انتكاس المعايير(٢)
رضا راشد | باحث بجامعة الأزهر – مصر
ألم تر إلى ربك كيف خلق الإنسان فسواه فعدله؛ إذ جعل لكل عضو من أعضائه مكانا ومكانة وهيئة، بها يؤدي وظيفته التي وكل بها من ناحية، كما يتسق مع إخوانه من الأعضاء في الجسم كله من ناحية أخرى؛ تدليلا على ما ميز الله به الإنسان من الجمال والتكريم 《ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا》[الإسراء:٧٠].
فإذا رُمْتَ (أي:تطلبت) تبديل أي عضو من مكانه كان من ذلك: عجزه في مكانه الجديد عن القيام بوظيفته التي وكل بأدائها،وفقدانه مكانته، وتشويه تلك الخلقة التي كرمها ربنا وفضلها على كثير ممن خلق تفضيلا. وإن شئت فتخيل كيف يكون الحال لو وضعت العين موضع القفا، والقفا موضع العين، وأبدلت اليد اليسرى مكان اليمنى، والعكس، وكان الرأس في موضع القدم والقدم محل الرأس ..هل يكون من ذلك إلا الفساد والإفساد وإلا تشويه الخلقة؟!
هذا ما هو كائن في عالم الإنسان، وكذلكم ما يكون أيضا في عالم الأكوان، إذ وضع ربنا عز وجل كل مخلوق في المكان والمكانة التي يستطيع أن يقوم بما نيط به من مهام ووظائف، فإذا أزيح عن مكانه ومكانته إلى مكان أو مكانة أخرى أوتكليف بمهمة غير التي وكل بها ..لم يكن إلا الفساد والإفساد عاقبة وخيمة لهذا العبث .
إن السماءَ سماءٌ، والأرضَ أرضٌ، والرجلَ رجلٌ، والمرأةَ امراةٌ، والأسد أسد، والذئب ذئب، والقط قط، والفأر فأر..فإذا ما استأسد الفأر، وتذاءب القط،واستنوق الجمل، واستتيست الشاة، وتخنث الرجل، وترجلت المرأة، وصارت السماء أرضا، والأرض سماء، والقاضي متهما، والمتهم قاضيا، والصغير كبيرا، والكبير صغيرا ..فهل ترى لذلك من عاقبة إلا الفساد الوبيل والشر المستطير؟!
إن أخطر ما ينتظر أمة من الأمم أن تغشاها سحب السنوات الخداعات فلا تمطر الأمة إلا فسادا، وإفسادا، وخرابا، وهلاكا،( تلكم السنوات الخداعات التي تنقلب فيها المعايير: فيصدق الكاذب، ويكذب الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وينطق فيها الرويبضة؛ وهو الرجل التافه يتكلم في أمر العامة، كما ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن تكذيب الصادق وتخوين المتهم لهو انتحار للأمة؛ لأنه إذا ما كان الانتحار إزهاقا للروح وحرمانا للنفس من الحياة، فإن في تكذيب الصادق وتخوين الأمين وأدًا لطاقات الأمة وحرمانًا لها من خيرة أفرادها.. ذلك سيء؛ لأنه يعني توقف الأمة عن السير في طريق الحياة والنهضة والتقدم.
وأسوأ منه أن تلقي الأمة بمقاليد أمرها إلى من لا يستحق، حين يوسد الأمر إلى غير أهله: فيصدق الكاذب، ويؤتمن الخائن….ثم يتمادى الأمر إلى أشد ما تصاب به أمة وهو أن تضل عن طريق رشدها فتصغي بآذانها إلى من لا يسمع له ولا يؤبه به؛ الرجل التافه يتكلم في أمر العامة. وحينها تعشش الغربان في سماء الأمة وتنطلق فيها البوم مؤذنة بالخراب ..وإنما كان ذلك أسوأ من ذي قبل؛ لأن الأمة -بما ابتليت به منه- لم تكتف بالتوقف عن المسير في طريق التقدم والتحضر؛ بل سارت في الطريق المعاكس؛الطريق الذي ينتهي بها إلى الخراب والدمار.
وما الذي حدث بقوم لوط منا ببعيد؛ فإنهم لما فسدت فطرتهم وانتكست طبيعتهم، فراموا اللذة من غير محلها، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم كان الجزاء من جنس العمل؛ فنُكِّسَتْ قراهم، فجعل عاليها سافلها 《فلما جاء أمرنا جعلنا عاليَها سافلَها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود》[هود: ٨٢]
ولهذا أيضا لعن رسول الله صلى الله عليهم وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء،واللعن: الإبعاد والطرد من رحمة الله، وفي ذلك ايضا جزاء من جنس العمل؛ فإنه لما كان تشبه المرأة بالرجل وتشبه الرجل بالمرأة خروجا عن سنن الفطرة عوقب أصحابه بالطرد من رحمة الله، وكأنهم لما خرجوا بفساد فطرتهم عن السنن القويم أخرجوا من رحمة الله؛ جزاء وفاقا.