وقفة تفكّر في آية كريمة من آيات الصّيام
محمد موسى العويسات | القدس – فلسطين
قال عليه الصّلاة والسّلام ” إنّ الدّعاء هو العبادة”، وقيل: الدّعاء مخّ العبادة، رواه الترمذيّ وضعّفه العلماء، وهو في المعنى صحيح، فالدّعاء أساس العبادة، بل إنّ المعنى اللغويّ للصّلاة هو الدّعاء، ثمّ أعطي اللّفظ المعنى الشّرعيّ المعروف، فغلب على المعنى اللّغويّ في استخدام النّاس. فلماذا هو مخّ العبادة وأساسها؟ فلأنّه يعني أمرين، هما: الإقرار بالضّعف والاحتياج والنّقص والعجز أي أنّه مخلوق، والثّاني: الإقرار بأنّ هناك إلها ربّا خالقا مدبّرا قادرا، تصمد إليه في كلّ شيء، فهو الصّمد، والصمد صفة لله عزّ وجلّ لا تطلق على مخلوق، وهي في اللّغة القوّة التي تلجأ إليها في كلّ شأن متيقّنا بأنها تقضي حاجتك على الوجه الذي لا نقص فيه. وهذه مرتبطة بالدّعاء. قال تعالى: ” وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” غافر60. هذا نصّ صريح على أنّ الدّعاء عبادة، فبعد أن أمر الله تعالى بالدّعاء وصف من لا يدعوه بأنّه مستكبر عن عبادته.
وفي ثنايا آيات الصّيام في سورة البقرة يقول الله تعالى مخاطبا رسوله الكريم: “وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيبُ دعوةَ الدّاعِ إذا دعانِ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يَرْشدون” (186) في هذه الآية لفتات جميلة لا بدّ من الوقوف عندها:
أولا: ورودها ضمن الآيات التي تتحدّث عن الصّيام فيه إشارة إلى أنّ رمضان من الأزمان الشّريفة التي يستجاب فيها الدّعاء، وفيها إشارة إلى أنّ الدعاء لا بدّ أن يسبقه أو يصحبه طاعة من صلاة وصيام وحجّ وصدقة وذكر وصلاة على النّبيّ وغير ذلك ممّا هو مفروض أو ممّا هو من القربات النّافلة، ألا ترى إلى قوله تعالى: “إيّاك نعبد وإيّاك نستعين”، فقدّم العبادة على الاستعانة.
ثانيا: تشير الآية إلى أنّ الدّعاء عبادة وذلك من قوله تعالى (عبادي)، وقوله عزّ وجلّ (فليستجيبوا لي) والّتي تحتمل معنيين: الاستجابة للأوامر والنّواهي عمومًا وهذه هي العبوديّة، والاستجابة لأمره تعالى إيّانا بالدّعاء وهذا عبادة أيضا، أمّا تقديمه للاستجابة على الإيمان ( فليستجيبوا… وليؤمنوا) فالإيمان هنا وإن حُمل على عموم الإيمان إلا أنّ له خصوصيّة في هذا الموقع وهو الإيمان بأنّ الله قريب يجيب دعوة الدّاعي، وهذا التّيقّن من الإجابة هو من دواعي القبول وإجابة الدّعاء، وهذه الخصوصيّة أفادها تقديم الاستجابة، وقد يكون هذا من باب عطف الخاصّ على العامّ فالاستجابة تشمل الإيمان والعمل الصّالح، فالإيمان جزء من الاستجابة، وقد يتّخذ هذا دليلا على أنّ حرف العطف الواو لا يفيد ترتيبا، من مثل قوله تعالى: “إنّي متوفّيك ورافعك إليّ “، فعيسى عليه السلام رفع أولا، هذا إن لم يكن هناك تأويل لـ ( متوفّيك)،
ثالثا: لم يقل الله عزّ وجلّ ( فقل) والتي اقترنت في آيات البقرة وغيرها بـ(يسألونك) من مثل قوله تعالى: “يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير”، ” يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت…” وفي غير سورة البقرة: ” يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله وللرّسول”، والسّرّ والله أعلم في هذا أنّ الموضع موضع دعاء واستجابة ويحتاج إلى جوّ من القرب والسّرعة، ولا يحتاج إلى مهلة توحيها كلمة (فقل)، وفي هذا إشارة من طرف ما إلى أنّه لا واسطة بين العبد وربّه، ومن مواضع الحذف التي اقتضاها القرب أي قرب الاستجابة حذف ياء (الدّاع) وهو اسم منقوص لا تحذف ياؤه في حالة الجرّ هذه والرّفع أيضًا إلا إذا نكّر، وهو هنا معرفة فلا تحذف إلا لمعنى بلاغيّ، ومنها حذف ياء المتكلّم من الفعل (دعان) وهي في محلّ نصب مفعول به، وهي ضمير يعود على لفظ الجلالة.
رابعًا: ورود كلمات: سأل، قريب، أجيب، دعوة، داع، دعان، يستجيب، أضفى على الآية جوّا من القرب والتّواصل، وهذا تماما مثل حرف السّين في سورة النّاس الذي أضفى جوّا من الوسوسة.
خامسًا: قال تعالى: ” إذا دعان” ولم تكتف الآية بقوله: ” دعوة الدّاع “، من باب الاحتراس كي لا يتوهّم أحد أنّ دعاء غير الله يستوجب الاستجابة، أي لينفي كلّ دعاء فيه شرك أو توسّل بمخلوق، فجواب هذا الشّرط محذوف دلّ عليه قوله: “أجيب دعوة الداع”، أي إذا دعاني أجيب دعوته.
سادسا: الفعل استجاب، أفاد بهذه الزّيادة الشّدّة والقصد في الإجابة، فهي بمعنى أجاب مع زيادة في الاهتمام والتّلبية والانصراف إلى الطّاعة بالكليّة، وهي هنا ليست استجابة لأمره بدعائه عزّ وجلّ فقط، بل تعمّ الاستجابة في كلّ ما أمر ونهى، ذلك لتتجلّى العبوديّة في تمامها وكمالها. وقد وقعت هنا المشاكلة اللّغويّة في أجمل صورها، بين قوله تعالى: (أُجيبُ) (فليستجيبوا).
سابعا: قوله تعالى: ” لعلّهم يَرْشدون” أي ليرشدوا فـ ( لعلّ) هنا لا تفيد التّرجّي والتّوقّع بل هي بمقام لام التّعليل أو كي، فمن استجاب وآمن ودعا الله رشد، وقال عزّ من قائل: “يرشدون” ولم يقل يهتدون ليشمل الرّشد الأمور الدّنيويّة والأخرويّة، وهذا ما نصّ عليه العلماء في المصدر (رُشد) بضمّ الرّاء. والله عزّ وجلّ أعلى وأعلم.