شاهد واستمع واقرأ حوار الشاعر الكبير علي جعفر العلّاق مع عبد الرزاق الربيعي و وسام العاني
علي جعفر العلاق يقول:
مجد مظفر النواب لا يكمن في قصيدته الفصحى بل في قصيدته العامية.
شعرنا مليء بالهذيان ومليء بتوارد الخواطر وعندما تستطيل القصيدة نقول يا ليته وقف.
هجرة الشعراء إلى الرواية لا تعني أن القصيدة في مأزق أو وضع صعب.
الشاعر حارس اللغة الذي يجدد حياتها ودمها وهو الذي يقيم كيانها.
الحداثة موقف قبل أن تكون نصاً، فهي موقف فكري وجمالي ووجداني.
الإنسان الرومانسي كامن فينا جميعاً كيف تتعامل مع هذه الرومانسية.
لا شعر حقيقي بدون إيقاع.
أبحرت بزورقٍ تدفعه ريح هادئةبعيداً عن الضجيج، والمناكفات.
لا يصمد، في الكتابة الشعرية أمام ريح الحياة إلّا من له أجنحة حقيقية تتّصل بعصب القلب والموهبة الحقيقية.
قال الشاعر الكبير علي جعفر العلّاق” أنامن جيل الستينيات وليس منه. حيث كنت أحرث في أرض محايدة بجوار جيل الستينيات. وعندما دخلت المعترك صدمتني أشياء كثيرة في هذا الجيل حيث وجدت أنصاف آلهة، وأناساً مليئين بالغرور، وبعدما مرّت السنوات، وأسقطت الريح عنهم قبعات الغرور لم يبق منهم شيء. قليل من بقي من جيل الستينيات، عدا الشعراء الحقيقيون ممن كانوا فاعلين آنذاك؟ وثمة أسماء كثيرة كانت تملأ المجلات لم يبق منهم أحد. كأنني كنت أبحر بزورقي الخاص تدفعه ريح رخية وهادئة بعيداً عن الضجيج والغضب والمناكفات”
جاء ذلك عندما حلّ ضيفاً على برنامج “كتاب مفتوح” الذي يعدّه، ويقدّمه الشاعران عبد الرزاق الربيعي، ووسام العاني برعاية مركز حدائق الفكر للثقافة والخدمات في سلطنة عمان، وذلك مساء الخميس 4/2/2021 في أمسية افتراضية بُثت على جميع منصات التواصل الاجتماعي.
وأضاف “الآن أجد أن الشعراء الذين بدأوا آنذاك بموهبة حقيقية وثقافة حقيقية هم الذين بقوا قادرين على العطاء. بعض الأسماء من هذا الجيل بقيت لأن أصدقاؤهم أرادوا أن تبقى هذه الأسماء حية. في الوسط الشعري العربي عموماً ثمة مجاملات لا حصر لها وثمة إملاءات وتبني لأسماء ليست حقيقية. والشاعر لا يستطيع أن يشق طريقه بسهولة إذا لم يكن له قبيلة باطشة أو حزب أو دولة أو شلة. أنا دخلت على جيل معظمه عائد من خيبات سياسية. أما أنا كنت أعزل إلا من قصيدتي ولا شيء سواها ومعي نفر قليل مثل فوزي كريم ومحسن إطيمش على سبيل المثال. والأجيال جميعها، وليس جيل الستينيات وحسب، يبدأ بفورة ثم يتبعها الغاوون وبعدها يبدأ الريش بالتساقط ولا يصمد أمام ريح الحياة إلا من له أجنحة حقيقية تتصل بعصب القلب وعصب الموهبة الحقيقية والثقافة الحقيقية”.
تجارب حقيقية ولكن…
وفي سؤال عن التجارب التي يتوقف عندها من جيله الستيني، أجاب العلاق:
“سأذكر أسماءً لكنني بعد كل اسم سأقول لكن. حسب الشيخ جعفر مثلاً لا يتخطاه أحد. بدأ بداية معافاة بمخيلة وحشية وصور جميلة وشجن مصفى محسوب بعناية وبالحنين الطاغي. لكن بعدها بدأت قصائده تصبح أكثر تواضعاً من قصائده الأولى. بدأت قصيدته المدورة بـقصيدة (الطائر الخشبي) ثم (عبر الحائط في المرأة) و(زيارة السيدة السومرية) ثم تحولت بعدها إلى قالب يكاد يكرر نفسه. ثم خرج الى بعض القصائد مثل (وجيء بالنبيين والشهداء) كأنه أراد أن يسقط عن نفسه فرض الالتزام بقضايا الوطن وهذا الجانب من التعبئة. في الخلاصة بدايات حسب الشيخ جعفر كانت تلامس روحي أكثر من نهاياته وكانت قادرة على أن تقدمه شاعراً متوهج اللغة والموهبة حميماً في كل ما طرح. سامي مهدي واحد من أهم الشعراء وقصيدته تكرسه شاعراً مهماً جداً لكنه ألح كثيراً في فكرة الزوال حتى صارت قفصاً حجز نفسه فيه. فهو لديه فكرة يطاردها بطريقة سردية حتى يجد الدلالة لكنها حجمت موهبته الكبيرة. بالإضافة إلى أن لديه ما أسميه بالشيزوفرينيا الشعرية بمعنى أن لديه انشقاق في القصيدة وتبدو قصيدته بشخصيتين واحدة ذات لغة بمنتهي النقاء وبمنتهى الجمال والخلو من الزوائد ولا تحسه يتكلف شيئاً، ثم ينتقل فجأة بدوافع منها ما يبدو شخصياً ومنا ما يبدو سياسياً أو اجتماعياً فيكتب قصيدة هجائية جارحة وكأنها تلحق ألماً شخصياً بالآخر الذي يقصده وكأنه لابد له من ضحية. فاضل العزاوي أيضاً من أهم الشعراء ويكاد يكون الشاعر الموازي أو الجناح الآخر للشعرية العراقية في الستينيات مع سامي مهدي. فوزي كريم أيضاً شاعر مهم ورسام وناقد موسيقى وله تأملات في النقد على درجة كبيرة من الإخلاص. حميد سعيد أيضاً شاعر ممتاز ويتطور بعمق وإنسان في غاية الرقي الإنساني. ياسين طه حافظ شاعر له تجربته أيضاً. أما آمال الزهاوي فهي شاعرة لم تتطور كثيراً لامست أفقاً نسوياً حميماً لكنها لم تحلق بعيداً ولم تأت بالمفاجئ والمدهش خارج الأشياء التي بدأت بها. وبالعودة إلى جيل الرواد نجد نازك الملائكة التي جمعت بين الشعر والنقد أفادت الأجيال اللاحقة كثيراً بدراساتها النقدية وقد أفاد منها كثيرون مثل سامي مهدي وفوزي وكريم وآخرون”.
علاقة مع النوّاب
وحول قصيدته الأخيرة المنشورة في جريدة (القدس العربي) التي أهداها إلى الشاعر الكبير مظفر النواب قال”نشأت العلاقة بيني وبين (مظفر النواب) عندما كان مدرساً وأنا في الصف الأول المتوسط. عرف من خلال الطلبة أنني أكتب شيئاً من القصائد الشعبية فسألني سؤالاً أحسست من نبرته أنه متأسف أن طالباً متفوقاً في اللغة العربية يضيع عمره في كتابة الشعر الشعبي. بعدها نصحني أن أحضر أمسيات اتحاد الأدباء وأن اختلط بهم بدلاً من كتابة القصائد الشعبية. ذات يوم حضرت إحدى أمسيات الاتحاد وكانت لمظفر النواب وكان حاضراً أيضاً الدكتور علي جواد الطاهر رحمه الله. هناك تعرّفت على مظفر النواب وأهداني مجموعة من قصائده ثم تكررت اللقاءات معه بصحبة مجموعه من الشباب الذين كانوا بعمري وهم من ثانوية الفجر في الكاظمية التي يدرّس فيها مظفر النواب. صرنا بعدها نلتقي كل أسبوع مرة وإن لم تطل هذه اللقاءات كثيراً. بعدها أدركت أن مستقبلي لا يكمن في القصيدة الشعبية. استفدت كثيراً من مظفر النواب لأنه كان يلامس أفق الشعر عامة بأي لغة أتى حينما يتحدث عن الجمال، أو عن التركيز، أو الصورة، أو الاستعارة .. إلخ. مرت بعدها أحداث كثيرة والتقينا ذات يوم مصادفة، وكان مظفر النواب في سيارة صغيرة، قال لي حينها لن نلتقي اليوم وانتظر مني اتصالاً هاتفياً وسنلتقي إذا كُتب لنا عمر.
بعدها غاب مظفر في الظلام ولم نلتق إلا بعد ثلاثين عاماً. مظفر النواب أعاد للقصيدة العامية العراقية رونقها بل أحياها بعد أن كانت تقليدية إلى حد كبير. وما أحدثه فيها لا يبعد كثيراً عما أحدثه السياب في القصيدة الفصيحة. حولها من لغة تكاد تكون متخشبة ومن لغة تتعالى على الأنثى وتخاطبها بصيغة المذكر إلى لغة مفتوحة الأفق كما في قصيدته (الريل وحمد) التي تمثل بوحاً أنثوياً حيث تتحدث الأنثى بصوتها عن وحشتها ورحيلها ورغباتها. بعد هذه السنوات الطويلة التقيت بمظفر وأهديته أحد كتبي وهو (الشعر والتلقي) وقلت له ستصادفك صفحة في الكتاب تتحدث عن شعرك المكتوب بالعامية، وقد لا تعجبك لأنني أقول فيها أن مجد مظفر النواب لا يكمن في قصيدته الفصحى بل في قصيدته العامية. لكنه فرح كثيراً وكأنه عاد بومضة سريعة إلى الماضي وهو يرى أحد طلابه وقد صار اسماً في الجامعة وفي النقد وفي الشعر ويدلي بآرائه النقدية. وقال لي بأنه يحب هذا الرأي خصوصاً أنه يأتي من صديق عزيز يربطه به تاريخ طويل. كتبت مؤخراً قصيدة عن العمر الطويل بيني وبين النواب نشرتها في جريدة القدس العربي قبل شهر أقول فيها:
(كان يذوي وحيداً
على قـاع زنزانةٍ تتآكلُ فيها اللغة…
ليس إلا عويلُ الحديدِ، يمرُّعلى قشرةِ الروحِ..
إلا الحبيبةُ تشرقُ، ملءَ القصيدةِ، مبتعدةْ..
ببقيةِ ملْعقةٍ أو سكاكينَ عمياءَ يحفـرُ أيامَهُ..
وينقّبُ في طينِ وحشتها الصّلِدةْ
عَـلّهُ واجـدٌ هُـدْهُـداً، يتقدّمُهُ
صاعداً في الظلام إلى سُـرّةِ الأرضِ
أو شمسها المجهدةْ..
ثم تنتهي بالقول:
هل تَملُّ من الحلْمِ قاطرةٌ؟
هل تملُّ القصيدةُ فوضى استعاراتها؟
هل تملُّ تلفّتَها السيدةْ؟
كان ثمّةَ دمعٌ يضيءُ
وثَـمَّ حنينٌ تضيقُ به الأوردةْ..)
تشظّيات الأمكنة
وعن تشظيات الأمكنة في تجربته الإبداعية وعن زمن الرواية، تحدّث العلّاق قائلاً:
“ليس هناك من مفاضلة بالضرورة بين فنين عندما نتحدث عن الرواية وعن الشعر. وعبارة الدكتور جابر عصفور (أن هذا الزمن هو زمن الرواية) كانت كأنه يرد على أدونيس عندما أصدر كتابه ذائع الصيت (زمن الشعر). فهناك زمن الشعر الذي قال به أدونيس وهناك جيل آخر يقول إنه زمن الرواية. وأنا كتبت أكثر من مره عن هذه المقالة وقلت ربما قالها جابر عصفور في لحظه ضجر نقدي أو لحظة يأس من نماذج تنشر هنا وهناك على انها شعر. تلقف البعض هذه العبارة تلقف المتشفي أو الشامت بالشعراء ليقول إن الرواية هي ديوان العرب. الرواية فن عظيم مع إنه فن جديد على العرب جاء بفعل التفاعل والمثاقفة والجوار والدراسة والترجمة. أما الشعر فهو خاصيتنا وسمتنا الأساسية. الشعر لصيق بالقلب وبالإنسان وبطفولة الإنسان وبجذوره الأسطورية البعيدة وبطفولة البشرية ولا شيء يمثل الإنسان ووجدانه وبنيته الفكرية بقدر الشعر. ولا أظن أن هجرة الشعراء إلى الرواية تعني أن القصيدة في مأزق أو وضع صعب. وأظل مؤمناً أن الرواية مهما تبلغ من مستوى عال من الرقي في الاداء لابد لها من الشعر وهاجس الشعر وتوتر اللغة ومن إيجاز العبارة. الشعر بجملة مختصرة وصغيرة يستطيع أن يقول ما تقوله الرواية في عشرات الصفحات”.
نثر الشاعر
وعن لغته العالية في كتابة النثر التي تكون أقرب ما يكون إلى الشعر وعن الدراما في شعره تحدث العلّاق قائلاً:
“أتذكر هنا مقولة للصديقة المشتركة الشاعرة (بروين حبيب) في حوار معي حيث قالت (أنت من الشعراء القلة الذين يكتبون نثراً جميلاً والذين لا يبخلون على نثرهم بجماليات القصيدة لديهم). كثير من الشعراء يكتبون نثراً لكنه نثر خافت خال من الوهج والتوتر والإيجاز والومضة البعيدة. وأقول إن نثر الشاعر ليس بالضرورة أن يكون جميلاً كقصيدته، ولكنني، وليس زعماً، أكتب نثراً أعتز بجماليته كثيراً فمن المؤسف أن يكتب الشاعر، وهو سيد اللغة، نثراً خالياً من الوهج أو تكون عبارته خشبية لا روح فيها. الشاعر هو حارس اللغة الذي يجدد حياتها ودمها وهو الذي يقيم كيانها الحقيقي في وجدان الناس من خلال أمثلته المجسدة لا في قصائده وحسب بل في نثره أيضاً”.
سيرة ذاتيّة
ثم تطرّق الشاعر علي جعفر العلاق إلى انشغاله حالياً بكتابة سيرته الذاتية، فقال:
“منذ فترة وأنا منشغل بكتابة فصول من سيرتي الذاتية. وهنا لا بد من التمييز، فهناك سيرة ذاتية تُكتب والسيرة فيها هي المتن أما البناء فيكون سردياً يعني تكتب كراوية سردية تمر على محطات الحياة. أنا لا اكتب بهذه الطريقة وإنما أكتب فصولاً من سيرتي الذاتية على طريقة (شارع الأميرات) على سبيل المثال أو البئر الأولى لجبرا إبراهيم جبرا. لكن هناك مفاصل ومواقف ومناخات داخل هذه السيرة، فعندما أجد خيطاً سردياً قد يكون مؤثراً ويخدم الغرض أكثر من طريقة المقالة فلا أتوانى عن ذلك. هناك أحداث ومواقف كثيرة مررت بها في حياتي ولقاءات مثل لقائي بمظفر النواب على سبيل المثال أو تعرفي بجبرا إبراهيم جبرا وأنا مازلت في الصف الثالث من الدراسة المتوسطة ثم ينشر لي قصيدتي الأولى. أكتب هذا بعناية خاصة، بنثر فيه الكثير من اللوعة والكثير من الجاذبية بشكل تجعله مقروءً ويجد طريقه بسلاسة إلى قلوب الناس. الكتاب يكاد يكون مكتملاً الآن، واتفقت مع الصديق الشاعر (عارف الساعدي) على نشر فصل منه في العدد القادم من مجلة أقلام وفصل آخر في العدد الذي يليه. ربما السيرة فرصة للشاعر وفرصة للقارئ، حيث يفكك الشاعر بعض رموزه ويزيح الغبار عن بعض الدوافع الخفية التي لم يكشف عنها لحد الآن فيمهد الطريق للقارئ العام او القارئ المتخصص وحتى للناقد ليكتشفوا بعض الرموز وبعض ما مر في حياته من أحداث ومواقف”.
مفارقة مدهشة
وفي إجابة عن سؤال الشاعر المغربي الدكتور أحمد الحريشي حول المفارقة المدهشة بين الحاضر والماضي والنقدي والشعري في نصوص الشاعر الكبير على جعفر العلاق حيث يتداخل التاريخ والجغرافيا في الجماليات المرهفة ويظهر النفس الملحمي التشكيلي، أجاب العلاق قائلاً:
“شكراً أولاً للحبيب أحمد الحريشي الذي أعتز بشاعريته ورهافته. في الحقيقة سئلت كثيراً عن الحيز الواسع للتراث في شعري، وهناك رسالة دكتوراه في جامعة قنا المصرية للباحث حسن علي عن التراث في شعر العلاق، وبالأساطير الرافدينية بشكل خاص. ويبدو لي هناك سبب يتعلق بالعراق نفسه. فأمام الأحداث والمواقف الجسيمة التي مرت بالعراق وأمام هذه الانهيارات وهذا الكون المترامي الذي كان يبعث فينا المحبة وزهو المخيلة، لم أجد إلا أن ألوذ بأساطير وادي الرافدين لمواجهة هذا القبح، وأن ألوذ بالماضي وبالبدايات المتألقة الأولى عندما كانت الروح بعنفوانها وكانت الملاحم في بداياتها عندما كانت نهضة الشعوب في طفولتها الأولى. من يقرأ قصائدي ابتداءً من 2006 تحديداً من قصيدة (هكذا قلت للريح) فصاعداً، يجد منظومة عريضة ومتشابكة جداً من الاساطير ومن الإيماءات ومن تفاعل النصوص كلها تحيل إلى ذلك الماضي المجيد الذي أنا ممتلئ به. وهذا يأتي بنا إلى التماس بين الحداثة والإصالة، فأنا أجد أن الحداثة موقف قبل أن تكون نصاً، فهي موقف فكري وجمالي ووجداني من قبل أن يكتسب النص جسده من خلال اللغة. عندما تكون شاعراً فيجب أن تحدد موقفك أنت بالضبط مما يجري وأن تقول شهادتك، لكن ليس الشهادة الضاجة المنفعلة والمنبرية. بل شهادة جمالية تقولها بضمير يقظ ووجدان حي وبإحساس عال باللغة وبعبقرية اللغة لكي تبقى. أما الضجيج العالي وخطب المنابر مهما كان نبلها ووجاهتها فلا تعمر طويلاً وتذهب مع ظرف الحدث وتنتهي. والشاعر مطالب أن يجسد هذه اللحظات بطريقته الخاصة وبلغته وبمخيلته لكي تبقى شهادة جمالية ماثلة لهذا الجيل والأجيال الأخرى”.
حضور الطبيعة
وعن علاقة الطبيعة بالشعر، وبالمطلق، وبالجذر الرومانسي في النفس البشرية، تحدّث العلّاق قائلاً:
“الطبيعة هي الحاضنة للكثير من تفتحات الخيال وتفتحات الروح. والطبيعة هي التماس الأول مع الخلق ومع الابتكار وهي التماس الأول مع الأسطورة وولادتها. لا يمكن أن نتخيل شعراً أو إبداعاً حقيقياً دون حضور الطبيعة ودون حضور الأسطورة ودون حضور لكل بدايات الإنسانية في النمو والازدهار وفي المواجهات. شعري له تماس مع الطبيعة وهناك تكملة لعبارة الصديق الناقد (فاضل ثامر) حيث يقول إن صلة العلاق بالطبيعة تكاد تكون صوفية أو إشراقية. فأنا لا أوظف الطبيعة للغزل بالطبيعة ولا لعرض مفاتنها بل أجعل منها جزءاً من أداتي والمنظومة الشعرية التي أعمل عليها. أستذكر هنا قصيدتي (شمس واطئة) حيث أبدأ بالفصول الثلاثة وتلاحظ اللغة تحضر بشكل غزير، ثم أهمل الفصل الرابع وهو الخريف حيث أترك اكتشافه لنباهة القارئ. لكنني أصفه بأنه صديقي. فالقارئ عندما يمر في القصيدة وهي مكرسة للطبيعة يجد الصيف يشعل أشجاره ويجد الربيع يبث صباه في الشجر ويجد شيخ الفصول الشتاء يبعث الرعد في سلال المطر لكنه يفتقد الخريف. وأقول في الخريف (وحدَهُ صاحبي/كان يدخل مثل نهارٍ قديمٍ/عصاهُ وضجّتُه الهادئةْ/وحدَهُ صاحبي/كلما مرّ تحزنني شمسُه الواطئةْ). المشكلة أن بعض النقاد عندما يجد كلمة (غيمة أو شجرة أو نهر .. إلخ) يسارع الى وصف القصيدة بأنها رومانسية، وبالتالي كيف ستهرب من الرومانسية إذا كانت هذه الكلمات رومانسية فعلاً؟ والإنسان رومانسي، وكلنا سمع بالكتاب الذي صدر مؤخراً وهو (الإنسان الرومانسي) وهو كتاب ضخم لفيلسوف فرنسي ولمترجم مغربي، يكشف لنا فيه بأدلة شديدة الوضوح والوجاهة أن الإنسان الرومانسي كامن فينا جميعاً لكن الفرق الحاسم والفيصل هو كيف تتعامل مع هذه الطبيعة وهذه الرومانسية.
ومأزق القصيدة الحديثة هو خلوها من الوجدان أو ضعفها الوجداني. ما زلت أتذكر عبارة الناقد الكبير يوسف اليوسف وهو يكتب عن أدونيس، الشاعر الكبير الذي يعادل نصف جدل الحداثة في الشعر العربي منظراً وكاتباً وشاعراً، حيث يقول (إن الخلل يكمن في افتقار المفهوم إلى التحسيس) ويصيغها بعبارة (تحسيس المفهوم) أي أن العبارة مهما كانت جميلة، فلن تؤدي جدواها ما لم تنبع من وجدان ومن جرح داخل الروح لتصف لنا الشاعر عندما يكون كئيباً أو حزيناً أو غاضباً أو يائساً وبالتالي سيتحول الشعر إلى لعب على هامش اللغة. لعب محايد جداً وبأعصاب باردة جداً كأن منطقة حياد تفصل بين ذات الشعر واللغة التي هي معطى خارج الشاعر. القصيدة العمودية هي أسرع اشتعالاً بالأحداث من قصيدة التفعيلة لسبب يتعلق بطبيعة البناء وطبيعة الجهد المطلوب في تشييد النص الشعري. والقصيدة العمودية لها تاريخ طويل من الارتباط الوجداني بالأحداث، بوجود الإيقاع وبوجود القافية وبالطريقة التي أصبحت راسخة في وجدان الشعراء من التفاعل مع مجريات الحياة. لكن الحكم يظل صادقاً وقائماً إلى حد كبير. في بعض القصائد تجد ثمة براعة في التشييد والبناء وحتى في الإدهاش لكنه إدهاش عابر لا يعمر طويلاً في وجدان القارئ. متى يكون النص معمراً وقادراً على البقاء وعلى متابعة القارئ والعلوق بذاكرته؟ عندما يجمع بين شرطي المعادلة الشعرية، أن يكون نصاً جميلاً يكشف عن شاعرية عالية عن بناء، والجزء الثاني هو ذلك الضمير المجروح في داخل الشاعر والوجدان الذي يلتهب ويحس ويغني غناءً قد يكون منكسراً لما يجري من أحداث. أما متابعة الأحداث بلغة منبرية، فهذا في ظني يسقط من شجرة الشعر ولا يعد من ثمارها المعتبرة”.
الشاعر والمتلقّي
وفي إجابة عن سؤال الشاعر (أيهم العباد) حول رؤية العلاق لعلاقة بين الشاعر والمتلقي، أجاب العلاق قائلاً:
“عندما أستذكر المقولات التي تتحدث عن العلاقة بين الشاعر والمتلقي فكأني أستحضر معلومات مدرسية. عندما قلت إن لي شريكاً في كتابة القصيدة كنت أعني أن ليس هناك ذاكرة بيضاء تكتب القصيدة من العدم أو تنطلق من الصفر أو من عماء مطلق بل الشاعر يتكئ على خزين من القراءات المنسية أحياناً توقظها حادثة أو وجه أو عبارة. ربما قصيدة تسمعها تجعل ذلك الخزين يستيقظ من جديد. الأصابع التي تكتب بها لها أهداب وليس أظافر منها يتسلل هذا الحبر أو هذا الدمع. وهذه اليد تتصل بقلب وتتصل بوجدان وتتصل بعقل وتتصل بذاكرة. كل هذه المنظومة من الأعضاء ومن الاهواء ومن الغرائز والرغبات كلها تغذي كتابتك. فأنت عندما تكتب نصاً لست الوحيد الذي ينصرف الى كتابة هذه القصيدة في تلك اللحظة. واللحظة التي أنت فيها، اللحظة الجمالية أو اللحظة الشعرية ليست معزولة عن التيار الزمني فكل ما قرأت وكل ما سمعت يحضر بشكل غير مباشر. وليس غريبا عنا تلك النصيحة التي سمعها أبو نواس عندما أراد أن يكتب شعراً وهو صبي حيث يجد قلقاً لا يجد له تفسيراً ويريد أن يكتب فقال له شيخه (اذهب واحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر) وذهب فترة ثم عاد وقال ها أنني قد حفظتها، فقال له شيخه (إنسها إذن) فتعجب الفتى وكان في حيره من عمره، كيف يستطيع أن ينسى وأن يحفظ؟ فإذا كان فعل الحفظ إرادي ففعل النسيان ليس كذلك. لكنه لم يضع يده على الحكمة من مقولة الشيخ وهي (لا تكتب وأنت تضع نصب عينيك النصوص التي حفظتها ومن هذه اللحظة اكتب ذاتك أنت). والشاعر عندما يكتب وجدانه هو وينطلق من أوجاعه وأحاسيسه سيعثر على طريقه الخاص. وكلما كان صادقاً ستجد القصيدة رواءها وجذورها الممتدة في ذلك الماضي البهيج أو المتوتر.
الشعر والإيقاع
وحول تعريف الإيقاع في القصيدة وموقف قصيدة النثر تحديداً منه ومتى يمكن أن نرى لها خصائص فنية محددة مثلها مثل القصيدة الموزونة، تحدث العلاق قائلاً:
“أؤمن لا شعر حقيقي بدون إيقاع. ولا أعني بالإيقاع البحور المعروفة بل أعني الإحساس باللغة وإيقاعها حتى في قصائد النثر فهناك فرق بين قصائد يكتبها شعراء نثر متميزون وقادرون ربما نشأوا في حاضنة الإيقاعية وبين قصائد يكتبها شاعر لا صلة له بالإيقاع ولا يعرف الفرق بين القصيدة الموزونة والقصيدة غير الموزونة ولا يعرف هذه القصيدة المقفاة هل هي مجرد سجع أم هي قصيدة حقيقية. هناك ظاهرة الآن في المشهد الشعري العربي والعراقي أن الكثير من الشعراء للأسف الشديد، خاصه من أجيال شابة، تظن أن هجران الوزن والقافية هو في حد ذاته إنجاز شعري. وقد قالها عبد القاهر الجرجاني قبل مئات السنين، لا يكون الشاعر شاعراً لأنه قفى ولا لأنه وزن، بل لأنه ذكر وأضمر وقدم وأخر بمعنى البناء. العيب ليس في الإيقاع بل في الشاعر كيف يستثمر هذا الإيقاع. الإيقاع متاح للجميع. محمود درويش يكتب شعراً إيقاعياً لكن عمر الإيقاع في شعر محمود درويش لم يكن عبئاً على قصيدته. كان عنصراً من التأجيج الجمالي وتأجيج اللغة وتأجيج الصورة والوصول بالحالة إلى مديات شديدة من التفجر والتوتر. ولولا هذا الإيقاع ما وصل إلى هذا التوتر. أنا أحتكم إلى حقيقة في تجربة أدونيس نفسه، هذا الشاعر الضخم الغزير والمتنوع في كتابته، لا أظن أن هناك قصيدة نثرية تضاهي قصائده الموزونة. مجده الحقيقي يكمن في قصائد الوزن والإيقاع التي لديه. أدونيس حتى هذه اللحظة يكتب القصيدة ذات الإيقاع على البحور الشعرية المعروفة لكنه يفجر الكثير من علاقاتها والكثير من أوقاد بنائها ليقدم لنا شيئاً جديداً. أي قصيدة من قصائد أدونيس ترقى إلى قصيدة (هذا هو اسمي)؟ أو (تحولات الصقر)؟ أو (تحولات الغزالي)؟ او (الأبجدية الثانية) أو (إسماعيل)؟ هذه قصائد خارقة وهائلة جداً، كذلك قصائد (الكتاب) في المجلدات الثلاثة معظمها يُكتب على الإيقاع. وتعرفون البناء حيث الهامش فيه نصوص والمتن فيه نصوص والهامش أسفل الصفحة فيه نصوص. عمل خلطة من التشكيل الجمالي والفني الكبير جداً. يشكل الإيقاع عصب تجربة أدونيس حتى هذه اللحظة”.
بحور مركّبة
وحول شغفه باستخدام البحور الشعرية المركبة تحدث العلاق قائلاً:
“الشاعر يكتب القصيدة الموزونة وقصيدة النثر باعتبارها رئة إضافية. بالنسبة لي وجدت جاذبية خاصة في استخدام البحور المركبة وتستغرب حين أقول إني أجد فيها فضاءً أكبر في التعبير ولا يضيق بالتوتر الذي أعيشه مقارنة بالبحور الصافية. قد تصلح البحور الصافية للعاطفة المنفردة وللحدث المفرد الواحد الذي لا تتشابك فيه العلاقات ولا تتقاطع الدوافع ولا تصطدم الأهواء. محمد عفيفي مطر على سبيل المثال من الشعراء الذين استثمروا البحور المركبة، وهو يجد هذا احترافاً ويقول إن البحر المركب له شعرية خاصة وغزارة إيقاعية لا تتوفر في البحور المفردة أو الصافية كما تسميها نازك الملائكة”.
ذروة الحداثة
وحول مقولته السابقة أن قصيدة النثر لا تمثل ذروة الحداثة في الشعرية العربية وعن موقفه من قصيدة النثر، تحدث العلاق قائلاً:
“في حديثي عن قصيدة النثر أستبعد دائماً مبدأ المفاضلة بينها وبين القصيدة الموزونة. أنا اقول هذه أشكال شعرية متاحة ويبقى للشاعر ولموهبته ولثقافته ولوعيه وقدرته على استثمار هذه الإيقاعات أن يكتب قصيدة نثر أو قصيدة تفعيلة. أنا أجد الكثير من قصائد النثر جميلة جمالاً لا يضاهى وتنسيك أنها تفتقر إلى الوزن لأن الغنى الموجود في الصورة وتوتر عبارتها وشدة الإيجاز والبناء يجعلها شعرية بامتياز. لكن هناك قصائد تفعيلة أو نثر تستطيل وتستمر وتنفتح على إطالات وترهلات وباروكات لغوية دون نهاية وبالتالي هذا يتعارض أصلاً مع الشعر. الشعر لغة الخطف ولغة الرعد، لغة خاطفة وسريعة. وهذه الومضة الوحيدة عندما تتفجر تحيل إلى تاريخ طويل من العلاقات والتداعيات. الشاعر القادر هو الذي يقدم قصيدة ملمومة ومبنية بناءً جميلاً لا يتسع للهذر. شعرنا مليء بالهذيان ومليء بتوارد الخواطر. الشاعر أحيانا يقول كل ما يشتهي وعندما تستطيل القصيدة نقول يا ليته وقف عند هذا المقطع أو ذاك. وأحيانا تنتهي بطريقة معكوسة فنقول لماذا انتهى ما زلنا متعطشين إلى المزيد كأن القصيدة مبتورة. الشاعر يواجه محنتين عندما يكتب نصاً شعرياً، المحنة الأولى محنة البداية أو المفتتح، هذه المحنة التي حار بها النقاد فقالوا هذه عطية الله يلقيها بين يدي الشاعر ويستثمرها. بعدها يستمر، إذا كان شاعراً حقيقياً، ويفجر من هذه البداية جسد القصيدة. المحنة الثانية فهي الخاتمة”.
الشاعر والناقد
وحول صراع الشاعر والناقد في ذاته الواحدة، تحدث قائلاً:
“هذه الازدواجية موجودة في الذات الواحدة ليس الآن فقط بل حتى في الماضي. ما زلت أتذكر عندما قدمت مقترحاً لزملائي في مجلة الأقلام سابقاً حول العدد الخاص بالشاعر العربي الحديث ناقداً، وجدنا أن كل أصحاب المختارات في الشعر العربي القديم كانوا يختارون على ضوء ما، ضوء نقدي، يقوم على موازنة وعلى اعتبارات وعلى مقاييس. ففي كل شاعر ثمة ناقد كامن، وهذا الناقد الكامن لا يستيقظ مع بداية كتابة النص بل يتربص إلى نهاية القصيدة. وما أن ينتهي الشاعر من لحظة الحلم تلك من لحظة انغماره بالكتابة وينفض عن اردانه وعن مخيلته بلل القصيدة حتى يصحو الناقد ويمارس دوره. أين هذا الدور؟ وأنا لا أتحدث عن الشاعر الناقد، بل عن أي شاعر، هي لحظة التمحيص والمراجعة، هي لحظة نقدية تلي اللحظة الشعرية. عندما يعيد كتابة النص أو بعض جمل النص، عدما يشد من مفاصل المقدمة، عندما يجعلها أكثر إثارة وتشويقاُ للقارئ، عندما يجعل نصه أكثر تماساً مع الوجدان ومع المخيلة في آن، عندما يجد أن حصة الواقع والتعبير المباشر تطغى على حصة الخيال فيحاول المواءمة بينهم، عندما يجد أن الختام فاتر وأنه بحاجة إلى شغل أكبر. كل هذه الأمور التي تعني المراجعة هي مراجعة نقدية تحدث عند أي شاعر. أما الشاعر الناقد والذي يمارس الفنين بشكل مكرس، وله شهادة علمية فيه وله عمر من التدريس الأكاديمي فيه، فالأمر يبدو أكثر تعقيداً. أنا عانيت هذا الصراع لكن كنت واعياً منذ البداية أن ثمة خطورة لا ينجو منها شاعر جمع بين كتابة النقد وكتابة الشعر. كان أساتذتنا من كبار النقاد الذي تتلمذنا على أيديهم أو على كتبهم درساً لي في هذا المجال، حيث كان شعرهم ضامر اللغة جاف العبارة وشحب الحلم في نفوسهم. لهذا السبب اخذت الحيطة منذ البداية ألا أستغرق في عمل نقدي هو بحث في حد ذاته فأنا أنفر من البحث وأجد متعني مع الكتابة النقدية عندما أشتبك مع النص. عندما أحلل نصوص الآخرين أجد نفسي أكثر قدرة على كتابة نقدي الخاص. وعندما أكتب نصاً شعرياً أجد في نفسي رضاً عنه أو يجده النقاد كذلك، أجد أن هذه القدرة تنعكس على تحليلي لشعر الآخرين. اشتباكي في معظم ما كتبت كان في النقد التطبيقي مع نصوص ماثلة في حد ذاتها تتبع الدوال اللغوية ولعبة الصورة وكيفية تصرف الشاعر بلغته. أما البحوث التي تنصرف لكتابة بحث يخلو من الاقتراب والتماس مع نص بذاته فقليلة جداً في نقدي”.
حظوة كبيرة
وفي إجابة عن سؤال حول سبب نيل قصيدة النثر حظوة كبيرة لدى النقاد على حساب القصيدة العمودية، أجاب العلاق:
“ما أراه الآن على شبكات التواصل الاجتماعي، أو في الصحافة، أو في المنتديات الشعرية، وفي المهرجانات والمؤتمرات، أن هناك ثمة تساهل في الاحتفاء بقصيدة النثر. الكتابة عن قصيدة النثر أسهل من الكتابة عن قصيدة التفعيلة والسبب أنك مع قصيدة التفعيلة تدخل في صراع حقيقي مع عناصر ماثلة ومحسوسة ويمكن التحقق منها. عندما تتحدث عن الإيقاع لا تتحدث في الهواء. وكذلك عندما تتحدث عن الصورة وعن التوازي وعن كثير من المعطيات تتحدث عنها وهي ماثلة. في قصيدة النثر يستطيع الناقد أن يضفي عليها كل ما حفظه من مصطلحات وما امتلأت به جعبته من تعابير وألفاظ التمجيد. وأنا لا أعني أن العيب في ذلك عند كتّاب قصيدة النثر بل أعني أن بعض النقاد وجد الكتابة في قصيدة النثر فيها سهولة كثيرة. قدمت في إحدى المهرجانات مداخلة عن نقص الإيقاع في قصيدة التفعيلة إذ لا أحد يتحدث في هذا الموضوع. كما لا أحد يتحدث كما تحدث كمال أبو ديب أو علوي الهاشمي وابراهيم خليل وعبد اللطيف الوراري فهؤلاء النقاد لم يتخلوا عن التحليل الإيقاعي بل ظلوا يجدون في الإيقاع مكوناً شعرياً وجمالياً يوصل إلى الدلالة إلى مبتغى نقطة التوتر والتوهج ويخدم جمال القصيدة وبنيتها. لكن في قصيدة النثر في الغالب فالناقد يتحدث بإيمان غيبي كأنه يؤمن بألوهة لا تطالها الحواس وإنما يطالها إيمانه بالغيب. يتحدث عن إيقاع داخلي وعن تجاور في الأصوات وقد تصدق هذه الكلمات وقد لا تصدق على قصائد معينة. وقد يعجب حتى الشعراء أنفسهم من هذا الكلام الذي لا يحلمون به حيث يغدق على نصوصهم وبعضهم يخطئ حتى في الإملاء ولا يعرف الفرق بين القصيدة الموزونة وغير الموزونة. وهذا ما نجده شائعاً عند بعض النقاد وشائعاً عند بعض من يكتب قصيدة النثر. وأنا هنا لا أعمم أبداً، ولكن أشعر حقيقة بإن هناك خلل أو فقر كبير في النقد الشعري لأنه أهمل نقد الإيقاع ونقد الوزن في الشعر العربي”.
الدرس الأكاديمي
وحول سؤال عن كيفية محافظة الشاعر الأكاديمي على قناعاته أمام الحقائق المنهجية في الدرس الأكاديمي، أجاب العلاق قائلاً:
“العمل والأخلاق الأكاديمية تفرض على الأستاذ التقيد بالحقائق لكن لا يتدخل في تفاصيل الذائقة. فمهمة الأستاذ العلمية حينما يتحدث عن خصائص القصائد بأشكالها المختلفة هي تقديم هذه الخصائص والحديث عنها بموضوعية بالغة وبعبارة قريبة لأذهان الطلاب وجاذبة لهم وتقدم لهم الحقائق لتركهم أحراراً في الاختيار. والمهم ألا تقدم أسوأ النصوص كتجسيد لما تتحدث عنه بل النصوص المتميزة لشعراء مشهود لهم بالتميز كنماذج شعرية مشرقة ما زالت حية وقادرة على العيش أو على التعايش على الاقل فيما بينها”.
وفي سؤال للشاعرة الدكتورة شفيقة وعيل عن رأي الشاعر علي جعفر العلاق في أن الدرس النقدي العربي، وإن انتشر اليوم كماً، فهو ضبابي جداً ويستند في الأغلب إلى مفاهيم غير واضحة ولم يستطع بناء رؤية منهجية أصيلة له، أجاب العلاق قائلاً:
“لدي كتاب عنوانه (من نص الأسطورة إلى أسطورة النص) عن هذه النقلة بين مرحلة من مراحل الشعر العربي حيث تأخذ الأسطورة كنص وتعيد نثرها من جديد، وبين أن يتمثلها الشاعر ويهضمها ويعيد انتاجها لتصبح مغايرة للأسطورة الأولى بالمعنى الإيجابي وأنها صارت أسطورة هذا النص الماثل أمامنا. وكتبت مقدمة للكتاب اسمها (التحديق في الشرر) وكنت أعني به هذا الوابل الشديد من النظريات ومن الاتجاهات ومن المقاربات التي تأتي من الخارج ويتلقاها بعض النقاد دون وعي ودون تروي. وقلت إن بعض نقادنا، للأسف، ما زالوا في مرحلة الانفعال في النقد لا التفاعل. الانفعال يضعنا تحت سطوة هؤلاء النقاد وننظر إليهم كأنهم كواكب نارية لا يمكن الوصول اليها ولا يمكن إلا التبرك بأضوائهم والكتابة بوحي مما يكتبون. أما التفاعل فهو أن تفتح المجال لهذه النصوص الوافدة إليك لتمتزج مع ما تفرزه الذاكرة ومع ما تستطيع المخيلة أن تتصوره لتخرج من هذا التفاعل برؤيا وبمنهج وبملامسة للنصوص العربية تستفيد من هذا الوافد الجديد. ولهذا دائماً تحضر لدي هذه المفارقة فعندما نأخذ مجموعة من النقاد ونفترض أنهم ينتمون كلهم إلى مدرسة فلا نقرؤهم بنفس المتعة ولا نتابعهم بنفس الشغف ولا نضعهم على صف واحد من الأهمية بسبب الفروق الفردية بين ناقد وآخر. الفرق الفردي مهم هنا فلو قرأت كتب الكون كلها لن تجعل منك ناقداً مهماً. النقد موهبة وليس مجرد حصول على شهادات أكاديمية. وهي موهبة في التقصي وتفكيك النصوص والإحساس بجمالها لمعرفة المنطق الشعري للنص. فربما ثمة ناظم خفي أو خيط لا يكاد يرى استخدمه الشاعر لبناء نصه. وهذا هو التحدي بالنسبة للناقد وعندما يعثر عليه يكون استطاع فعلاً أن يستفيد ويفيد من جانب التراث ومن جانب الموهبة ومن جانب ما قرأ من مقاربات ونظريات جديدة في تحليل النص”.
حسد ثقافي
وعن ظروف استقالته من رئاسة تحرير مجلة أقلام العراقية ومغادرته العراق عام 1991، تحدث العلاق قائلاً:
“في الحقيقة لم أتحدث عن هذه القضية إلا مرة واحدة في مقالة كتبتها في مجلة ثقافية عراقية ضمن شهادة عن عملي في الصحافة الأدبية. وتحدثت عن جانب من التشفي والشماتة والحسد والغيرة التي تحكم هذا الوسط. ومن جملة ما تحدثت عنه هو ما حدث عام 1990 حيث أقيم معرض لكتب الرئيس العراقي الأسبق والمترجمة إلى لغات أخرى. وغاب عن هذا المعرض عدد من رؤساء التحرير وكنت أنا واحداً منهم. ولم يكن غيابي تحدياً ولا بطولة مني ولا استعراضاً للذات بل نسيت فعلاً أمر المعرض في ذلك الوقت. فوجئت في اليوم التالي بقرار وزير الثقافة والإعلام (لطيف نصيف جاسم) آنذاك بإعفائي من رئاسة تحرير مجلة أقلام، وكذلك إعفاء ياسين طه حافظ من رئاسة مجلة الثقافة الأجنبية وحاتم الصكر من رئاسة مجلة الطليعة الأدبية. بعدها صدر أمر نقلي إلى دائرة الإعلام الخارجي وهذا ما رفضته تماماً. وتواصلت مع الوزير عبر الدكتور محسن الموسوي آنذاك بأني أرفض أن أكون مجرد موظف يشغل غرفة في دائرة بعيدة عن تخصّصه، وطلبت إما إعادتي إلى الجامعة لأمارس العمل الأكاديمي، أو أن أحال إلى التقاعد. ظلت الوزارة تماطل حينها إلى أن قابلت الوزير بنفسي وطلبت موافقته على إحالتي للتقاعد. تفاجأ الوزير من طلبي حيث كان عمري حينها 44 عاماً فقط، لكني طلبت منه الموافقة من أجل الحفاظ على مودّة العمل معاً في الأيام السابقة. بعدها سحب الوزير القلم ووقّع بالموافقة على طلبي. تزامن ذلك مع أزمة دخول العراق في الكويت، وما تلاها من أحداث حيث تم منع السفر. وبقيت أنتظر إجراءات فتح السفر لألتحق بالعمل في جامعة صنعاء حيث كنت قد وقّعت عقداً للعمل معهم قبل سنتين من التحاقي، وكان ذلك بتنسيق الدكتور عبد العزيز المقالح – شافاه الله وعافاه- . التحقت بالجامعة متأخراً عن السنة الدراسية باعتباري أستاذاً زائراً. هذا يعكس أن أنظمتنا مهما تظاهرت بحرية التعبير لكنها في الحقيقة لا تترك إلا هامشاً صغيراً لحرية التعبير، وعليك أن توسّع بنفسك هذا الهامش لتقدم نصوصاً وملفات ودراسات ثقافية وأدبية. ويتذكر الدكتور حاتم الصكر جيداً أن الملف الذي قدمته مجلة أقلام بعنوان (الشاعر العربي الحديث ناقداً .. أدونيس والمناصرة والعلاق نموذجاً) تحول بعد ذلك رسالة للدكتوراه قدمها الناقد العراقي علي المرسومي. وبعد صدور عدد مجلة الأقلام الذي يحتوي الملف آنف الذكر، اتصل بي الدكتور محسن الموسوي وطلب مني قراءة تقرير تحت يده يتهمني بتكريس هذا العدد من المجلة للاحتفاء بشخصيات محسوبة على الدوائر الغربية، ومخابراتها، واستخباراتها. كانت الصدمة كبيرة عندما عرفت من الخط الذي أعرفه تماماً أنه يعود إلى صديق مقرّب تربطني به علاقة تمتدّ لعشرين عاماً، وعمل معي في المجلة ذاتها. كل هذا بسبب رغبته بالعودة إلى المجلة حتى لو كان على حساب صديق من أصدقائه”.
العزلة مضرّة بالشعر
وحول تأثير العمل الأكاديمي والعمل في إدارة المؤسسات الثقافية على التدفق الإبداعي لديه، تحدث العلاق قائلاً:
“للعمل في الصحافة الأدبية مردود ممتاز جداً للشاعر. وإلى جانبك مثال رائع هو الشاعر عبد الرزاق الربيعي الذي عرف كيف يستثمر وقته خلال عمله في الصحافة الأدبية لإنتاج نصوص رائعة، وحيوية، وجميلة، وفي نفس الوقت كان دينامو لكثير من الفعاليات الثقافية. العزلة عن الحياة مضرة في الشعر وفي الكتابة إذ يبدأ عصب القصيدة بالذبول والتخشب لأنه لا يبنى على تجربة حقيقية. والتجربة الحقيقية لا تعني المباشرة بالطرح بل تعني أن تستثمر الواقعة الحياتية وترتقي بها إلى واقعة شعرية. حينذاك تخرج العبارة الناجحة بعد أن نزعت عنها القشور الواقعية والظرفية التي كانت تلف الحدث. في الجامعة استفدت كثيراً من تفاعلي مع الأجيال الجديدة من الطلبة وأنا أدرسهم. كان طقساً يومياً معتاداً بالنسبة لي أن تبدأ محاضراتي مع النهار على خلاف الكثير من الأساتذة الذين يفضلون محاضراتهم بعد الظهيرة. أنا أذهب صباحاً مع يقظة الحياة مع دبيب اللحن والإيقاع والصوت في جسد المخلوقات والكائنات والأشياء. بعدها أقدم لطلابي نصوصاً ممتعة تثير خيالهم وتثير لديهم نزعة النقاش ويبدأ تفاعلهم وأحرض الخامل منهم على أن يقتدي بالمجتهد وهكذا أخلق ضجة الحياة. أشرفت على مدى عشر سنوات تقريباً على اللجنة الأدبية في نادي الإبداع في جامعة الإمارات فتخرجت مجموعة كبيرة من الشعراء والشاعرات ومن كتاب وكاتبات القصة أيضاً. وهذا إنجاز أفخر به كثيراً”.
شعريّة متشظية
وعن المشهد الشعري العراقي بعد جيل الستينيات، تكلم العلّاق قائلاً:
“الشعرية العراقية الآن متشظية وموزعة على منافي العالم والإتيان بوصف عام وشامل لها صعب جداً. ولكن هناك أسماء ظلت وقدمت بعمق ولا أكون مجاملاً حينما أذكر عبد الرزاق الربيعي، وعدنان الصائغ، وخزعل الماجدي. هناك أسماء أفتقدها لأنها لم تكتب منذ زمن مثل زاهر الجيزاني على سبيل المثال والذي كان صوتاً جميلاً جداً في وقته ولكنه لم يواصل أو أنني لم أتابع ما كتب. وهناك سلام كاظم أيضاً الذي يبدو لي أنه توقف عن الكتابة والنشر. جواد الحطاب أيضاً شاعر ممتاز جداً ومن المتميزين في جيله. أما حميد قاسم فشاعر عذب العبارة وأحياناً تنسى أن قصائده النثرية هي نثر لما فيها من دفء وجداني واتكال على الموروث الشعبي لكني أيضاً لم أقرأ كتاباً جديداً له. وربما خروجي من العراق منذ ثلاثين عاماً جعل شهادتي غير ملمة بتفاصيل المشهد العراقي لذا أعتذر من كل من لم يرد اسمه هنا لهذا السبب. ربما أضيف شاعرا مهما هو أديب كمال الدين الذي نحت اسمه بصبر وأناة ومثابرة، واشتغل على الحروفيات”.
قساة على بعضنا
وعن رأيه في مكامن الخلل الثقافي الذي يؤدي إلى مجافاة أسماء مبدعة في المشهد الشعري العراقي، تحدّث العلّاق قائلاً:
“هذه جزئية صغيرة من ظاهرة أعظم وأشمل فنحن لا نعرف الصفح ولا الغفران ونحن قساة على بعضنا البعض إلى حد كبير وننسى أننا يمكن أن نقع في هذه الدائرة في وقت ما. الشعراء في العالم ارتكبوا من الحماقات الفكرية والسياسية ما يجعلهم خارج دائرة البشر ومع ذلك يحتفى بتراثهم وانجازاتهم ويعتبرون مهمين في بلدانهم. نأخذ ستيفن سبيندر على سبيل المثال وكثيراً من الشعراء الذين آزروا هتلر أو موسوليني وغيرهم من الطغاة والسلاطين. يجب عندما نأتي إلى الابداع أن نحسم ونحدد الفرق. في العراق حتى النقد لم ينجُ من الأدلجة فتارة يكون ماركسياً وتارة قومياً وتارة أخرة اجتماعياً وبالتالي إن لم يكن الشاعر من هذه الدائرة أو تلك فلا يحتفى بما يكتب. أخذوا على يوسف الصايغ وعلى عبد الرزاق عبد الواحد تنقلاتهم وتحولاتهم السياسية. والسؤال لماذا نحارب الكتّاب والأدباء والمثقفين بينما الثقافة والأدب لا يعنيان الوقوف والجمود أمام حقيقة واحدة في الحياة. علينا أن نفصل بين الإنسان وتحولاته الفكرية وبين كتابته. أنا شخصياً أحتفي حتى بالتجسيد الشعري لهذا التحول”.
قصائد الأطفال
وعن تجربته الشعرية في الكتابة للأطفال في السبعينات، تحدث قائلاً:
“كثيرون كتبوا شعراً للأطفال مثل عبد الرزاق عبد الواحد وعبد الرزاق الربيعي وفاروق سلوم وكريم العراقي ودواي الفهد ونبيل ياسين وحميد قاسم وآخرون. حتى شعراء عالميون كبار كتبوا للأطفال مثل بوشكين وإليوت. بعد ولادة وصال بنتي الكبرى انفتحت أبوتي وانفتحت مخيلتي وذاكرتي لنسيم جديد لم أعهده سابقاً نوع من الحنو على كل شيء. فبدأت بكتابة قصيدة لها وهي في روضة المأمون حيث طلبت مني مقطوعة لتقرأها أمام مدرستها وكان وزير التربية حاضراً. بعدها التقيت بفاروق سلوم الذي كان يرأس تحرير مجلتيّ (مجلتي والمزمار) فشجعني على الكتابة للأطفال فكتبت مجموعة نصوص منها (انزل على أشجارنا يا مطر) التي غنتها بلقيس فالح وأغنية (طار العصفور) التي غنتها مي أكرم. وأتمنى أن تجمع النصوص التي نشرت في (مجلتي والمزمار) لأنشرها في مجموعة شعرية للأطفال”.
حرية ليست مطلقة
وعن سؤال للشاعر اليماني (جبر علي بعداني) جاء فيه (عندما نقرأ مؤلفات النقاد الكبار في التنظير للفعل النقدي ننبهر بالمستوى العالي لرسم ملامح حقيقية وجادة للنقد العربي، ولكن عندما نرى إسهامهم في المسابقات الشعرية نشعر أن تنظيرهم في واد وتطبيقهم في واد، فهل هذه الفجوة ناجمة عن ضغوط من الجهات الراعية للمسابقات أم محاولة من النقاد للنزول بالفعل النقدي إلى مستو الجمهور؟)، أجاب العلاق:
“الشاعر والناقد والمبدع والمفكر في بداننا ليس حراً حرية مطلقة. وطالما ارتبط حتى في أكل عيشه بمؤسسة حكومية فسيظل هذا الجانب يمارس الضغط عليه. والناس يختلفون في درجة صمودهم أمام المغريات أو الضغوط أو الإيحاءات التي تأتي من لجان التحكيم أو من اللجان المشرفة على المسابقات وحتى المؤتمرات. ولأن النقد موقف أخلاقي وهو أكثر فنون التعبير احتمالاً لسوء النية، كما يقول أحد النقاد، فيفترض بالناقد أن يتمتع بالحصافة والمناعة الذاتية. قد يسيء الناقد إلى تجربة شاعر عندما يصمت ولا يتحدث عنها وهذا في أفضل الفروض، ففي أسوأ الفروض أن يتحدث عنها بالضد. وفي المقابل عندما يتحدث عن سوى هذا الشاعر ممن هو أقل شاعرية منه، تراه يجرد كل أسلحته النقدية وإرهابه اللفظي وكل ما عرفه من مصطلحات ليطبقها على نصوص قد تجعل من هذا الشاعر يستحق جائزة نوبل وهذا في لحظة ضعف إنساني تتعلق بالصداقة والمجاملات. وهذا موجود في عالمنا إلا القليل من النقاد الذين يسمون على هذه التصرفات وواصلوا حرصهم على مشروعهم النقدي بموهبة حقيقية وبضمير يقظ وحي يجعلهم يصغون إلى القصيدة بعيداً عن أي موجه آخر يأتي من خارجها”.