العطاء اللامحدود

مرفت عبد العزيز العريمي | مسقط

إن أمعنت النظر في السنن الكونية وما على الأرض من كائنات حية أو جماد لرأيت أن كل شيء يسير وفق نظام واحد متوازن فعلى سبيل المثال دورة الحياة في الطبيعة، تعلمنا القيم والعيش بتحضر في هذه المنطومة وأداء الأدوار التي خلقنا من أجلها، فاذا اقتربت من الأرض تجدها تعطي أجود الثمر عندما يعطيها الفلاح الرعاية والماء والبذر وإن توقف عن ذلك بارت أرضه .. كذلك الأشجار والمساحات الخضراء تمنحك الراحة والسكون والهواء النقي إن كانت نسبتها كافية ومتوازنة الكافية مع الكثافة السكانية في المدن والقرى.

يصبح الإنسان عالما إن علَّم الآخرين ويظل جاهلا إن منع علمه عن غيره.. المسألة بسيطة ولا تخرج عن مفردتين عميقتين المعنى وهما العطاء والأخذ، أو الأخذ والعطاء.

ففلسفة العطاء والأخذ إن نظرنا إليها بنظرة سطحية لن تكون سوى عادات اعتدنا القيام بها منذ الصغر كسلوك نما داخلنا لكنها أعمق من ذلك فالعطاء والأخذ الطريق إلى بناء شخصية متوازنة تتحلى بسمات أخلاقية راقية، قادرة على عطاء بلا حدود وتنمية المجتمع المحيط، العطاء هو السبيل الى السعادة .

العطاء والأخذ كمفهومين يظهران جليا في الطبيعة من حولنا فكلما اهتممنا بالبيئة المحيطة من ماء وهواء وحيوان ونبات ووليناها رعايتنا جادت بخيراتها والعكس صحيح، فالتلوث البيئي ما كان لولا الإسراف في الأخذ مقابل لا عطاء حتى أصبحنا نبحث عن حلول لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري وتبعاته على الرغم من أن رعاية الطبيعة هو جل ما نحتاجه.

هناك عطاء يتم بأداء واجبات معينة يكون مقابل أخذ مادي كالموظف أو العامل الذي يقوم بواجبات نظير أجر وهنا يختلف مقدار العطاء ومفهومها من فرد إلى آخر وفقا للمفاهيم التي ترسخت في ذهنه ونشأ عليها، فالناجحون والعظماء هم من كان عطاؤهم من أجل هدف أسمى وهي النهوض بنفسه ومجتمعه.

العطاء شكر على ما أخذناه وأينما وجد العطاء يكون الأخذ، وفقا للسنن الكونية فإن الأخذ والعطاء الإسان طاقة وصحة يستطيع بها أن يعمر الكون ويطوره وكما يقول علماء الطاقة. إن الأخذ والعطاء متلازمان فلكي تأخذ يجب أن تعطي ولكي تعطي يجب أن تأخذ حتى يكتمل دوران الطاقة وبالتالي التوازن بين العمليتين مطلوب، فالعطاء ليس مقصورا على الميسورين للمعسورين فكل ما نقوم به من سلوكيات تشتمل على عنصري الأخذ والعطاء وكل ما يحدث في الكون يترجم ثنائية العطاء والأخذ.

العطاء يظهر النزعة الطيبة في الإنسان ويقلص من الأنا والأنانية، فعندما نعطي بسخاء دون أن ننتظر المقابل يتسع أفقنا وتتغير نظرتنا إلى الحياة فننظر إليها من موقعأابعد من موقع القدم ونرتقي إلى فضاءات رحبة، فالعطاء يفتح أمامك أبواب الرزق فترزق من حيث لا تحتسب، من أرقى العطاءات عطاء الوالدين للأبناء من حب وحنان دون أن ينتظران منهم المقابل..عطاء العلماء الذين عملوا في صمت لأعوام كي يثروا البشرية بمكتشافاتهم غير عابئين بما ينتظرهم من بريق الشهرة.

العطاء من القيم اللإنسانية السامية التي يجب أن نتشربها مبكرا ومنذ نعومة أظفارنا وقبل أن يصلب عودنا، فالعطاء حس يجعل الإنسان مرهفا بما يحدث حوله قادرا على العطاء والتفاني والإيثار من أجل المصلحة العليا، وتعليم العطاء في جو من الحب والسعادة يغرس في الأبناء فن التعامل مع الآخرين ويعزز من روح الجماعة والتعامل الراقي مع المجتمع والطبيعة من حولنا، لذا فإن تربية الأبناء في المنزل والمدرسة والجامعة على فن العطاء يعد مطلبا حتى نربي فيهم قيم انسانية ومثل عليا سيترجموها على شكل سلوك وممارسات في البيت مع أسرهم.. في العمل مع زملاءهم.. في المجتمع مع أقرانهم .. في البيئة ومع الطبيعة، ففن العطاء ليس رفاهية ولا يعد ضربا من ضروب الخيال ونحن في أمس الحاجة إلى تحويلها الى واقع عملي يطبق حتى ندفع بعجلة تطوير المجتمع.

للعطاء فرحة وللأخذ لذة؛ الأولى روحية والثانية حسية محدوة الأثر في النفس البشرية يقول برنادشو “إن المتعة الحقيقية في الحياة تتأتى بأن تصهر قوتك الذاتية في خدمة الآخرين بدلا من أن تتحول إلى كيان أناني يجأر بالشكوى من أن العالم لا يكرس نفسه لإسعادهم ” فهناك من البشر أحب نشوة الأخذ لأنه اعتاد عليها فنسى أن الأخذ دون عطاء يُميل الكفة إلى جهة دون الآخرى فتختل الموازين من حولنا.

العطاء عادة يفقهه العظماء من أصحاب القيم العالية الذين لا يبحثون عن مقابل لعطاءهم بل يلبون النداء لكل من احتاج إلى ذلك بروح طيبة قانعة، من سمات المعطائين الكرام والحلم والتواضع والسمو والأفق الواسع فالحياة عندهم ليست أبيض أو أسود إنما مزيج متجانس متوافق ومضاد من الألوان التي ترسم لوحة جميلة لمجتمع إنساني متحضر آثر أبناؤه العطاء الجميل على الأخذ المشبع هنا تتجلى العطاءات بلا حدود لتكون منظومة مجتمعية مترابطة الحلقات.

فالأخذ بمقدار العطاء والعطاء بمقدار الأخذ. وإن اختل توازنهما ظهرت الفراغات .. وإن تحليت بخلق العطاء ستتمكن حينها من أن تعفو وتسامح. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى