من وحي الرحلة.. وسع لله قلبك يتسع لك كونه (2)

رضا راشد | باحث في اللغة والأدب | الأرهر الشريف

في مقالتي السابقة (اتسع لك كونه فهل اتسع له قلبك) ذكرت العلاقة بين اتساع الكون للعبد وما يجب أن يعقبه من اتساع قلب العبد لله؛ شكرا منه لمولاه. وكان ذلك من وحي رحلتي وما شاهدت فيها من عظمة قدرة الله عز وجل، فأثار هذا سؤالا: تكلمتَ عمن وُسِّعَ عليه في كونه، فماذا عمن ضُيِّق عليه الكون لأي سبب كان، فعاش عمره أو جزءا منه رهين أحد المحابس: سجن أو عمى أو شلل مثلا، عافانا الله وإياكم؟ أفيضيق قلبه عن الله فيسخط ويجزع لأن الكون قد ضاق عليه؟

والجواب : كلا ، بل يجب أن يتسع قلبه لله: توحيدا، وذكرا، ويقينا، وأملا في أن مع العسر يسرا، ومع الشدة رخاء، ومع الكرب فرجا .. ساعتها سيتبدل ضيق الكون عليه سعةً ورحابةً (معنويةً لا حسية ، فيشعر هذا المرء بسعادة وانشراح صدر كما لو كان يعيش في أجمل بقاع الأرض.
وإن شئت فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما ضاق صدره حزنا لِما كان يقوله المشركون عنه: كيف دله ربه على السبيل ووصف له العلاج ، ألا وهو التسبيح والتحميد والسجود ومداومة العبادة، فبها سيزول عن الصدر ضيقه وكمده :
《 ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون° فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين° واعبد ربك حتى يأتيك اليقين》.
وها هو ذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كان يكون في سجن أو اضطهاد أو تعذيب أو تشريد ،لكنه أبدا ما ضاق قلبه عن ربه ،فعاش في سعة لم تقتصر عليه وحده ، بل أفاد منه تلامذته، يقول عنه تلميذه ابن القيم رحمه الله:
“وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض ، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه ، فيذهب ذلك كله عنا ، وينقلب انشراحا وقوة وطمأنينة ويقينا ” .
فانظر إلى ما كانوا فيه من الخوف وسوء الظن وضيق الأرض: كيف تحول إلى قوة ويقين وطمأنينة وانشراح صدر لمجرد رؤية شيخ الإسلام وسماع كلامه ،أفرأيتم كيف اتسع عليه كونه لاتساع قلبه؟
وعلى الجانب الآخر تجد الثلاثة الذين خلفوا: لما عصوا الله وتخلفوا عن الجهاد في سبيل الله، عاشوا أياما طوالا في ضيق من الأرض وضيق من أنفسهم، مع أنهم كانوا أحرارا طلقاء، وما أجمل تعبير القرآن عنهم حين قال سبحانه: 《ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم 》
هكذا يتضح لك الأمر جليا :قوم يعيشون من طاعة الله في سعة واطمئان، كما لو كانوا يتنزهون على أجمل شواطئ الدنيا ، وآخرون يعيشون في ضيق مع أنهم أحرار طلقاء ليصدع ذلك في سمع الزمان إلى يوم القيامة
(أنه بالطاعة تتسع لأهلها بيوت كالقبور ، وبالمعصية تضيق على أهلها القصور) .

وخلاصة المقالتين أقول:

أيا عبد الله:
لئن اتسع لك كون الله فليتسع له قلبك حتى يتسع عليك قبرك، فإن لم يتسع لك كونه فليتسع له قلبك حتى يتسع عليك كونه وإن رآه الناس ضيقا .

فاللهم وسع قلوبنا لعبادتك ولا تجعل فيها مكانا ، ووسع علينا قبورنا فيالآخرة بما تعيننا عليه من اتساع قلوبنا لك في الدنيا وهذا كله منك وإليك فلك سبحان الفضل ابتداء وانتهاء.

(ملحوظة مهمة : لا يفهم من إجراء هذه المقارنة أنني أفضل شيخ الإسلام على هؤلاء الصحابة ، فمعاذ الله من هذا ، ولكنى أجري مقارنة مجردة بين حال الطائع وحال العاصي).

هدانا الله وإياكم لطاعته ووقانا وإياكم من معصيته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى