قراءة في قصيدة سليم النفار في مديح أمير قطر
د. خضر محجز| غزة – فلسطين
أولاً: النص: نداء الأمل:
رأسي.. تدك حدوده النار
من كل ناحية،
يباغته انفجار
من ذا يحاصره.. بأسئلة،
ليختل المسار؟
من ذا يحرره.. من عتمة التفكير،
كي يأتي بساعده النهار
من ذا على عجل،
يعيد الدرب من موت..
فيلحقه انتصار؟
من ذا سوى عرب،
ما في نسغهم عز وإكبار.
يا قائد الآمال،
في دوح علت فيه الثمار
إنا عليكم نبتني أملا،
فكم لتميم عز لا يضار
أنتم هنا حمد..
على حمد، تسبح باسمه الدار
(المصدر: صحيفة العرب القطرية. عدد يوم 13/11/2010) بعد زيارة الشاعر سليم النفار لقطر في أواخر العام 2010
ثانياً: في تحليل الشكل:
ثانياً/1: تمهيد:
سنبحث هنا عن ذات المؤلف في النص: هل هي ذات أصيلة تعبر عنها اللغة، أم هي مجرد ذات غير متحققة، تحاول اللغة اختلاقها؟.
يمكن لنا صياغة السؤال بطريقة أخرى فنقول: هل تنتج اللغة ذات المبدع، أم أن ذاته تتمتع بوجود قَبْلي خارج اللغة، التي تنحصر مهمتها عندئذ في تصوير الذات، أو استنساخها على نحو تمثيلي (representation) من الدرجة الثانية؟.
تقتضي صيغة السؤال السابق ـ بشقيه ـ إجابة تعرضت لها الفلسفة، وفق رؤيتين:
1ـ الرؤية الأولى تقول بأن اللغة تنشئ الكينونة، وتسبقها، وأن لا كينونة خارج اللغة. وتلك هي رؤية الفلسفة الحديثة منذ هايدجر.
2ـ أما الرؤية الثانية فتقول إن اللغة كيان مادي خارجي تال للوجود، وتحاول أن تصوغه بما يمثل ذات المتكلم تمثيل محاكاة. وهذه هي رؤية الفلسفة الماهوية (Essentialism) من أرسطو إلى ديكارت.
وبذا فسوف يتبدى لنا سؤال النقد، متركزاً على فحص ما إذا كان هذا النص الشعري ينتج لنا قائله، سليم النفار، الشاعر الذي يغذ السير الآن نحو الستين؛ أم أن هذا النص هو الذي خلق ذات سليم الشاعر من العدم، وأوجدها كما هي متجلية أمامنا في الكلمات؟.
يمكن لنا إعادة صياغة التساؤل بالصورة الآتية: هل كان سليم متحققاً ـ كشاعر مداح ـ قبل هذا النص، أم أننا بتنا هنا أمام لحظة تحول فريدة، تبحث فيها القصيدة عن شاعرها وتنشئه؟.
هل القصيدة هنا هي لحظةٌ ماهويةٌ، تحقق المرور من التجربة إلى اللغة، أم أن اللغة هنا هي التي تقول، دون سابق تجربة، وبذا فهي لغة هايدجرية تخلق التجربة وتسبقها؟.
دعونا نقرأ احتمالات القصيدة، في الحالتين:
ثانياً/2: الحالة الأولى: سليم ينتقل من كراهية حمد إلى حبه ثم يتراجع:
عندما نتأمل القصيدة، خصوصاً في خاتمتها التي تقول: “أنتم هنا حمد/ على حمد، تسبح باسمه الدار”؛ يتبادر إلى ذهننا سؤال فوري يقول: هل أحس الشاعر سليم النفار بكل هذا الفيض من الحب والامتنان للأمير حمد بن ثاني، فانبثقت اللغة على لسانه ـ من وجدانه ـ لتحول هذا الحب الكبير إلى قصيدة، هي التي نقرؤها الآن؟.
إذا كان ذلك كذلك، فإن تجربة الحب السامي (المجرد عن النوال) كانت قد اجتاحت كيان سليم النفار، فطار إلى قطر ليعبر عن هذه التجربة!. أو أن سليم النفار كان قد سافر إلى قطر للاستجمام من هواء غزة الوخيم ولم يكن يدري أن صور أمير قطر ستواجهه في كل مكان بالدوحة ـ بدءاً من قاعة المطار إلى صالون الفندق ـ فأقنع نفسه بأنه يحب هذا الرجل، لكي تطيعه على قول القصيدة.
وطبعاً، في مثل هذه الحالة، فإن الصور وحدها ليست هي من فعل بسليم النفار هذه الأفاعيل ـ فنحن نعرف أنه شاعر كبير السن ولا تنقصه التجربة، ثم إن خمسين سنة ليست بالشيء القليل ـ بل سياساته، بصفته حاكم دولة عربية حرة، تسير على خطى ناصر، ولا تتحالف مع أمريكا ضد عروبتها. ولو فعلت، لكان بإمكانها أن تضرب العراق ـ الذي كان سليم قد زاره مادحاً أيام صدام ـ في مقتل!.
وبما أن واقع الحال يقول عكس ذلك تماماً، فلا شك أن شيئاً آخر هو ما وقف وراء إعجاب المادح بالممدوح، وهذا الشيء الآخر لا يمكن أن يكون توافق سليم النفار ـ الشاعر العضو في جبهة النضال الشعبي ـ مع سياسات الأمير القطري. ونحن من جهتنا لا يمكن لنا أن نتصور شيئاً آخر غير الرغبة في النوال!.
يمكن لنا تصور كيف قرر سليم أن يغزو قطر، وينال مالها من أميرها، وأداته في ذلك القوافي… ربما ذهب إلى الفندق الفخم وجلس يتقلب في فراشه، وخلال ذلك طلب العديد من المطبوعات السياحية عن قطر وأميرها، وأخذ يتأملها طوال الليل، مقنعاً نفسه بأن كل هذا الذي تقوله المطبوعات قد حدث بالفعل.. وبعد لأي، وجهاد نفس مرير، اكتشف سليم أنه صار يحب حمد بن ثاني أمير قطر، العروبي الناصري الذي تخلو بلاده من القواعد التي ضربت العراق!. فنهض فزعاً وفقع القصيدة وكتبها فوراً، خشية أن ينام فينساها. وهنا فقط أصبح بإمكانه أن ينام مطمئناً إلى انبثاق صباح جديد، ينقله من الفقر إلى الغنى.
لكن ما حدث بعد ذلك، يطرح الآن علينا سؤالاً كبيراً: هل عاد سليم عن هذا الحب المجاني، خصوصاً وأن الأمير القطري لم يلتفت إليه، بل ربما لم يسمع بقصيدته؟. أعتقد أنه فعل ذلك بالفعل، بدليل أنه لم ينشر قصيدته في أي موقع أو مجلة أو صحيفة، حتى عثرنا على بعضها الذي نشرناه بهدف التحليل. أي أن سليما هو الآن خجل من قصيدته، ويرجو من الله ألا يكتشفها أحد.
ثانياً/3: الحالة الثانية: اللغة هي التي قالت، والذات جاءت تالية لها:
وهذه الحالة تشبه حالة الإله في سفر التكوين، حيث يخلق الإله اليهودي الشيء، ثم يكتشف أنه جميل، فيوافق على بقائه قائلاً: ليكن نهار، أو ليكن ليل…
وفي هذه الحالة فإن اللغة هي التي تقول، دون تجربة تستدعيها. يمكن ملاحظة أننا في هذه الحالة سوف نرى ذات سليم النفار غائبة تماماً، لأنها ليست أكثر من لغة، تنطق هذراً لا تفطن إلى معناه: أي أن هذه الذات، السليمية النفارية، هي كائن لغوي بامتياز، ولا وجود لها خارج الأصوات، أي لا تحقق لها قَبْلياً، ولا إرادة لها متوجهة إلى فعل شيء.
اللغة في هذه الحالة لا تحيل إلى خارجها، وسليم على هذا كان مجرد بوق يردد الشعارات، التي كان يسمعها من حوله في الدوحة، وليس له من القصيدة إلا النظم، ومحاولة ضبط الأوزان والقوافي، ضمن إيقاع تفعيلي يستجيب ـ شكلاً ومضموناً ـ لشروط القصيدة الخليلية. لا جرم، فسليم مدرك بحسه البدائي أن قصيدة النثر، بطبعها، لا تستجيب لأغراض المدح. ولكم حاول سليم أن يقدم نفسه قبل ذلك كشاعر قصيدة نثر، فلم يفلح!.
ثانياً/4: ماذا يقول الوزن في قصيدة المديح؟:
وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى فحص فيما إذا كان سليم قد نجح في ضبط وزن قصيدته؟.
القصيدة، مثل أغلب قصائد الشبان المستجدين، تعاني من هيمنة بحر الكامل عليها، بتفعيلته الثلاثية السهلة: متفاعلن (ب ب ـ ب ـ). ومعلوم أن بحر الكامل قريب الشبه ببحر الرجز، الذي يسمونه حمار الشعراء.
تحاول القصيدة الانتظام وفق تفعيلة الكامل، كما تحاول ضبط القافية، بما يتيح لها أن تقعقع بإيقاع مدائحي عالي الصوت، يخالف كل أصول الشعرية الحديثة. ونلاحظ في الآتي:
1ـ الوزن غير منضبط، حيث تعاني العديد من الأسطر الشعرية من انكسار قبيح في الوزن، من مثل قوله: “من ذا يحرره من عتمة التفكير، كي يأتي بساعده النهار”. فإذا ما قطعنا السطر سنراه على الصورة الآتية: (ـ ـ ب ـ/ ب ب ـ/ ـ ـ ب ـ/ ـ ـ ب ـ/ ـ ـ ب ـ/ ب ب ـ ب ـ). فأنت تلاحظ أن التفعيلة الثانية فعلن (ب ب ـ) أي أنها ناقصة، مما يتسبب في كسر الوزن. ولعل الشاعر ظن أنه يستطيع أن يقترض إحدى تفعيلتي البحر البسيط، ليمزجها بالبحر الكامل. وقل مثل ذلك في السطر الذي يقول: “من ذا سوى عرب، ما في نسغهم عز وإكبار” حيث يصيب الخلل التفعيلة الثانية، فتأتي فاعلاتن (ب ب ـ ـ) من بحر الرمل، لتحل محل (متفاعلن)، التي كان على قصيدة سليم أن تنضبط وفقها.
2ـ القوافي تعاني كذلك من أخطاء فاحشة وخلل مقيت يكسر الوزن، إذ لا يعلم سليم أن القافية ليست مجرد حرف الروي، بل هي نظام متكامل، يحكم آخر ساكنين في البيت وأول حرف قبلهما. فنرى سليما هنا يحرص على تكرار حرف الراء تسبقه ألف ممدودة.
وهذه هي القوافي كما وردت في القصيدة: (النار، انفجار، المسار، النهار، انتصار، إكبار، الثمار، يضار، الدار). حيث تأتي القافية واقعة مرة في التفعيلة الأخيرة، ثم تأتي في مرة أخرى مجزأة بين التفعيلة والترفيل الزائد عليها. وهذا من أشنع الأخطاء العروضية، كما يعرف ذلك المتخصصون. ونكتفي هنا بالمثالين الآتيين:
1ـ في تفعيلة (النار) تأتي التفعيلة كلها تقريباً في الزوائد، التي يسميها العروضيون ترفيلاً، فهي غير مرتبطة بالتفعيلة إلا من خلال حرف سابق فحسب. وطبعاً كان من الممكن لهذا أن يكون مقبولاً، بشرط أن يلتزم الشاعر بنفس الطريقة طوال القصيدة. فلنر كيف يخل بهذا الشرط، في النموذج التالي.
2ـ أما كلمة (انفجار) فتأتي كلها ضمن آخر تفعيلة، دون أن يلتزم الشاعر بالترفيل، الذي اشترطه على نفسه في السطر السابق.
بإمكانك أن تقول بأن كل هذه الأخطاء تتردد في جميع قوافي القصيدة، بما يشي بأن سليم النفار لم يدرس علم العروض، قبل أن يكتب القصيدة الموزونة.
إنه يكتب من سليقة خاطئة أوهنتها ذاكرة حسيرة.
ثالثا: في تحليل المضمون:
يقول سليم بأن رأسه “تدك حدوده النار” لذا فهو “من كل ناحية يباغته انفجار”. ثم يتساءل عن ماهية هذا الذي يحاصره بالأسئلة، فيتسبب في اختلال المسار. ثم يردف هذا التساؤل الاستنكاري بتساؤل يحمل طابع الرجاء المتحنن، حين يقول: “من ذا يحرره من عتمة التفكير، كي يأتي بساعده النهار”!.
ورغم أن استخدام عبارة (يأتي بساعده النهار) المقصود منها: (ينتزع بساعده النهار)، كما يوحي بذلك جو النص، إلا أننا سنتعامى هنا عن هذا الخطأ البياني الفاحش من سليم النفار، لنسأله سؤالاً أهم: كيف أمكنك أن تصل ما حقه الفصل في هاتين العبارتين؟. كيف أمكنك أن تجمع في سياق واحد بين الاستنكار والرجاء، وهما معنيان لا يتصلان أبداً؟. ثم كيف أمكنك أن تصل ذلك بتساؤل غريب هو: “من ذا على عجل، يعيد الدرب من موت، فيلحقه انتصار؟”. وهل الانتصار يلحق بالناس ويرجوهم أن يلتقطوه، أم ينتزعه العظماء انتزاعاً؟.
لكن الداهية الدهياء، سوف تأتي المتلقي من بعد، وتحديداً حين يكتشف أن كل هذه التساؤلات والتحننات سوف تنتهي بهذه الإجابة المصوغة على شكل سؤال: “من ذا سوى عرب، ما في نسغهم عز وإكبار!” وطبعا كان المقصود ـ سليمياً ـ القول: من ينتزع الانتصار سوى العرب، الذين ينزون (نسغهم) عزاً وإكباراً. لكن اللغة أتت بعكس المطلوب، حين قذفت بـ(ما) النافية قبل كل ذلك: “ما في نسغهم عز وإكبار”.
فيا للهول؟. كيف أمكن للحمق أن يبلغ هذا المدى!.
ولكي يتبين مدى حمق اللغة، في التعبير عن المقصود بضده، بطريقة تمحو كل ما قالته من قبل، يجدر بنا أن نعيد نثر الأسطر الشعرية على الشكل التالي:
(رأسي تدك حدوده النار. إذ يباغته الانفجار من جميع النواحي، فأتساءل: من هو هذا الذي يحاصر رأسي، فيتسبب له باختلال مساره الموعود؟. ومن هو الذي يجدر به أن يحرر رأسي من نعمة التفكير، لينتزع النهار ـ كأن التفكير مانع النهار من القدوم ـ ثم من هو الذي ينبغي أن يتعجل الأمور، ليعيد الدرب الضائع إلى أهله، بعد أن مات، ليهرول الانتصار راجياً أن نتقبله؟. من يستطيع فعل ذلك، إلا العرب، الذين ـ كما يقول ـ لا عز لهم ولا إكبار؟.).
أما النهاية فتأتي باهتة وعكس ما ذهبت إليه المقدمة: فقد سبق للمقدمة أن ادعت أن العرب لا عز لهم ولا إكبار. ثم ها هي النتيجة تأتي عكس مقدمتها، لتقول لأحد قادة الأمة، التي لا عز لها ولا إكبار: (يا قائد الآمال، في دوح علت فيه الثمار. إنا عليكم نبتني أملا، فكم لتميم عز لا يضار. أنتم هنا حمد.. على حمد، تسبح باسمه الدار).
ولا أعرف كيف أمكن الجمع بين رابطين متناقضين في تعبير واحد: فهو يقول: على حمد تسبح الدار، وباسم حمد تسبح الدار. باسم حمد تعبير مقبول، أما على حمد تسبح الدار!. فأظن هذا دعاءً على حمد، في موطن أريد له أن يكون دعاءً له!.
ربما لهذا يا سليم لم يلتفت حمد إلى قصيدتك.
أما عدم نشرك لها ـ وكأنها قصيدة سرية ـ فأسبابه متعددة، وتحتاج إلى بحث آخر، في مرة قادمة إن شاء الله.