صورة العراقي المهمَّش في السينما العراقية 

عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة (أوروك) العراقية


كانت صورة العراقي في السينما العراقية منذ انطلاقها بأول فلمٍ قبل أكثر من سبعين سنة في الغالب صورة الهامشي،والضحية، وفي أحسن الأحوال يكون دوره ثانوياً ! 
يقول المخرج السينمائي محمّد الدراجي  في تصريحٍ إلى وكالة أنباء (شينخوا) بتاريخ ٢٠١٩/١/١٩ م : (إنَّ العراقيين كانوا ، وما زالوا ضحايا نكباتٍ عديدة ، ومن خلال أفلامي أطمح لأصوّر الفرد العراقي كضحيةٍ ينهض، ليصبح بطلاً) . 


لكنَّ الدراجي  المخرج المجتهد ، الخارج من رحم المحنة العراقية ، كان العراقي في كل أفلامه يظهر كضحيةٍ  لا حول له ، ولا قوة ، كما في أفلام : (أحلام / ٢٠٠٥ م) ، و(ابن بابل /٢٠١٠  م) ، و (تحت رمال بابل/ ٢٠١٣ م) ، و(الرحلة / ٢٠١٧ م) !! 
لقد بدأت السينما عندنا بجهودٍ فرديةٍ ومشاريع صغيرة، حتى إذا خسر صاحب المشروع ثروة عمره ، جاء غيره ليبدأ من الصفر كذلك. 
تكررت هذه البدايات حتى عدنا إلى الصفر في المحصلة النهائية ! 
بدأت السينما عندنا بفلم (عليا وعصام)  المنتج سنة ١٩٤٨ م للمخرج الفرنسي أندريه شاتان ، وقيل: إنَّ الفلم جاء متأثراً بفلم (عنتر وعبلة)  المنتج ١٩٤٥ م لنيازي مصطفى ، وليتأمل القارىء مجموعةً من المفارقات :ففلم (عليا وعصام)  أُنتج تأثراً بالفلم المصري (عنتر وعبلة)  أما قصة الفلم فهي مأخوذةٌ من مسرحية (روميو وجوليت)  بعد تعريقها ، وجعلها  بلهجةٍ بدويةٍ ! أما كادر الإخراج والتصوير فهو فرنسي ! 
لقد بدأت صناعة الأفلام العراقية متأثرةً بأجواء السينما المصرية، والسينما الهندية لكنَّ المعالجات كانت ساذجةً للغاية. كانت السلطة المسؤولة عن السينما تفرض أفكارها الخيالية على العاملين في الشأن السينمائي ، ومن ذلك أنَّه لا يوجد بطلٌ في السينما العراقية ، فالبطولة جماعية، ونتج عن ذلك  استخدام كلمة (تمثيل) بدلاً من كلمة (بطولة)! 
لم يقتصر تهميش العراقي في السينما على حقلٍ معينٍ بل امتد ليشمل حقولاً أخرى، فعلى الصعيد المضموني كان يجب أن تظهر الإيجابيات فقط برغم أن الدراما صراع بين الخير، والشر، وأن الطقس بعد (الثورة) أفضل من الطقس قبلها ! 
العراقي وفي ظل سلطة البعث مغيَّب وهامشي ويرى كل شيءٍ، ولا يستطيع الانتفاع بشيءٍ إلا بموافقة السلطة الغاشمة. 


حضرتُ بعد حرب الخليج الثانية سنة ١٩٩١م ندوةً في أسبوع الفلم العراقي على مسرح الرشيد ببغداد حول فيلم (حب في بغداد) المنتج سنة ١٩٨٧ م للمخرج عبد الهادي الراوي الذي كان  صريحاً فقد قال: إنَّ الرقابة رفضت أن يصوَّر الفيلم في كوخٍ جميلٍ ؛ لأنَّ العراقي لا يسكن بعد (الثورة)  في كوخٍ ! فلما قال لهم الراوي: إنَّ الحدث يجري قبل الثورة ردوا عليه: إنَّنا يجب أن نُظهر العراقي بصورةٍ جيدةٍ حتى قبل الثورة !! 
أضاف الراوي: مع العلم  أنَّ العراقي يسكن في أماكن أسوأ من الكوخ ! 
إنَّ قصص الحب في كل المجتمعات تنتهي قلةٌ منها بالزواج لكنَّ العراقي المحب يجب أن تنتهي قصة حبه بالزواج! 
والمجرم  في كثيرٍ من الأحيان  يفلت من العقاب لكنَّه في السينما العراقية يجب أن ينال جزاءه ! 
لقد أثار فلم (الظامئون)  المنتج سنة ١٩٧٢ م للمخرج محمد شكري جميل حفيظة الرقيب ؛ لأنَّه تناول الظمأ بمعناه الحقيقي ، والمجازي لكنَّ الرقيب يعترض بتساؤله الساذج : كيف يظمأ العراقي ، وعنده نهران ؟ 
في فلم ( المسألة الكبرى) المنتج سنة ١٩٨٣م  لمحمَّد شكري جميل، تزييفٌ مقصودٌ للأبطال الحقيقيين لثورة العشرين، وإظهار الثوار كقتلةٍ، وقطاعٍ طرق ، وكان نصف الفلم ـ تقريباً ـ باللغة الانجليزية ، وكادر الفلم جلّه بريطانيون. 
في فلم (القادسية) المنتج سنة ١٩٨١ م للمخرج صلاح أبو سيف تزييفٌ للتاريخ بتدخلٍ من نائب الرئيس عزة الدوري ! 
لقد صُرفت أموالٌ طائلةٌ على أفلامٍ  سُميت عراقية، لكنَّ شخصياتها ليست عراقيةً  مثل: فلم ( مطاوع وبهية)  المنتج سنة ١٩٨٢ م لصاحب حداد بلهجته المصرية فضلاً عن ممثليه الرئيسيين كرم مطاوع، وسهير المرشدي، وقصته التي تجري في قريةٍ مصريةٍ ! 
كذلك فلم (القناص)  المنتج سنة ١٩٧٩م لفيصل الياسري بالممثلين اللبنانيين الرئيسيين روجيه عساف، وآمال عفيش، والموضوع اللبناني، والبيئة اللبنانية، ولعلَّ حسنته الكبرى هي ظهور الشاعر نزار قباني، وهو يقرأ قصيدته: ( يا ست الدنيا  يا  بيروت !) ، والطريف في الأمر أنَّ اسم الشاعر ظهر ضمن ممثلي الفيلم حتى قيل وقتها أنَّ  نزار قبّاني ظهر بدور نزار قباني !  
أما فلم (القادسية) المنتج سنة ١٩٨١ م لصلاح أبو سيف فكانت حصة الأسد  فيه للنجوم المصريين،  وقد ارتضى ممثلون عراقيون كبار أن يكونوا كومبارساً فيه ، حتى في الأجور؛ لأنَّ رفضهم يعني البقاء بلا عملٍ حتى لو كان عملاً رمزياً !  
أما أفلام الحرب العراقية  /الإيرانية فلم تخرج عن السطحية ، والتهميش ، وإظهار بطولاتٍ زائفةٍ . 
وزاد الطين بلةً في سنوات الحصار في التسعينيات ظهور أفلام ما تسمى بـ(أفلام السكرين) ملفقة الشكل ،والمضمون، فضلاً عن ظهور ممثلاثٍ طارئات على الفن ! 
 لقد اضطر الفنان عبد الهادي الراوي مخرج فلم (السيد المدير)  المُنتَج سنة ١٩٩٠ م ، إلى زج مشهدٍ مقحمٍ في نهاية فلمه الواقعي المنتقد للفساد الإداري في دوائر الدولة  في محاولةٍ منه للاحتيال على الرقابة ، بمشهدٍ أخير يظهر فيه المدير، وهو يحلم بواقعٍ فاسدٍ يعيشه فعلا ! 
ويمكن القول إنَّ الأفلام الوثائقية العراقية هي الأقرب إلى التعبير عن الشخصية العراقية الحقيقية  سواءً في ظل حكم البعث، أو في السنوات التي أعقبت سقوط الدكتاتور، خاصةً جهود جماعة (المركز العراقي للفلم المستقل) وبالأخص المخرج محمّد الدراجي ، والمخرج عدي رشيد، والمخرج مهنَّد حيال الذي ما زال فلمه الروائي (شارع حيفا) يحصد الجوائز أينما عُرض، في مهرجانات قرطاج والقاهرة ودبي وبوسان بكوريا الجنوبية، وقد قال عنه المخرج الكندي الكبير أتوم جويان 🙁 إنَّه فلمٌ مختلفٌ وصادمٌ وخلفه مخرجٍ واعٍ وذكيّ، أحببتُ الفلم جداً وأعتقد أنَّ مخرج الفلم الشاب مهند حيال سيكون له مستقبلٌ واعدٌ جداً)


ولد مهند حيال في محافظة ذي قارسنة ١٩٨٥م وسبق أن أخرج عدداً من الأفلام القصيرة منها : (قلب المدينة) ، و(خطأ) ، و(فرات) ، و(سيناريو) ،و(عيد ميلاد سعيد). 
هناك فلمٌ وثائقيٌّ مهمٌ شاهدته على قناة الجزيرة الوثائقية  في ٢٠١٨/٢/١ م، وهوفلم (الأوديسا العراقية) المنتج سنة ٢٠١٤ م للمخرج العراقي الأصل، والسويسري الجنسية (سمير جمال الدين)، وطوله ثلاث ساعات، وقد عرض في القناة بساعة وثلاثين دقيقة .
 يتناول الفلم شخصية العراقي الضحية ، والمشرد، والبطل. وقد حرص المخرج على أن يكون ممثلوه في الفلم هم أنفسهم في واقع الحياة. 
لقد أُنتج الفلم بشكلٍ شخصيّ ، وعرض في عددٍ من العواصم الأوربية ، وحقق نجاحاً لافتاً ، مع أنَّه ليس فلماً روائياً ، ورشح الى جائزة الأوسكار، وهذا يعكس مستوى الاتقان على صعيدي المضمون، والأسلوب.
أمّا المضمون فقد عرض مؤلفه ومخرجه محنة الشتات العراقي التي تعود الى أكثر من نصف قرن ؛ إذ لم يُحل ثراء عائلة المخرج دون تشظيها ، وتشتتها في المنافي ؛ لكثرة تقلبات البلد السياسية ، فالعيش فيه كالعيش في مرجل ، فيضطر أفراد هذه العائلة ، وفيهم الطبيب ، والمهندس، والشاعر ، والفنان الى الهجرة تخلصاً من سلطة القمع الى روسيا ، وأمريكا ، ونيوزلندا، وسويسرا ، ومنهم الشاعر مصطفى جمال الدين عم المخرج ، فيكون اللقاء بأفراد هذه الأسرة في منافيهم فرصةً للتعريف بمحنة اللاجئين ، والمهاجرين ، والهاربين من الدكتاتورية . 


أما الأسلوب فقد أختار المخرج طريقةً سلسةً ، وجذابةً  في العرض ، فهو يفتح البوم صور العائلة ، ويستعرض حياة كل شخص، ثمَّ يسافر الى البلد الذي يقيم فيه ذلك الشخص، ويمنحه فرصةً للحديث عن تجربته ، ومعاناته. 
أما الشخصية الراحلة عن الحياة، فيكتفي بروي حكايتها ، ونهايتها ، ويستلزم ذلك دعم الحديث بمادةٍ ارشيفيةٍ حقيقيةٍ مثل مشاهد من حياة العائلة المالكة ، ورؤساء جمهورية العراق   ويكون ذلك بالتوازي مع السيرة الشخصية للمتحدثين.
لقد كان مشهد تجمع أفراد العائلة في سويسرا ؛ لرؤية الفلم في نسخته النهائية مشهداً بالغ التأثير ؛ فهم قد جاءوا من منافيهم الاضطرارية بدعوة من المخرج ؛ ليلتقوا في أرض محايدة ربما ليؤكدوا أنَّ ما فرقته الأنظمة، والبلدان يمكن أن تجمعه عدسة فنانٌ مثابرٌ مثل سمير جمال الدين ! 
ترى كم نحنُ بحاجةٍ إلى المزيد من المراجعةٍ لما آلت إليه الشخصية العراقية في المحصلة النهائية ، وما  جرى فيها من تحولاتٍ حقيقيةٍ ، لنغادر الصورة النمطية التي أخذت عنها فتكون صانعةً للحدث في الواقع ، وعلى الشاشة الفضية !
شروح صور 
١. محمّد الدراجي 
٢.عبد الهادي الراوي، وحاتم سلمان
٣.مهند حيال، وعليّ جبّار عطيّة 
٤. ملصق فلم المسألة الكبرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى