ماذا يجري على ساحة البراق؟
المحامي إبراهيم شعبان | فلسطين
تحت جنح الظلام، هديرجنازيرجرافات وحفارات تقطع سكون الليل تعبر شوارع القدس العتيقة، متجهة لساحة البراق لأعمال إنشائية ضخمة حفرا وبناء وصب إسمنت . تتلوها شاحنات ثقيلة عند منتصف الليل تخرق الهدوء والسكينة، وتتجه نحو باب المغاربة، لتخترقه متوجهة نحو ساحة حائط البراق، لتنقل وتحمل حجارة وأتربة وبقايا عمران وآثارا إسلامية أو رومانية بعيدا عن الحائط دونما رقيب أو حسيب أو شفافية أو بيان إعلامي. في حين أن من تسمى عالمة الآثار الإسرائيلية ” مازارات ” اليمينية المتعصبة ملأت الدنيا ضجيجا وحديث فارغا، حينما تم إعداد المسجد المرواني وتباكت على الآثار المندثرة والمفرط فيها من قبل هؤلاء العرب حتى أنها أقامت صندوقا خاصا لتمويل البحث والتنقيب في هذه الآثار المهدورة !! ( تقوم إسرائيل وأجهزتها وجامعاتها بالتنقيب عما يسمى الهيكل المزعوم لأكثر من خمسين عاما دونما دليل محسوس، وسبق لمؤسسات أجنبية ذلك، دون جدوى ولم يجدوا سوى آثارا رومانية وإسلامية)
الغريب والعجيب والمحزن والمؤلم، أن هذه الأعمال الضخمة الكبيرة الماثلة للعيان والتي تجري تحت سطح الأرض والساحة وفوقها من طوابق عدة ، من هدم وحفر وبناء وصب خرسانة، وتغيير معالم الساحة برمتها، تجري في ظلمة الليل وبدون رد فعل عربي أو إسلامي أو فلسطيني. وحتى ننصف يكون الرد إن جاء مبكرا أو متأخرا عبارة عن ألفاظ لا تجدي ولا تسمن من جوع. بيان هنا وبيان هناك، دونما أي إجراء عملي. جعجعة بدون طحن وبعدها ننام على صوت الطاحون. حتى شكوى إلى اليونسكو أو إلى الأمم المتحدة ، ما عدنا قادرين عليها. وكأننا سلمنا بالواقع المرير الذي نحياه بمدينة القدس العربية إلى الأبد المحتلة مؤقتا.
ما يجري على ساحة البراق من أعمال هدم وإنشاء وبناء هو أمر مخالف للقانون الدولي العام ومخالف لاتفاقيات لاهاي بشأن المعالم الثقافية والآثار ولميثاق اليونسكو. وهو خلق أمر واقع مناقض للشرعية الدولية بكل جزئياتها. لكن الأمر بل الكارثة أن هذه الشرعية ليس لها مخالب. وهي غير قادرة على التحرك في مواجهة الخطوات الإسرائيلية غير القانونية وغير الشرعية بل المعتدية على حقوق الفلسطينيين والمسلمين.
الأنكى والأمر أن ما يجري في ساحة البراق ينسحب على القدس العربية بكل حاراتها وأزقتها وقراها وبخاصة في ما أطلقوا عيه تسمية الحوض المقدس، فهي جزء من كل. أنفاق تحت البلدة القديمة والمسجد الأقصى وفي سلوان وتحت حائط البراق وحفر وبناء بدون ترخيص في كل مكان، وبلدية القدس تغض الطرف وتغمض العين عن كل هذه الأعمال العقارية، ولو تمت من قبل فلسطيني لتوجه له أكثر من مفتش عقاري لمخالفته وتوجيه تهم لإحالته لمحكمة بلدية وقرارات بالإزالة والغرامة معا.
ذكرتني أعمال الحفر والبناء الإسرائيلييتين في ساحة البراق بقضية عجيبة غريبة مبتدعة ألا وهي السيادة التحتية والسيادة الفوقية، التي اقترحها الفيلسوف القاتل، إيهود براك أثناء محادثات كامب ديفيد أيام المرحوم أبو عمار في موضوع المسجد الأقصى وما يطلقون عليه زورا ” جبل الهيكل “. وبذات الخبث الإسرائيلي قد جرى في موضوعة المفاوضات، فهم يقولون الشيء وبنقيضه في الزمن ذاته، أولم يسنوا قانونا برلمانيا ضد أوسلو في القدس اي في عام 1996 ولم يجف بعد مداد أوسلو، وأغلقوا بموجبه مؤسسات القدس الفلسطينية، أو التي لها تعاون مع السلطة الفلسطينية. ألم يعيثوا في الأرض الفلسطينية تغييرا وضما اثناء المرحلة الإنتقالية التي يفترض أن يسودها حسن النية، وتمتنع إسرائيل عن اتخاذ إجراءات أحادية ومن طرف واحد.
ويبدو أن الإسرائيليين لم يكتفوا بهدم حارة المغاربة عن بكرة أبيها وتشريد أهلها عام 1967، والإستيلاء على مفتاح باب المغاربة للمسجد الأقصى، ومنع الفلسطينيين من الوصول لساحة المسجد الأقصى عبر طريق باب المغاربة. وكذلك منعهم وحدهم ظلما وعدوانا وسلبهم حقهم الطبيعي في عبور ساحة البراق سواء من طريق الواد أو باب السلسلة أو من باب المغاربة ذاته وتجنب المشقة بالإلتفاف حوله وبخاصة لكبار السن والمرضى، بينما العبور متاح لخلق الله جميعا دون استثناء في عنصرية بغيضة. وكذلك تم هدم الجسر الموصل للمسجد الأقصى من ساحة البراق ، في محاولة لتغيير معالم القديم كله، وخلق معالم جديدة تنسي الناظر الصورة القديمة.
وكأن الإسرائيليين لا يقرؤون التاريخ القريب بل يتجاهلونه فغرورهم قتلهم وضعف غيرهم جعلهم أكثر جسارة على العدوان والظلم. ألم يسمعوا بأحداث 1929 وقتلاه بل هي أحداث متصلة بحائط البراق ذاته الذي يهدروه يوميا بحجة تحسينه وتجميله. هل يجب علي أن أذكركم باللجنة الدولية التي بحثت بشأن حائط البراق بعد أحداثه الدموية وقررت بالإجماع أن الحائط ملك إسلامي خاص وليس لأحد حق عيني فيه. وحتى نفخ البوق ووضع خزانة أو ستارة فيه يجب أن يكون بإذن الفلسطينيين المسلمين. بل ذهبت اللجنة إلى أن الصلاة اليهودية تتم برخصة إسلامية نتيجة التسامح الإسلامي وليس حقا يهوديا خالصا. ودعوني اسأل لماذا قررآنذاك الحكم الإنتداب البريطاني المتصهين تبني قرارات اللجنة الأممية بحرفيتها وإصدارها ضمن قانون ملزم لليهود قبل العرب المسلمين والمسيحيين. ولماذا بقي هذا القانون معمولا به تجاه الجميع حتى خروج بريطانيا من فلسطين عام 1948. وماذا حصل لهذا القانون بعد ذلك الملزم للجميع والذي لم يذكر فيه فترة زمنية لتطبيقه بل هو غير مؤقت كجميع القوانين. بل لماذا لم يسن الكنيست الإسرائيلية قانونا جديدا يقرر فيه إلغاء القانون البريطاني. وباي حق يبقى قانون الدفاع عن فلسطين وأنظمة الطوارىء الصادرة بمقتضاه لعام 1945 سارية إلى يومنا هذا ولا يسري بالمقابل قانون البراق لعام 1932. ألا يستحق هذا الأمر إثارة والدفع به من قبل محامي الداخل أمام أمام الهيئات القضائية المحتصة ولو على سبيل الشكل فقط وبشكل مكثف وباستمرار؟؟ ألا يجدر بنواب الداخل إثارة الموضوع أمام الجهات الرسمية وغير الرسمية؟ ألا يوجب الأمر تحركا من قبل الهيئة الإسلامية العليا وإثارته أمام السلك السياسي وجهات أخرى؟
نتيجة لانعدام الأثر اليهودي في القدس كما قرر علماء آثار يهود بارزين ، ونتيجة للضعف العربي والفلسطيني القائم، تقوم الجهات الرسمية اليهودية الرسمية وغير الرسمية بالسباق مع الزمن واستغلاله لتكريس المقولة اليهودية والتاريخ اليهودي المكرر الممجوج، عبر هدم هنا وهناك وبناء هنا وهناك وخلق أمر واقع جديد.
صحيح أن الأمر الواقع لا يخلق شرعية ولا يخلق حقوقا، ولكنه يخلق مشكلات عملية تعقد أي حل أو انفراج، وبخاصة في ظل عالم منقسم، وبخاصة بشان العهد القديم والتوراة والموقف المزيف منها، ولنا في موقف الأنجليكان في الولايات المتحدة خير مثال.
القدس مدينة محتلة، ولا ثمار للعدوان والإحتلال سواء طال أم قصر إلى زوال، ولا سيادة للمحتل وإن بطش وقهر واستولى على الأرض بقوة السلاح والغزو. وجميع إجراءات الإحتلال لاغية وباطلة ولا قيمة قانونية لها عبر ما قررته الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي وقرارات اليونسكو وقواعد القانون الدولي. لكن قطرات الماء القليلة وحبات الرمل الضئيلة تصنع الأقيانوس الجبار واليابسة الدمثة!