سوريا جميعها أضحت ثكنة عسكرية، ساحة حرب موقوتة، وكل أهلها تحت هذا الحكم,
يوم دخول الجيش إلى بلدتنا جديدة عرطوز، وفي السادسة صباحا, طُرِقَ باب البيت بطريقة غريبة، مستعجِلة، ربما ببساطيرهم أو بمقابض بنادقهم، عناصر من الجيش كانوا ستة، أفقنا من نومنا مرعوبين من الصوت، فتح زوجي الباب ليدخلوا ويفتشوا البيت شبرا شبرا، لم يتركوا خرم إبرة لم يفتشوا فيه، فيما بعد حين علمنا بالأحداث عرفنا أنهم كانوا يفتشون عن عناصر من الجيش الحر، حين دخلوا أول سؤال وجهوه لي:” شو عندك شباب؟”..
وقع قلبي، خفت على وحيدي، وحيدي الذي تربى بين ثلاث بنات، ذو القلب الرهيف الذي لا يقوى على قتل بعوضة، كان في السنة الأولى في الجامعة، ومنذ أول الأحداث كان تعبه يزيد يوماً بعد يوم، وأصابه اكتئاب حاد بسبب تلك المشاهد التي كان يراها في الشوارع، كان ينافي إنسانه مشهد البنادق في أيدي حامليها، ومشاهد العسكرة والحرب الموقوتة التي لا تبشر إلا بالموت، حين رأوا ابني سألوه عن عمره تركوه فقط حين تأكدوا من دفتر العائلة أنه وحيد، والوحيد ليس عليه خدمة إلزامية.
تلك لم تكن المرة الوحيدة التي يفتش فيها عناصر من الجيش البيوت، تكررت هذه القصة كثيراً، وفي كل مرة كان ينقلب البيت رأسا على عقب، إنه التعب الذي ليس بيدك أن تنهيه، والحزن الذي لا فكاك لك منه، والنعي الذي مهما بكيته يبقى نعشه بين يديك.
هكذا تضيع البلاد، ويخرج عن أطوارهم العباد، ويحير ذو الحلم، ويتشتت صاحب الرأي.
ما يغص به القلب أنها حرب بين أهل البلد، وليست مع عدو يحاول خرق الحدود، ولا عزاء، فالكل له وجهة نظر، وكثيرون سحبهم التيار، أما الذين كانوا يتعقلون ولا يوافقون على أفعال أي من طرفي النزاع فقد أُطلِقَ عليهم اسم الرماديون، وقد كنتُ منهم.

صديقي العابر للعمر

سوسن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى