قراءة نقدية في قصيدة ( سقط الوشاح ) للشاعر أنس وليد الحجار

أيمن محمد لاشين | شاعر وناقد

أولا – نص القصيدة كاملا

سَـقَطَ الـوِشاحُ وأشـرقَ العُنُقُ

                     والـشَّـعـرُ قُـــرْبَ الــخَـدِّ يَـأتـلِـقُ

خُـصُـلاتُهُ غَـازَلـنَ بـي شَـغَفي

                      كـالـفَـجْرِ قَــبَّـلَ أفـقَـهُ الـشَّـفَقُ

خَــدّانِ مِــنْ وَجَــلٍ ومِـنْ خَـجَلٍ

                       وعـلـى الـرّمـوشِ تـمدّدَ الـقَلَقُ

قُــبُـلاتُ ثَــغْـري حَـــرْفُ قـافـيـةٍ

                      تَــهــذي وحُــمْــرَةُ خَــدِّهـا وَرَقُ

لُـقـيـا الـشِّـفـاهِ بِـصَـمْـتِها لُــغَـةٌ

                     و ألَــــذُّ صَــــوتٍ حــيـنَ تَـفْـتَـرِقُ

وعـلـى ضِـفافِ الـجيدِ تُـوقِفُني

                      نَــفَـحـاتُ عِــطْـرٍ بَـثَّـهـا الـحَـبَـقُ

فَـتُـمـيـتُني حــيـنـًا و تَـبْـعَـثُـني

                      حَـــيًّــا بِـــنــارِ الــلـثْـمِ أحــتَــرِقُ

وأنـامِـلـي تَـغْـفـو عــلـى كَـتِـفٍ

                      وبِـرِعـشـتـي قــــد أيــنـعَ الأرَقُ

وتَـحـالَفَ الـوَقْتُ الـبَخيلُ مَـعي

                    وأنــــا بِــعَـهْـدِ الــوَقْــتِ لا أثِـــقُ

تَحْتَ الرّداءِ أَضَعْتُ سَمْتَ يدي

                     وتَـنـاهَـبَـتْ وِجْــهـاتِـهِ الــطُّــرُقُ

وعـلـى تُـخُـومِ الـصَّدْرِ أرْهَـقَني

                     سِــــرٌّ تَــخَـبَّـأ خَـلْـفَـهُ الـشَّـبَـقُ

فَـوَجَدْتُني كـالطِّفْلِ أرشُفُ مِنْ

                       نَـهْـدَينِ يَـسْـكُنُ فـيـهما الـنَّزَقُ

قَـسَماً بِـدِفءِ الـنَّهْدِ يا شَفَتي

                      يَـشـتاقُ بَـعْـضَ جُـنُونِكِ الـعُنُقُ

 

لأن هذا النص لافت ، ولأنه يحمل الكثير من دواعي الإبحار ، بل ربما علت أمواجه لتلتقف من وقف مبهورًا على الشاطئ ، فسوف أبحر فيه على على قرار منه ، غير متنصل من مسئوليتي عما أقول ، فلئن انتشلني فلكي أبحر صامتًا ، ولئن نطقت بما أرى ، فلكي أعبر عن تصوري الشخصي غير مدع بأن البحر ( النص ) لا يحتمل أكثر مما قيل . ليس دوري في إبحاري أن أعلن انبهاري بلآلئ الصور التي فاضت بها القصيدة فأنت تراها وتقيمها ، وهل سنختلف على شيء من هذا :

قُــبُـلاتُ ثَــغْـري حَـــرْفُ قـافـيـةٍ

                   تَــهــذي وحُــمْــرَةُ خَــدِّهـا وَرَقُ !

أم ترانا سنتختلف على نحو هذا :

لُـقـيـا الـشِّـفـاهِ بِـصَـمْـتِها لُــغَـةٌ

                 و ألَــــذُّ صَــــوتٍ حــيـنَ تَـفْـتَـرِقُ !

أم على هذا :

تَحْتَ الرّداءِ أَضَعْتُ سَمْتَ يدي

                     وتَـنـاهَـبَـتْ وِجْــهـاتِـهِ الــطُّــرُقُ !

أبدًا لن نختلف حول براعة الشاعر في تصوير الموقف ، ولا حول اعتماده على الصورة قبل كل شيء في تعبيره وسرده وبوحه ، ولا حول ما جاء جديدًا من الصور ، لا سيما تلك الصورة التي في بيته ” تحت الرداء … ” ، وتلك التي في بيت الختام .

باختصار ، لست أتناول القصيدة لتناول الصور فيها ، فهي تتكلم عن ذاتها بحضورها الطاغي .

وإنما أردت أن أشير إلى بعض مظاهر الإبداع على هامش ما أرمي إليه من محاولة توصيف الجو النفسي للقصيدة .

* فمما أثار انتباهي وإعجابي تذييل هذا الصدر بذلك العجز :

وتَـحـالَفَ الـوَقْتُ الـبَخيلُ مَـعي

                      وأنــــا بِــعَـهْـدِ الــوَقْــتِ لا أثِـــقُ

أجل فما كان أحوج هذا الصدر بهذا العجز ! وما أروع تمكين المعنى على هذه الطريقة ! ومن ذا الذي يثق بعهد الوقت الذي صدق الشاعر في وصفه ، وخصوصًا في حضرة الجمال وفي حضور اللذة !

* لفت انتباهي قوله :

خَــدّانِ مِــنْ وَجَــلٍ ومِـنْ خَـجَلٍ

حيث ورد عنده الجناس الناقص بين ” وجل ” و ” خجل ” .

وقوله :

فَـتُـمـيـتُني حــيـنـاً و تَـبْـعَـثُـني

                  حَـــيّــاً بِـــنــارِ الــلـثْـمِ أحــتَــرِقُ

حيث أرى الجناس الناقص أيضًا بين ” حينًا ” و ” حيًّا ” ، وهذا أكثر حفاءً من سابقه . وأنا ممن يفضلون الجناس الناقص على الجناس التام ، لأنه أقرب إلى التلقائية من التام ، ولكنني كغيري لا أتهم الجناس التام بالتكلف إلا إذا زاد عن الحد .

* وعلى الطريقة ذاتها في استعمال المحسنات بشكل تلقائي ، نجد الطباق بين ” تغفو ” و ” الأرق ” في قوله :

وأنـامِـلـي تَـغْـفـو عــلـى كَـتِـفٍ

                         وبِـرِعـشـتـي قــــد أيــنـعَ الأرَقُ

وهذا النوع من الطباق ( الذي وقع بين فعل واسم ) أقل مباشرة من الذي يأتي بين اسمين أو الذي يأتي بين فعلين .

كل هذا أقوله على الهامش ، ولكن قبل أن أدخل إلى صلب الموضوع أسجل توقفي في قوله ( لقيَا الشفاه ) ؛ إذ لم أجد حتى الآن في معجم يمكنني الوثوق به كلمة ( اللقيا ) بمعنى ( اللقاء ) رغم جريانها على الألسنة .

** والآن أحاول الإبحار في الجو النفسي للقصيدة:

عندما يبدأ الشاعر أبياته بفكرة ما ، أو حدث ما ، أو موضوع ما ، ويختم قصيدته بما ابتدأ به ، فليكن معلومًا أن الشاعر أعلن أنه أراد الوضوح واختصار المسافات بينه وبين القارئ ، بل أراد أن يعلن عن انفعاله بأقصى ما يمكنه من إفصاح ، وإلا لما اختار أن يعود بنا إلى حيث بدأ ، ليؤكد مدي إلحاح ما بدأ به على وجدانه .

ولكنه على كل حالٍ ليس مطالبًا بتبرير هذا الانفعال ، ولا يجدر به أن يفعل ، دعونا إذن نحاول اكتشاف هذا السر ، ما سر هذا ” العنق ” الذي استهل به الشاعر ، وبه ختم ؟ وما سر هذا الإلحاح الذي مارسه على الشاعر ؟

هل اتخذ الشاعر – بقصد أو بدون قصد – من العنق رمزًا شديد الخصوصية يحجب وراءه ما لا يؤثر الإفصاح عنه ؟ هذا مستبعد لأن الشاعر يؤثر الإفصاح والبوح ، ولم يدخر وسعًا في الاسترسال والإفضاء بما ألهب وجدانه .

هل فرض العنق نفسه رمزًا لذلك الجسر الذي يُعبر عليه من جمال الوجه الوضاء إلى مفاتن الجسد الشهية ؟ لا أجزم بهذا ولا أستبعد ، لا أجزم لأن المشاعر والانفعالات وإن كانت واضحة جدًّا لا يمكن أن تصل إلى حد تمام الوضوح بكل تفاصيله ، وبكل أبعاده ، وبكل تاريخه ، ولا حتى لدى الشاعر نفسه ، ولا أستبعد لأن القصيدة فيها من العذرية ما فيها ، وفيها من الجنوح إلى اللذة ما فيها ، رغم رجوح كفة أحد الاتجاهين على حساب كفة الآخر كما سيأتي لاحقًا .

إذن هل يكون هذا الإلحاح مصدره نوع من العرفان ؟ أوليست اللحظة الفارقة التي أثارت قريحة الشاعر واستفزتها هي لحظة سقوط الوشاح عن هذا العنق ؟ أليس هذا كافيًا بأن يملأ وجدان الشاعر عرفانًا لهذا العنق الذي صدمه الصدمة الأولى ليهيم مستكشفًا هذا الجمال بكل تفاصيله ؟ اسمح لي شاعرنا أن أرجح أن هذا هو السبب المباشر الذي دعاك أن تنتهي إلى النقطة التي ابتدأت منها !

* ثم إن الشاعر الذي أبحر في جمال معشوقته هائمًا لاثمًا عابثًا معربدًا ، سرعان ما عاد إلى عذريته في بيت الختام وكأنه أبى إلا أن تكون عذريته هي نهاية المطاف ، معلنًا أنه دُفع به دفعًا إلى الجنوح من جراء التقائه الجمال الباهر ، هكذا فجاءة ، ووجهًا لوجه ؛ ومن ذا الذي يملك حينئذٍ من أمره شيئًا !

شاعرنا قال:

تَحْتَ الرّداءِ أَضَعْتُ سَمْتَ يدي

                     وتَـنـاهَـبَـتْ وِجْــهـاتِـهِ الــطُّــرُقُ

وقال :

وعـلـى تُـخُـومِ الـصَّدْرِ أرْهَـقَني

                      سِــــرٌّ تَــخَـبَّـأ خَـلْـفَـهُ الـشَّـبَـقُ

فَـوَجَدْتُني كـالطِّفْلِ أرشُفُ مِنْ

                       نَـهْـدَينِ يَـسْـكُنُ فـيـهما الـنَّزَقُ

غير أنني أرى قصيدته عذرية ، بل شديدة العذرية ( في مجملها ) ، لأنه هو من آثر أن ينهي قصيدته على هذا النحو :

قَـسَماً بِـدِفِء الـنَّهْدِ يا شَفَتي

                      يَـشـتاقُ بَـعْـضَ جُـنُونِكِ الـعُنُقُ

ولأنه حتى في صولاته الجانحة ما زال ” كالطفل ” كما عبر هو ، ولأن قوله ” أَضَعْتُ سَمْتَ يدي ” يشي بنوع من التعقل ، لا باستمراء اللذة .

 وأخيرًا ، فإنني حين أنسب هذه القصيدة إلى العذرية في إطارها العام برغم ما تخللها من جنوح ، إنما أنسبها إلى هذا اللون معتمدًا على مجموع ما رأيت من مطلعها مرورًا بمسيرتها وصولًا إلى ختامها ، وعلى دلالات بعض الألفاظ والتراكيب التي أشرت إليها الآن ، ولم أقصد دفع اتهام ليس باتهمام عندي وعند كل من يعون طبيعة التعبير الشعري وهدفه الذي يرمي إليه ، فالتغزل الصريح ( ضد العذرية ) ليس بتهمة تدفع ، والشاعر الذي يكتب في هذا الغرض إنما يعبر عن انفعالاته وينقلها كما هي ، لا كما ينبغي أن تكون وفق أطر من الأعراف والتقاليد ، فضلًا عن انعدام الحاجز الفاصل بين الانفعال النوراني بالجمال والانفعال الجامح ، لأننا بشر أولًا ، ولأن انفعالاتنا وخبراتنا مركبة وأحيانًا متناقضة ، ثم لأن انفعال الشاعر بالجمال انفعال جنوني ، جنوني بمعنى الكلمة !

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى