فيصل الحسيني.. الميت الحي وأصغر مقدسي بين المقدسيين الأصلاء
محمد زحايكة | جبل المكبر – القدس – فلسطين
المشهد الأول الذي شاهد فيه الصاحب فيصل الحسيني كان بداية ثمانينيات القرن العشرين عندما أطل الصاحب على الراحل أبو العبد ومعه على ما يظن إسحاق البديري أبو أحمد وهما يزيلان الطمم والأوساخ والأتربة المتراكمة بأيديهما في المقر الأول لجمعية الدراسات العربية في أحد منعطفات حي المصرارة المقدسي العربي.. وقد انطبعت هذه الصورة في ذهن الصاحب إلى يوم الناس هذا .. صحيح أن الفيصل وقتها كان ما زال غير معروف جماهيريا وفي بدايات صعوده السياسي إلا تن هذا المشهد، أوحى للصاحب، أننا أمام شخصية قيادية جماهيرية واعدة ، وهو ما حصل بعد بضع سنين وخاصة في الانتفاضة الأولى عام 1987 التي كانت الفرن الذي صهر شخصية فيصل الحسيني ورمى بها إلى اتون المعارك والمواجهات والى الصفوف الأمامية بكل قوة واقتدار .
وما إن أصبح الصاحب مراسلا لمحطة تلفزيون دولة الإمارات العربية المتحدة الأرضية في أبو ظبي قبل زمن الفضائيات وأيام مسؤوليها في لندن، يسار درة ونزيه حجازي وفي أبوظبي نفسها الصديق والزميل أسامة قطينة محرر الأخبار المسؤول وأيام شيخ العرب عن جد الشيخ زايد – رحمه الله -، حتى كانت أول مقابلة تلفزيونية مع الفيصل أشهر معدودة قبل اندلاع الانتفاضة الأولى وفي سياق هذه المقابلة المطولة يستشف العارفون ببواطن الأمور ، إشارات قوية تضمنتها المقابلة تقرر أن الشعب الفلسطيني في داخل الأرض المحتلة يجب أن ياخد زمام المبادرة بين يديه وكأنه يلمح الى ضرورة الهبة الشعبية أو الحراك الشعبي والذي تجلى أخيرا في الانتفاضة العظمى نفسها .
وواكب الصاحب كتفا بكتف صعود الفيصل وتطور ملامح شخصيته القيادية، كون الصاحب كان في الخندق الإعلامي الأول وعلى مرمى حجر من بيت الشرق الذي تحول إلى محج وقبلة لكافة الفلسطينيين ورجال الاعلام والصحافة والدبلوماسية والشخصيات السياسية العالمية الرفيعة. فكان الصاحب أيام مجده وصعود نجمه في الانتفاضة الأولى، يقود عشرات اطقم التلفزة ووكالات الأنباء والصحف والمجلات الأجنبية إلى عرين الفيصل وساحات بيت الشرق لإجراء العديد من المقابلات معه أو مع بعض زملائه من ممثلي الاطر والفصائل الوطنية عندما يكون في المعتقل الإسرائيلي أو لتغطية الفعاليات التي كانت في تصاعد بهمة الفيصل ورجاله الاوفياء .
وبعينيه، التي سوف يأكلهما الدود، شاهد الصاحب الفيصل ومعه الحاج عبد أبو دياب وقد أدمعت أعينهما إلى حد البكاء بسبب قنابل الغاز المسيل للدموع التي القاها افراد الشرطة وحرس الحدود عليهما وهما يحتجان على استيلاء المستوطنين على بناية مار يوحنا في سوق الدباغة شارع افتيموس بالبلدة القديمة وما زال الصاحب يحتفظ بهذه الصورة التي يظهر فيها معهما.
فالراحل الفيصل كان دائما في الصفوف الأمامية، يندفع بجسده العاري للدفاع عن المقدسيين وممتلكاتهم والمقدسات الإسلامية والمسيحية ولم يكن يعتصم في المكاتب الفخمة على هبات الهواء المنعش للمكيفات؟ هذا هو الفيصل وهكذا كان..
فقد مارس القيادة بمعناها الشعبي والنضالي في الميدان إلى جانب العمل الدبلوماسي لشرح عدالة القضية للمؤثرين في هذا العالم .
وهناك اليوم، من يتمسحون بالفيصل وهم من الذين لم يرجموا الاحتلال ولو بكلمة، فيما كان الصاحب وهو على علاقة وثيقة مع الفيصل يتحاشى انتهاز هذه الفرصة لمنافعه الشخصية كما كان يفعل الكثيرون، فيطالبون اما بالدريهمات أو السفرات أو الامتيازات دون وجه حق. فالصاحب كان مثلا أول من استضاف الفيصل في لقاءات خاصة في مؤسسة انتر نيوز وكنا نقول عنها من باب السخرية والمزاح “انتر تيوس” حيث أبلغ الصاحب الصديق ناصر قوس كبير رجال أمن بيت الشرق الذي حضر مع أبو العبد لهذا اللقاء الصحفي المميز الذي حضره ثلة من المع الصحفيين الفلسطينيين.
وأذكر يومها أن أبو أحمد الهرش من عرب الجهالين كان متواجدا في اللقاء، فسأله الفيصل عن حاله وأحواله، فقال إنه يعمل مع الصاحب.. فاجابه الفيصل مازحا.. ” نيالك.. معناته سوف يصلك دعم الصاحب في31 شباط.؟
والمشكلة إن صاحبنا الهرش قد صدق هذه المزحة الفيصلية، واستلم الصاحب استلاما عسكريا ، مطالبا إياه، بحصته من الدعم المعلوم؟
والحقيقة أن الصاحب كان وما زال كما نقول في العامية “حيله كبير ” ،. بمعنى أنه شايف حاله.. فالصاحب يعتبر حاله من جماعة يا أرض اشتدي.. ما عليكي حدا قدي.. ومن ذاك أن الصاحب وبينما كان خارجا من مكتبه في عمارة النزهة الجديدة نواحي الأميركان كولوني حتى تقدم منه أحد مرافقي الفيصل على مدخل العمارة وطلب منه أن يرافقهم في سيارة أبو العبد في مشوار إلى منطقة الشمال في الجليل الأعلى .
وعندما التفت الصاحب إلى سيارة الجيب المتوقفة شاهد أبو العبد وآخرين فيها، ولكن الصاحب اعتذر عن مرافقتهم بسبب أنه غير مهيأ لهذا المشوار البعيد والمتأخر وكان الوقت في فترة ما بعد العصر وحتى لا يقال أن الصاحب في جيبة أحد، حتى ولو كان هذا الأحد هو الفيصل العظيم ، فالصاحب ساحب؟
ذكريات الصاحب مع الراحل فيصل الحسيني، ذكريات عديدة وحميدة يصعب حصرها في ومضة سريعة لا تسمن ولا تغني من جوع.. فالفيصل مهما كتبنا عنه.. نبقى مقصرين بحقه ، لأنه خرج من عباءة الشعب وعاش للشعب.. فقد كان مثل الراحل الياسر الكاسر.. يؤمن بمقولة.. لا يستحق الحياة من عاش لنفسه فقط.. وقد وصفه الصاحب بعد وفاته مباشرة.. بأنه الميت الحي لأن ذكراه ومواقفه النضالية والوطنية والإنسانية لن تمحى على مر الزمن .. إضافة إلى تواضعه الجم في التعامل مع الصغير قبل الكبير ، كما كان الصاحب يصادفه مرات وخاصة في مطعم كويك لانش لصاحبه موسى شاكر ووالدته الرائعة آية واصف جوهرية حيث ينحشر الفيصل بين مرافقيه في إحدى زوايا المطعم الشعبي المتواضع حيث يتناول طعامه كأي إنسان عادي ولا يستخدم هيبة المسؤول وأبهته وسلطانه وهيلمانه إطلاقا فهو كان يردد ، أنا كأصغر مقدسي موجود في القدس .
احب الفيصل مدينة القدس وعشق كل حجر من حجارتها.. وكما قال لي مصوره ومرافقه الخاص إسحاق خضير القواسمي ابو رامي ، ان الفيصل كثيرا ما كان يتوقف فجأة ويضع مرفقه ورأسه على حجر من حجارة القدس ويطلق تنهيدات حرى .. وعندما استفسر منه القواسمي.. قائلا.. هل انت بعافية يا فيصل.. فاجابه.. انا بخير ولكنني اريد ان اتنسم أنفاس القدس ، هذه المدينة التي تسحر الالباب..؟؟
فيصل الحسيني.. قائد نزيه .. وهب حياته للقدس وفلسطين.. واعتمد مقولة..” امشي عدل .. يحتار عدوك فيك “..
في الذكرى العشرين لرحيل الفيصل.. لا بد من استحضار نهجه القويم والسير عليه ، وكما كتب الصاحب لجريدة القدس في لقاء مع المهندسة اللامعة سهاد قرش سعدي.. هل من فيصل جديد يسير على نهجه ويعيد للقدس شيء من القها ووهجها ومرجعيتها الحازمة.. وهل من يستأنف إعادة أحياء مشاريعه الحيوية التي تعطلت بسبب رحيلة المفاجئ والأليم .. مثل ترميم وأحياء مؤسسات جديدة في قلب القدس العتيقة مثل البيت المغربي وسوق القطانين والبازار وفندقي امبريال والبتراء .. فمن لهذه المهمة العظيمة .. يا إله الامم..؟؟
لتبقى ذكرى الفيصل خالدة في النفوس الى الابد والى دهر الداهرين.. أمين