نهج القرآن في تثمين العقل وإزكاء منهجه

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

لا تأتي فلسفة، أو فكر بشري إلا ويقدم بين يديه قوانين هدمه، من غير إرادة أوقصد، وقد يحمل في طياته لمعارضيه مآخذهم عليه، فيدحض بذلك حجته، ويبين نقصه ولو بعد حين.. يحدث هذا  حين يجيء التنظير من مصدر بشري؛ و كل مصدر بشري ـ لا جرم ـ موسوم بالنقص، موذن بالنقض ولو بعد حين.. وحينما يكون دين من مصدر إلهي أدخلت فيه يد البشر فأفسدته، ومحت عنه تلك العصمة كانت له في الظاهر والباطن، و خلعت منه ما كان له من القدسية والطهر والعلو.

أما القرآن فقد عصم من هذا، فلا يعتريه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو يعلن ذلك منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، لا على استحياء، ولكن عن تحد واستعلاء “ذلك الكتاب لا ريب فيه”، ثم يعلن حفظه كذلك عن تحد أيضا “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” .. فلا تستطيع يد بشرية عن عمد أو غير عمد أن تمتد إليه، فتزيد في حروفه حرفا أو في آيه آية، أو تنقص منه كذلك.

وإذا كان قد ألبس هذه العصمة ظاهرا وباطنا، فإنه جاء أول ما جاء يخاطب كل عقل وصاحبه، بحجة من داخله وخارجه، معرضا عن خرافات السابقين، ومفندا مزاعمهم المفتراه، وما ألبسوا في دياناتهم من باطل.. حاسرا كذلك عن زيف دعواتهم، والتعمية على أتباعهم، وما ادعوه من الكتاب وماهو من الكتاب، ولا هو من عند الله.

أتى القرآن أول ما أتى يخاطب العقل نفسه أن يستيقظ فينفض عن نفسه غبار الجهل والخرافة، ويأوي إلى يقين العلم والحق الذي لا مراء فيه، وذلك بخطاب(اقرأ)، لنبي لم يعرف ما يقرأ، ولم يخط بيمينه من قبل شيئا.. وليعلم أن منهج (اقرأ) لا يكون إلا باسم الرب الذي خلق..

ثم يلفت إلى مراحل الخلق، وكيفية تكوينه في أمة لم تدر شيئا عنه من قبل، ولم يهم إلى خاطرها شيئا من مراحله “خلق الإنسان من علق”، ثم الالتفات إلى كرم الربوبية الذي أفاض عليهم بعد منة الخلق، بالعلم.. لم يعدله بالمال ولا بالولد، وهما أقرب عطاءات قد تخطر ببال أمة بالبادية لم تعرف من أمر العلم شيئا، ولم تعهد من خبرته ولا حضارته اسما ولا رسما.. فإذا به يقول “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)“.

قال الإمام الطاهر بن عاشور في أغراض سورة (العلق): وغرضها..

تَلْقِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلَامَ الْقُرْآنِيَّ وَتِلَاوَتَهُ إِذْ كَانَ لَا يَعْرِفُ التِّلَاوَةَ مِنْ قَبْلُ.

وَالْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ مُيَسَّرٌ لِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَلْهَمَ الْبَشَرَ الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ قَادِرٌ عَلَى تَعْلِيمِ مَنْ يَشَاءُ ابْتِدَاءً.

وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَصِيرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْعِلْمِ.

وَتَوْجِيهُهُ إِلَى النَّظَرِ فِي خَلْقِ اللَّهِ الْمَوْجُودَاتِ وَخَاصَّةً خَلْقَهُ الْإِنْسَانَ خَلْقًا عَجِيبًا مُسْتَخْرَجًا مِنْ عَلَقَةٍ فَذَلِكَ مَبْدَأُ النَّظَرِ”.

وتلك حجة دامغة تدمغ ادعاءات المفترين على دين الإسلام بإغفال العقل، مستغلين بذلك ما آل بأمته، وما قدحاق بها من فترة وردة علمية وعقلية.. فإليهم نقول، ولأنفسنا نذكر: هذا هو أول أمر بالكتاب يحمل حملا على الجهل، ويفتح منارة للعلم (العقدي)، والعلم (الكوني)، تطير به أمته بعد ذلك باسطة جناحيها على أرجاء الأرض في نصف قرن من الزمان، لم تسبق حضارة أن بسطت بستطتها، أو حذت حذوها من حيث أخذت الكتاب بقوة، وتفتقت عن سبق علمي وعملي.

فلما وضعت ثوابت العقيدة الصحيحة رحالها، متفقة بفطرتها القويمة مع فطر هذه العقول البدوية، بعد أن خلصتها مما ران على عقولها من جهل العبادات والشرك، راحت هذه الأمة مع الفتح تقعد لمنهجها الشرعي التعبدي وتؤصل له من علوم الآلة (العقلية)، “علم أصول الفقه ، وعلوم اللغة (النحووالصرف) ، والتفسير، وعلوم الحديث ونقد الروايات والرجال والمتن والسند، …”، وكان هذا إيذانا صارخا بأن منهج العقل والاستقراء وتأصيل العلم هو الحاكم على الخطأ والصواب، وهو صاحب اليد العليا، وله القول الفصل فيما يدعيه مدع، أو يطرح صاحب بحث أو فكر.. فنسفت ما سبق من هيمنة سلطة الكهنوت، والخرافة، ولم تبق إلا سلطة الشرع المقرون بالعقل.

ثم أن اطمأن السادة العلماء إلى تثبيت علوم دينهم على أساس متين، من التقوى والرضوان، واهتداء بالعقل والعلم، واستنادا إلى ما أصل وقعد، راح أقرانهم من السادة الباحثين في علوم الكون، يقتفون آثارهم مستهدين بهذا المنهج العلمي الذي استلهم من القرآن، واستنبط بالعقل من بين مثانيه، حيث يقول:

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون”َ (الأنعام)، ويقول: “ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ” (36) يونس..، “وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ” (النساء).. “ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ” (28)الشعراء..

فالحقائق العقدية وحي سماوي خالص يأتلف مع الفطرة العقلية القلبية، والحقائق العلمية لا تصدر إلا عن العقل الصحيح بفطرته المنسجمة مع الكون الصحيح، والكون الصحيح هو هذا الناموس الفطري الذي ألهمت قوانينه خلقها، فجرت على سنن لا تعرف الخطأ ولا يجوز عليها، ولا يجري عليها إلا ما يجري على قوانين العقيدة الخالصة، ومعها الشريعة التي تجمع بفطرتها القويمة، بين عقل الكون وعقل الإنسان الذين يستلهمان من مصدر أحادي، وينهلان من نفس  المعين، ويتبعان ناموس سماوي واحد ..

راحت علوم الكون (الطب والكيمياء، والهندسة ، والفلك ، والجغرافيا،و…. )، تتهاوى إلى بطون الكتب، ومنها إلى رفوف المكتبات، وتبدع من بدع الحضارة ما أذهل مُورّثوها من الحضارات الغابرة(الفرس والروم والهند واليونان)، وسرت الترجمات إلى العربية سريان النار في الهشيم، ونما نجم العقل العربي العلمي في آفاق الأرض، فجعل يشيد حضارة علمية أذهلت عقول من سبقوها من أهل الحضارات، وأقروا لها بالريادة، ثم أنهالوا ينقلون من علمها بعد ذلك حتى أشادوا حضارتهم الحديثة على إثرها.

إن هذا الوهم، وهذه الخرافة العقدية التي يتوارى فيها العقل، ويتقدم فيها الجهل، وتسود فيها الغواية فتجعل الإنسان يطأطأ رأسه ويغضي جبينه إلى غير خالقه.. بل هي الردة العقلية إن صح التعبير، أن يران على الفطرة العقلية من الداخل، ويغفل أمر الوحي الحق من الخارج، وتزهق حججه الدامغة، فيعظم غير الله، ويعبد غير الله ، ويولي الإنسان وجهه غير شطر ربه الذي فطره، فيعبد الصنم والوثن، والحيوان والإنسان.. “يجعل لله أندادا ليضل عن سبيله”، و” يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله”، ثم يشق على نفسه بعبادات وشرائع ما أنزل الله بها من سلطان .. رياضات روحية، وتأملات نفسية، ونذور وقرابين، لا تصل إلى الله.. ثم يسلم زمام أمره إلى أقرانه ونظرائه من بني البشر، يستعبدونه بحكم الوساطة بينه وبين من يعبده … ألا بعدا للقوم الظالمين.

وأين هذا من نزاهة الخطاب القرآني وعدالته الذي يرقى بعقل الإنسان، ويصطفيه ويكرمه، ويجعل لله وحده عليه سلطة الأمر والنهي، والتشريع والتعبيد .. فإلى متى يظل هذا العقل حائرا بين العلم والخرافة ؟!!

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)” (الإسراء).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى